عندما اندلعت الحرب بين حركة حماس وإسرائيل، في السابع من أكتوبر 2023، كانت إسرائيل تمر بوضع متناقض؛ فالمجتمع والنظام السياسي يمر بأزمة انقسام عميقة، حيث شهدت الفترة من ديسمبر 2018 حتى نوفمبر 2022، عقد أربعة انتخابات عامة متتالية، لم تؤد نتائجها إلى تمكن أي من الأحزاب التي حصلت على أكثرية الأصوات من تشكيل ائتلاف يتمتع بثقة 61 نائبًا في الكنيست على الأقل، وإن تخللت الفترة نفسها إقامة حكومتين، إحداهما تمتعت بهذه الأغلبية، والأخرى دعمتها بعض أحزاب القوائم العربية (عادة لا تشارك في الائتلافات) من خارج الائتلاف.
لم تصمد هاتان الحكومتان سوى ثمانية عشر شهرًا، واضطرت بعدها إسرائيل للذهاب إلى انتخابات خامسة، أسفرت عن نتائج مكنت بنيامين نتنياهو من إقامة ائتلاف من الليكود وأربعة أحزاب دينية بقوة 64 مقعدًا، لكن هذا الائتلاف اليميني الخالص، بدأ حكمه بخلق أزمة سياسية خطيرة بسبب تقديمه خطة لتحجيم السلطة القضائية. وتطورت الأزمة إلى اندلاع مظاهرات عنيفة استمرّت نحو ثمانية أشهر كاملة، وانضم إلى هذه المظاهرات، الرافضة لخطة ائتلاف نتنياهو لتعديل القوانين الحاكمة للسلطة القضائية، شخصيات بارزة من السياسيين ورجال الفكر والقانون والاقتصاد، كما أعلن عدد كبير من جنود وضباط الجيش أنهم لن يستجيبوا للاستدعاءات الرسمية للالتحاق بالخدمة.
في اتجاه مناقض لحقيقة الانقسام العميق في المجتمع ومؤسساته المختلفة، خطب نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أسبوعين فقط من شن حماس هجومها المفاجئ على إسرائيل، متباهيا بالقوة التي تتمتع بها بلاده على مختلف الأصعدة: ائتلاف حكومي قوي ومتجانس أيديولوجيا، اقتصاد كبير متطور ومزدهر، جيش وأجهزة استخبارات معترف بأنهما من أقوى وأذكي نظائرهما في العالم، نجاح إسرائيلي تاريخي في تهميش القضية الفلسطينية في الأجندة الإقليمية والدولية، مع اتجاه متصاعد من قبل الدول العربية للقبول بتطبيع العلاقات مع إسرائيل دون ربط ذلك بحل القضية الفلسطينية.
الأمر المؤكد أن هذا الوضع المتناقض بين ادعاء نتنياهو بأن بلاده في أشد لحظات قوتها ومناعتها، وبين شعور الرأي العام بأن الانقسامات من كل الأنواع التي تعيشها الدولة والمجتمع على حد سواء ستؤديان حتما لكارثة لا يمكن وصفها، قد لعب دورا كبيرا، ليس في قرار حماس باستغلال هذا الوضع لشن هجومها في هذا التوقيت، بل في تجسيد حجم الصدمة التي أصيبت بها أجهزة الدولة والجيش، ومن خلفها الرأي العام بأكمله، وهو ما توضحه الدراسة في قسمها الثاني، وحيث ترصد كيف انكشفت الأساطير جميعها مرة واحدة.
الاستخبارات فشلت في التعرف على نوايا حماس، ولم تقدر قوتها جيدا، ولم تتمكن من معرفة خريطة الأنفاق التي بنتها حماس أسفل القطاع على مدى ما يقرب من خمسة عشر عاما. أما الجيش فقد بدأ مهتزا لثلاثة أيام كاملة أمام مجموعة محدودة من مقاتلي حماس الذين تمكنوا من الدخول إلى عمق مدن جنوب إسرائيل، واحتلال عدد من القواعد العسكرية هناك، والعودة إلى القطاع بعدد كبير من الأسرى من المدنيين والعسكريين الإسرائيليين. كما عجز نتنياهو عن إنهاء الحرب في فترة قصيرة، والاعتراف بأن تحقيق أهداف عملية «السيوف الحديدية» تحتاج لفترة لن تقل عن عام كامل وربما أكثر.
انهيار أسطورة الدولة الأكثر أمنا ومناعة وقوة عسكرية كان واضحا للغاية في التناولات الإعلامية والبحثية الإسرائيلية للهجوم، وللحرب التي تلتها، والتي لا تزال مستمرة. ويعتقد معظم الإسرائيليين أن تأثير هذا الحدث سيستمر لأجيال قادمة حتى لو تمكنت إسرائيل من القضاء على حماس، وعلى التهديدات المستقبلية القادمة من غزة في نهاية المطاف. وتحاول الدراسة في قسمها الثالث والأخير محاولة التنبؤ بمسار الحرب ونهايتها، والقضايا التي ستخلقها بعد انتهائها. ففي إطار خطة البحث لفحص فترة أربعة أشهر من الحرب التي لا تزال جارية (7 أكتوبر 2023 - 7 فبراير 2024)، فإن عديدًا من التطورات «المعلقة»، التي لم يتم حسمها حتى نهاية الفترة التي تغطيها هذه الدراسة، سيكون لها دور حاسم في توقع سيناريوهات ما بعد الحرب، أولًا: ما يعرف باسم "ورقة باريس" التى لا يزال التفاوض بين حماس وإسرائيل مستمرا حولها، رغم العقبات العديدة التي تعترضها. ثانيا: تهديد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بشن عملية برية في رفح الفلسطينية، إذا ما فشلت المفاوضات. ثالثا: الأزمة السياسية الحالية في إسرائيل وتهديد بعض وزراء الحكومة بالانسحاب منها وإسقاطها في الكنيست.
إن محاولة التنبؤ بما سيحدث بعد نهاية الحرب تبدو صعبة للغاية، ليس فقط بسبب التطورات «المعلقة»، حال الوصول لنهايتها، التى ستلعب دورا كبيرا في تحديد مصير الحرب الدائرة، بل أيضًا بسبب أن الأوضاع التي ستسفر عنها الحرب من الناحية العسكرية ستحدد إلى حد كبير ميزان القوى الذي سيحكم مفاوضات ما بعد الحرب.
على سبيل المثال، هل ستنتهي الحرب بانتصار كامل لإسرائيل وإنهاء الوجود العسكري والسياسي لحماس في غزة كما يَعِد نتنياهو الإسرائيليين؟ أم ستنجح عملية التفاوض حول "ورقة باريس" في تأجيل اجتياح رفح، وتنفيذ المرحلة الأولى من الخطة الواردة فيها على الأقل؟ وهل توجد ضمانات حقيقية للمضي في المرحلتين التاليتين اللتين تنص عليهما الورقة إذا ما تم تطبيق المرحلة الأولى من الخطة؟ حتى بافتراض نجاح ورقة باريس في تخطي المراحل الثلاث، هل ستتمخض العملية عن ظهور دولة فلسطينية في نهاية المطاف؟ أم أن ذلك سيحتاج لفترة طويلة من التفاوض حول شكل وحدود وصلاحيات هذه الدولة قبل ظهورها للعلن والاعتراف بها دوليا؟
تبين كل هذه التساؤلات مدى صعوبة التنبؤ بما بعد حرب غزة. كما أن التعرض لكل هذه التساؤلات بالبحث يبدو مستحيلا في ظل الحجم المحدود من الصفحات التى تتيحها الدراسة. ورغم ذلك، يحاول الجزء الأخير من الدراسة الإجابة عن ثلاثة تساؤلات: كيف ومتي يمكن أن تنتهي هذه الحرب؟ ما السيناريوهات المحتملة المترتبة على احتمالات فوز أحد الطرفين بالحرب (وفق عناصر محددة لمعنى الانتصار والهزيمة عند الطرفين)، أو استمرار الحرب لأمد غير معروف؟ ما مصير حل الدولتين في إطار الإجابات المحتملة للسؤالين السابقين؟