تأتي الهجمات العسكرية التي استهدفت مدينة أصفهان الإيرانية صباح يوم 19 أبريل 2024، ضمن سلسلة هجمات التصعيد التي بدأتها تل أبيب باستهداف القنصلية الإيرانية في سوريا في بداية الشهر نفسه، والتي نجم عنها مقتل القائد في "الحرس الثوري" الإيراني في سوريا ولبنان، محمد رضا زاهدي، بالإضافة إلى عدد من القادة والضباط الإيرانيين، ليتبع ذلك ردًا إيرانيًا بعد إثنى عشر يوماً، هاجمت من خلاله إسرائيل بعدد من الصورايخ الباليستية والصواريخ الكروز، بالإضافة إلى عدد من المسيرات (170 طائرة مسيرة و30 صاروخ كروز وما لا يقل عن 110 صاروخ باليستي بحسب بعض التقديرات) من أراضيها بشكل مباشر دون أن يكون ذلك عبر وكلائها في المنطقة. ورغم كون هذا الهجوم محدود الأثر في فاعليته من الناحية العسكرية، إلا أنه شكّل سابقة في معادلة الصراع بين الجانبين كونه يمثل الهجوم الأول لإيران ضد إسرائيل منذ عام 1948.
تعكس هذه التطورات بدورها تحولاً في قواعد الاشتباك بين الجانبين ومسارات إدارة الصراع التي اعتمدها الجانبان على مدار العقود الماضية، وهو ما يثير بدوره التساؤل حول ما إذا كانت متتالية الهجمات التي يشهدها التصعيد بين الجانبين في الوقت الراهن وكان آخرها الهجمات العسكرية التي استهدفت مدينة أصفهان يمثل تمهيدًا لتثبيت قواعد الردع الجديدة أم أنه تصعيد من أجل حرب شاملة ومفتوحة بين الجانبين؟
معطيات التصعيد الراهن وفقًا لمعادلات الردع
عكست جولات التصعيد بين الجانبين على مدار الأيام الماضية جملة من المعطيات التي يمكن إجمالها على النحو التالي:
1- تغير قواعد الاشتباك: كشفت الضربات العسكرية المتلاحقة بين الجانبين خلال الأيام الماضية عن تغير واضح في قواعد الاشتباك التقليدية التي التزم بها الجانبان على مدار جولات التصعيد خلال العقود الماضية، وبرز ذلك من خلال عدة ملامح أبرزها:
أ- تجاوز المنطقة الرمادية للصراع gray zone، حيث ظل الصراع بين الجانبين مُدارًا عبر ما عُرف بـ "حروب الظل" التي يطغى عليها طابع السرية والإنكار الذي يسمح بأن يكون الردع المتبادل بين الجانبين في نطاق معقول لا يقود لتصعيد الصراع لحرب شاملة، وبالتالي يظل الصراع بين الجانبين دون السلام ودون الحرب الشاملة.
ب- تجاوز قاعدة الإنكار المعقول للردع Plausible deniability، والتي توفر بدورها مساحة لمرونة رد فعل الخصم وفق قواعد الاشتباك المحددة بينهما دون أن يقود ذلك لمواجهة مباشرة بين الجانبين، وانعكس ذلك في عدم إنكار تل أبيب تنفيذها للضربة العسكرية التي استهدفت القنصلية الإيرانية، بالإضافة إلى خروج عدد كبير من التقارير نقلاً عن مسئولين أمريكيين أفادت بمسئولية إسرائيل عن الهجوم.
ج- الانتقال من نمط المواجهات غير المباشرة عبر الوكلاء إلى المواجهة المباشرة، حيث تحرر الجانبان في جولات التصعيد الأخير من النمط غير المباشر في الردع، والذي كانت تتبعه تل أبيب عبر توجيه الضربات العسكرية من خلال بنك أهداف للمصالح الإيرانية في مناطق الهلال الشيعي أو دول حزام النار في كل من سوريا ولبنان والعراق، وكذلك أيضًا لم تتبع إيران نمط الحرب غير النظامية التي ظلت تتبعها في فرض الردع في مواجهة إسرائيل من خلال المليشيات المسلحة الموالية لها في مناطق التطويق الاستراتيجي لتل أبيب.
ارتبط حدوث هذا التحول بالتجاوز الإسرائيلي لقاعدة الاشتباك الأساسية التي تُبقي على الصراع في نطاق المنطقة الرمادية دون الحرب عبر استهداف القنصلية الإيرانية ذات الرمزية بالنسبة للسيادة الإيرانية وقتل عدد من الشخصيات العسكرية ذات الثقل، بالإضافة إلى عدم التزامها بقاعدة "الإنكار المعقول"، في منهج مغاير لإدارة عمليات الظل التي كان يقوم بها جهاز الموساد خلال السنوات الماضية من عمليات تخريب واغتيالات داخل إيران وخارجها دون الإعلان عن تبني هذه العمليات وإنكارها، وهو ما كان يوفر بدوره مساحة من المرونة لرد الفعل الإيراني عبر توجيه ضربات واستهدافات غير مباشرة للمصالح الإسرائيلية، ومن ثم الحفاظ على قواعد الاشتباك وفقًا لخطوط حمراء واضحة تحول دون سيناريو الحرب الشاملة.
2- ترسيم قواعد جديدة للردع المتبادل: وفقًا للتحولات السابقة في قواعد الاشتباك بين الجانبين، فقد ارتسمت قواعد جديدة للردع، تخلت خلالها إيران عن قاعدة "الصبر الاستراتيجي" الذي لطالما اتبعته في التعامل مع العمليات الإسرائيلية، لترسم خط أحمر جديدًا للردع يرتبط بمهاجمة الأهداف ذات الارتباط المباشر بالسيادة التي ستستوجب الرد الفوري والمباشر باستهداف إسرائيل وليس فقط مصالحها بالمنطقة.
3- تنشيط وحدة الساحات أو "محور المقاومة": كشفت الضربة العسكرية الإيرانية ضد تل أبيب، والتي شاركت خلالها بعض جبهات المقاومة في اليمن والعراق ولبنان – وإن كان في نطاق محدود – عن تنشيط ما يُعرف بمبدأ "وحدة الساحات" أو الحرب "متعددة الجبهات" الذي لطالما طورت مراكز الفكر الإسرائيلية استراتيجيات للردع الوقائي بشأنها. بيد أن هذا الهجوم عكس انكشاف هذه الاستراتيجيات وتآكل قدرتها على الردع الذي اهتزت ركائزه من قبل نتيجة هجمات "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر الماضي، وهو ما قد يفرض على إسرائيل في المستقبل المنظور الترتيب لمواجهة جديدة على الجبهة الشمالية بعد الانتهاء من عدوانها على قطاع غزة، والتأكد من تفكيك الترسانة العسكرية لحركة المقاومة الفلسطينية "حماس".
مآلات التصعيد وأبعاده المحتملة
تقود المعطيات السابقة لمشهد التصعيد الراهن بين إيران وإسرائيل إلى أن تتحدد مآلاته وفقًا للمسارات والسيناريوهات التالية:
1- تثبيت قواعد الردع دون الحرب الشاملة: تدفع مؤشرات التصعيد الحالي بين الجانبين خاصة على وقع الهجمات العسكرية الأخيرة التي استهدفت مدينة أصفهان الإيرانية، اتجاه الجانبين نحو سيناريو تثبيت قواعد الردع دون حافة الهوية من ناحية عدم توسيع المواجهة لحرب شاملة، وذلك استنادًا لعدة مؤشرات وشواهد من أبرزها:
أ- الالتزام بمنهجية الاشتباك المحدود، وانعكس ذلك في الهجوم الإيراني على إسرائيل الذي لم يكن يستهدف إحداث خسائر مادية أو بشرية، وإنما تأكيد رسالة الردع بالقدرة على الوصول للعمق الإسرائيلي واستهداف القاعدة العسكرية في نيفاتيم بجنوب إسرائيل، التي استخدمت – بحسب التقارير الإيرانية – لتوجيه الضربة الإسرائيلية للقنصلية الإيرانية دون أن تكون هناك خسائر كبيرة، وهو المنهج نفسه الذي اُستخدم في الضربات العسكرية التي استهدفت قاعدة أصفهان الجوية في إيران دون حدوث خسائر مادية أو بشرية.
ب- الالتزام بقاعدة الانكار المعقول، حيث التزمت تل أبيب الصمت بشأن هجمات مدينة أصفهان، بالإضافة إلى اشتراط الرقابة العسكرية أن ينسب أي ادعاء أو تفاصيل عن ضربة انتقامية إسرائيلية إلى تقارير وسائل الإعلام الأجنبية، بل إن وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير هوجم نتيجة تغريدته التي لمح فيها إلى أن إسرائيل تقف وراء الضربات التي وصفها بالضعيفة، ونقلت أخبار القناة 12 الإسرائيلية عن مسئولين حكوميين إسرائيليين – وصفتهم بالمقربين من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو – وصفهم للوزير اليميني المتطرف بأنه "صبياني وغير ذي صلة بأي نقاش"، واتهموه بإلحاق أضرار جسيمة بالأمن القومي الإسرائيلي. كما هوجمت أيضًا عضوة الكنيست عن حزب الليكود تالي غوتليف التي أشارت في تغريدة لها إلى مسئولية إسرائيل عن الهجمات قائلة: "إن وقت مبكر من يوم الجمعة كان صباحًا لنرفع رؤوسنا عالياً بفخر. إسرائيل دولة قوية"، مضيفة: "صلاة من أجل عودة قوة الردع لإسرائيل".
ووفقًا لتقرير لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل" نقل الصحفي الإسرائيلي بن كاسبيت عن ناتان إيشيل، المدير السابق لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وأحد المقربين منه، قوله: "لا أحد يريد الحرب مع إيران في الوقت الحالي"، مضيفًا: "لقد أثبتنا لهم أننا قادرون على التسلل والضرب داخل حدودهم ولم يتمكنوا من التسلل إلى داخل حدودنا. الرسائل أهم من التعظيم. لدينا حاليًا مهام أكثر أهمية في كل من غزة ولبنان".
وفي المقابل، غضت إيران الطرف عن الهجمات، وهو ما انعكس في إغفال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خلال خطابه الذي ألقاه في أعقاب الهجمات، الحديث عن الانفجارات وإنما اكتفى بالإشادة بالهجوم الانتقامي الذي شنته طهران ضد إسرائيل، هذا بالإضافة إلى الاستجابة الضعيفة من وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية في التعامل مع الحادث، إلى جانب صدور تقارير إعلامية نقلت عن مسئول إيراني كبير إن إيران ليس لديها خطة للانتقام الفوري ضد إسرائيل. وبالتالي تعكس مواقف الطرفين على وقع التصعيد الأخير الاتجاه نحو تثبيت قواعد الردع، وعدم الرغبة في تقويضه على النحو الذي قد يقود إلى حرب شاملة فيما بينهما.
2- استمرار التصعيد الإسرائيلي لترميم معادلة الردع: في إطار تآكل معادلة الردع الإسرائيلية في أعقاب أحداث 7 أكتوبر الماضي، وما تلاها من تصعيد على الجبهات المختلفة، وهو ما انعكس تحديدًا في الضربة الإيرانية التي شهدت تفعيل لمبدأ "وحدة الساحات" أو الحرب متعددة الجبهات بحسب التعريف الإسرائيلي، وإن كانت على نطاق محدود، فإن ذلك الهاجس الأمني الذي تسعى تل أبيب لمعالجته من أجل طمأنة الداخل لمواجهة تصاعد معدلات الهجرة العسكية التي يقوم بها المواطنون الإسرائيليون، قد يدفع إسرائيل لاستمرار تصعيدها العسكري على الجبهات المختلفة وخاصة الجبهة الشمالية، كما أن هذا الهاجس الأمني وفق قواعد الردع الجديدة قد يمتد إلى اعتبار استمرار تطوير إيران لقدراتها النووية، بما يسمح لها بأن تكون دولة عتبة نووية، خطًا أحمر يستوجب توجيه ضربة عسكرية لإجهاض هذه القدرات، نظرًا لما قد يشكله ذلك من تهديد وجودي لبقاء الدولة العبرية، خاصة في ظل رسالة الردع الإيرانية عبر هجومها الأخير ضد تل أبيب، والتي عكست امتلاك طهران للقدرات الصاروخية التي يمكنها الوصول إلى العمق الإسرائيلي، وقد تكون حاملة لرؤوس نووية.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن تل أبيب يبدو أنها راهنت عبر الضربة المحدودة لإيران التي كانت أكثر رمزية بكثير من كونها ضارة، بأن تكتفي بتوجيه رسائل بالقدرة على الردع دون أن يقود ذلك إلى توسيع المواجهة مع إيران على المدى القصير، وذلك في محاولة للحفاظ على التحالف الذي قادته الولايات المتحدة ويضم دولًا أوروبية، والذي عمل جنبًا إلى جنب مع تل أبيب بتنسيق وفعالية ملحوظين، بعد سنوات من التدريب المشترك، في صد الهجوم الإيراني الأخير ضدها، بالإضافة إلى التركيز على الضرورة الاستراتيجية، المتمثلة في ضمان عدم حصول إيران على القدرة على إنتاج الأسلحة النووية، عبر هذا التحالف الذي سيساعدها في خلق زخم دولي لمواجهة خطر البرنامج النووي الإيراني وعدم السماح لها بأن تكون دولة عتبة نووية، حيث ترى إسرائيل أن الهجوم الإيراني ضدها عكس رسائل تهديد للمجتمع الدولي بمدى استحالة تصور امتلاك الدولة الإيرانية رؤوسًا نووية فوق الصواريخ الباليستية التي هاجمتها بها، ومن ثم، تراهن في الوقت الراهن في ضوء امتثالها لعدم تصعيد المواجهة، على أن يعمل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بجدية أكبر لمواجهة هذا التهديد، أو سيبقى لديها القدرة على التصرف المنفرد بالتصعيد لاستعادة الردع في مواجهة الاستمرار الإيراني بتطوير القدرات النووية، وهو ما قد يقود المواجهة بينهما نحو منزلق خطر.
3- استمرار تصاعد الهجمات بين الجانبين في إطار المناورة الإسرائيلية: قد يؤدي لجوء تل أبيب إلى التصعيد العسكري ضد إيران باعتباره استراتيجية للمناورة من أجل تحقيق مكاسب سياسية في ملفات أخرى، وهو ما أكده العديد من المراقبين، الذين دفعوا بأن ضرب القنصلية الإيرانية عكس تعمدًا إسرائيليًا لاستهداف القنصلية كهدف وليس فقط استهداف مسئولي الحرس الإيراني الذين قتلوا خلال الضربة، حيث كان بإمكان تل أبيب استهداف هؤلاء المسئولين في أماكن أخرى، وإنما جاء هذا الاستهداف على هذا النحو من أجل استفزاز إيران بالرد الذي أتاح للائتلاف الحكومي الإسرائيلي مساحة حركة جديدة في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية في عدوانه ضد قطاع غزة، قد يؤدي إلى استمرار تصاعد الهجمات المتبادلة بين الجانبين على نحو ربما يقوض معادلة الردع بينهما، وانزلاق الأوضاع إلى منحدر خطر يقود إلى حرب إقليمية واسعة، خاصة في ضوء قواعد الاشتباك الجديدة التي فرضتها جولات التصعيد الأخيرة، وسيظل ذلك مرتهنًا بتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها كل طرف للأخر.
4- تخفيف ضغط المواجهة عبر التصعيد الإسرائيلي في قطاع غزة: تعزز متغيرات السياق الراهن المتعلقة بموقف الدعم الدولي لتل أبيب، بالإضافة إلى موقف الداخل الإسرائيلي، تصعيد الائتلاف المتطرف لمساراته العسكرية ضد إيران ووكلائها بالمنطقة من أجل استعادة معادلة الردع، والذي لن تكون استهدافات أصفهان المحدودة كافية بالنسبة له بحسب التصريحات التي أعقبت هذه الضربات من بعض المسئولين الإسرائيليين المشار إليها سلفًا، والتي عكست حالة من عدم الرضا، إلا أن ذلك قد يصطدم بعدم الرغبة الأمريكية والغربية بتصعيد الصراع وانزلاقه لحرب إقليمية واسعة، وبالتالي من المتوقع أن تروج إسرائيل – في ضوء تجدد شرعية الدعم لموقفها دوليًا – إلى أن القضاء على حركة حماس باعتبارها أحد أذرع محور "الشر الإيراني" -بحسب تصورها- أصبح ضرورة ملحة لاستعادة ترميم معادلة الردع الداخلي، وبالتالي الدفع نحو عملية اجتياح بري لمدينة رفح لإحكام سيطرتها العسكرية على كامل القطاع وتفكيك ما تبقى من الترسانة العسكرية لحركة حماس.
ختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من اتجاه التصعيد بين الجانبين على مستوى المواجهة المباشرة نحو الهدوء النسبي والعودة لتثبيت قواعد للردع تسمح بتفعيل آليات لإدارة الصراع دون سيناريو الحرب الشاملة، إلا أنه لاتزال حالة عدم اليقين بشأن مآلات التصعيد بينهما قائمة خاصة في ظل قواعد الاشتباك الجديدة التي رسمتها جولات التصعيد الأخيرة، والتي أرست معها قاعدة التحرك المستقل لتل أبيب عن واشنطن، بدافع استعادة معادلة الردع، ويزيد من تعقيدات هذا المسار في اللحظة الحالية المناورات الخطرة التي يقوم بها الائتلاف الإسرائيلي المتطرف من أجل تأمين بقاءه في المشهد السياسي أطول فترة ممكنة، حتى وإن كان ذلك من خلال استمرار العدوان الغاشم على قطاع غزة الذي راح ضحيته الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، أو تصعيد الصراع مع إيران ووكلائها، وهو ما قد يجر المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة.