مهاب عادل حسن

باحث مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تصاعد خلال الفترة الأخيرة الحديث عن حكم العشائر المحلية في قطاع غزة كأحد سيناريوهات "اليوم التالي" بعد الحرب، وهو السيناريو الذي كانت قد روجت له بشكل مبكر أحد مراكز الفكر الأمريكية القريبة من دوائر صنع القرار في واشنطن، على أن يكون ذلك في إطار "حكومة تكنوقراط" من العناصر المحلية للعشائر الفلسطينية بقطاع غزة والضفة الغربية، في إطار مرحلة انتقالية تُفضي لتولي السلطة الفلسطينية الحكم في القطاع بعد خضوعها لعملية إصلاح[1]، وهو ما كانت ترفضه تل أبيب حتى وقت قريب، خاصة الشق المتعلق بعودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع. وقد عبّر عن ذلك الرفض بشكل واضح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكثر من مرة، لكن مع توالي جولات التفاوض بشأنالوصول إلى اتفاق تهدئة أو وقف كامل لإطلاق النار، وتحت وطأة الضغوط الدولية وضغوط الداخل الإسرائيلي، أبدت تل أبيب درجة من المرونة في التعامل مع مقترح حكم العشائر المحلية دون أن يتسع ذلك ليشمل خيار عودة السلطة الفلسطينية، التي تعمدت تل أبيب خلال الفترة الماضية إظهارها بمظهر الفشل في إدارة الأمور في الضفة، بهدف تخفيف ضغوط الشركاء الإقليميين والدوليين للقبول بها كبديل لحكم حركة حماس في قطاع غزة.

في هذا السياق، تُثار العديد من التساؤلات حول فرص نجاح السيناريو الخاص بحكم العشائر، ومدى تأثير السياقين الإقليمي والدولي على فرص نجاح هذا السيناريو.

محددات الموقف الإسرائيلي تجاه تصورات اليوم التالي

تجدر الإشارة أولا إلى أن هناك جملة من المحددات الحاكمة للموقف الإسرائيلي، والتي تشكل في مجموعها "مسطرة قياس" يمكن من خلالها الوقوف على الرؤية الإسرائيلية تجاه أية تصورات مقترحةلليوم التالي.[2] ويمكن إجمال هذه المحددات فيما يلي:

1- استكمال الأعمال العسكرية داخل القطاع: تهدف حكومة الحرب الإسرائيلية الراهنة إلى استكمال باقي الأعمال العسكرية، خاصة في منطقة رفح الفلسطينية،والتي صادق رئيس الوزراء نتنياهو على خطة اجتياحها بحسب ما أعلنه مكتبه. وقد انعكس تمسك نتنياوهو بهذه الخطة على المفاوضات الجارية بشأن الهدنة وتبادل المحتجزين، حيث أبدت إسرائيل تعنتا ورفضا لأية صيغ تسوية من شأنها التوصل لوقف كامل لإطلاق النار. بيد أن الضغوط العربية والغربية، والتحذير من خطورة الإقدام على اجتياح رفح الفلسطينية، أدى إلى التباطؤ في تنفيذ خطة الاجتياح تلك، حيث تسعى تل أبيب في الوقت الراهن إلى تنسيق تلك الخطوة مع واشنطن عبر إيفاد ممثلين عسكريين لتأمين موافقتها على خطة الاجتياح. في المقابل، تضغط واشنطن لإجبار تل أبيب على القبول بتصور مبدئي بشأن الحكم في غزة بعد الحرب، من أجل تأمين شرعية لاستكمال الأعمال العسكرية التي تحاول تل أبيب إقناع الإدارة الأمريكية بأنها ستكون مُجدية في فرض الضغط على حماس للقبول بصيغة تهدئة في حدها الأدنى من ناحية المطالب. وتثور في هذا الصدد تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، التي أكد خلالها أن"إسرائيل ستظل عالقة لسنوات في غزة إن أصرّت على اجتياح مدينة رفح، ولم تكن لديها خطة لليوم التالي لانتهاء الحرب".

2- الهاجس الأمني ومعادلة ترميم الردع: كان لأحداث 7 أكتوبر تأثير سلبي كبير على معادلة الردع الإسرائيلية، خاصة أنه قد أعقبها عملية نزوح للمستوطنين الإسرائيليين في مناطق غلاف غزة وكذلك البلدات الحدودية مع لبنان، والذين قدرت أعدادهم -وفقاً للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية- بأكثر من 120 ألف إسرائيلي[3].في هذا السياق، تسعى تل أبيب إلى إعادة ترميم هذه المعادلة، وإعادة النازحين مرة أخرى إلى المستوطنات المحاذية للقطاع، خاصة في ظل الضغط الاقتصادي الناتج عن عملية النزوح تلك، بسببنفقات الإعانة التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية لهؤلاء النازحين، فضلاً عن تحمل تكاليف السكن في مناطق إيواءهم الجديدة.

وفقاً لهذه المعطيات، يتشدد الموقف الإسرائيلي فيما يتعلق بعودة الفلسطينيين ضمن ترتيبات اليوم التالي للحرب إلى مناطق الشمال المحاذية لمستوطنات غلاف غزة، وكذلك محاولة استثناء هذه المناطق من عمليات إعادة الإعمار، وذلك بهدف تأمين مناطق عازلة بتلك المناطق تضمن السيطرة الأمنية الإسرائيلية من ناحية، وتساعد، من ناحية أخرى، في ترميم "الردع المعنوي" في إطار استراتيجية "كي الوعي"، التي صاغها موشيه يعلون، وزير دفاع ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، عبر ترهيب الفلسطينيين، بالإبقاء على هذه المناطق المنكوبة دون إعمار، لتبقى في الذاكرة البصرية للأجيال الناشئة كمحفز ضغط وغضب ضد حركات المقاومة الفلسطينية باعتبارها المتسبب في ذلك، بحسب التصور الإسرائيلي. 

3- التحرر من الالتزامات القانونية تجاه القطاع: لا ترغب تل أبيب في أن تتورط في أية التزامات مدنية تجاه سكان القطاع إذا ما بقيت كسلطة احتلال في مرحلة ما بعد الحرب، خاصة في ظل فشلها في مخططات التهجير القسري لسكان القطاع حتى الآن، وهو ما ينعكس في مرونة الموقف الإسرائيلي كما عبرت عنه تصريحات المسئولين السياسيين والأمنيين (باستثناء الوزراء المتطرفين في الحكومة) بشأن عدم الرغبة في تولي الإدارة المدنية للقطاع، لكن في الوقت نفسه تتشدد إسرائيل في موقفها بشأن عودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع، تجنبا لتكرار سيناريو 2007، أو إزاحة السلطة عبر آلية الانتخابات أو الانقلاب على حكمها من جانب فصائل المقاومة، خاصة في ظل ضعف السلطة الفلسطينية الذي تعمدته تل أبيب من خلال منع تحويلات أموال المقاصة، وإظهار السلطة أمام الشركاء الأمريكيين والأوروبيين والقوى الإقليمية، بمظهر الفشل في إدارة الضفة، وذلك بهدف تخفيف الضغط على تل أبيب للقبول بعودة السلطة إلى القطاع،الأمر الذي يمهد الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية، على نحو لا ترغبه تل أبيب.

4- الحسابات المرحلية الضيقة للائتلاف الحكومي: ينطلق الاتئلاف الحكومي الحالي في إسرائيل، في ضوء أزماته الداخلية، من حسابات ضيقة يراهن من خلالها على مغازلة تيار اليمين المتطرف في الشارع الإسرائيلي، من خلال المغالاة في توجهات الحكومة فيما يتعلق بإدارة الحرب والتعامل مع سيناريوهات "اليوم التالي"، عبر إصدار العديد من التصريحات الرافضة لعودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع أو إقامة دولة فلسطينية. فقد عبّر نتنياهو صراحة عن افتخاره بأنه منع قيام دولة فلسطينية.

أيضاً يراهن نتنياهو من خلال هذه الحسابات الضيقة على ضمان تماسك ائتلافه واستمراره في المشهد السياسي أطول فترة ممكنة، أو على الأقل التخفيف من وطأة الضغوط الداخلية ضد أعضاء الائتلاف الذين يدركون أنهم سيكونون على موعد مع انتخابات جديدة سيقود فشلهم في إدارة الأزمة الراهنة، وعدم تحقيق انتصار في الحرب الجارية، إلى تآكل شعبيتهم بين ناخبيهم من اليمين المتطرف لصالح المعارضة، خاصة أحزاب يمين الوسط. وقد دفع ذلك نتنياهو للحديث عن احتمالات استمرار الحرب حتى عام 2025.[4] هذا فضلاً عن اتجاهه إلى تسخين الجبهة الشمالية عبر تصعيد عمليات استهداف عناصر تابعة لحزب الله في لبنان، وكذلك العناصر المسلحة الموالية لإيران في سوريا.

5- الإبقاء على حالة الانقسام الفلسطيني لإدارة الصراع: يقوم المنهج الإسرائيلي –الذي يتبناه غالبية المسئولين السياسيين من اليمين الإسرائيلي (اليمين المتطرف – يمين الوسط) الموجودين في المشهد الحالي– على الإبقاء على حالة الانقسام الفلسطيني من أجل ضمان عدم وجود صوت فلسطيني موحد، ومن ثم تعقيد مسارات التسوية والحل النهائي، واستبعاد فرصة إقامة الدولة الفلسطينية. وقد انعكس ذلك في تصريحات العديد من المسئولين السياسيين الحاليين، الذين يرفضون أن تكون السلطة الفلسطينية وكذلك خيار الدولة الفلسطينية جزءاً من الحل، خاصة في ظل الهدف المعلن للحرب الراهنة على قطاع غزة والمتمثل في القضاء على حركة حماس، وهو ما تفشل في تحقيقه حتى الآن.

6- ترتيب السلام الإقليمي كمحفز للداخل الإسرائيلي: تراهن واشنطن على أن يكون لهذا الترتيب تأثيره في أية سيناريوهات لليوم التالي، وهو ما اختبرته خلال الفترة الماضية عبر حركتها المكثفة لحشد الدعم السياسي والمالي بالتمويل من جانب الشركاء الإقليميين لترتيبات "اليوم التالي" بعد الحرب، من أجل بلورة محفز للحكومة الإسرائيلية لتقديم تنازلات فيما يتعلق بخيار حل الدولتين. وانعكس ذلك في التقارير المتواترة خلال الأسابيع الماضية، والتي تحدثت عن تقديم عرض لتل أبيب بأن يكون التطبيع مع المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى تمويل إعادة الإعمار بالقطاع من جانب الشركاء الإقليميين في المنطقة، مقابل الموافقة على سيناريو "اليوم التالي" للحرب الذي يتأسس على إقامة دولة فلسطينية في كل من الضفة والقطاع، وهو ما رفضته تل أبيب. وعبر عن ذلك نتنياهو في مؤتمر صحفي في 18 يناير 2024، عندما أكد رفضه إقامة دولة فلسطينية في إطار أي سيناريو لما بعد الحرب[5].

فرص نجاح سيناريو حكم العشائر

يجب الإشارة في البداية إلى أن اللجوء لحكم العشائر المحلية في قطاع غزة، وكذلك في الضفة الغربية، لم يكن المرة الأولى التي يتم فيها طرح هذا التصور، حيث لجأت إسرائيل في مناسبات سابقة إلى هذا الخيار. بيد أن هذه المرة يأتي في سياق متغير تحكمه حسابات معقدة، تجعل هذا الخيار محكوماً بممكنات التطبيق التي قد تطرحها متغيرات اللحظة الراهنة أو الفشل في ضوء المعوقات المحتملة، وهو ما يُمكن إجماله على النحو التالي:

1- ممكنات التطبيق

هناك مجموعة من العوامل التي تجعل فرص تطبيق هذا السيناريو ممكنة، نجملها فيما يلي:

أ- حسابات إسرائيل: ترى الحكومة الإسرائيلية الراهنة أن هذا التصور "حل وسط" وفقاً للمحددات السابقة، فهو من ناحية، يسمح لإسرائيل بالمناورة وتخفيف الضغوط الواقعة عليها من جانب الشركاء الإقليميين والدوليين، بما يمكّنها من استكمال خططها العسكرية لاجتياح مدينة رفح التي تبدي واشنطن مرونة في تقبلها شريطة تنسيق تل أبيب معها. من ناحية أخرى، فإن هذا السيناريو يتوافق مع مواقف اليمين المتطرف الذي يرفض عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، وسيكرس أيضاً حالة الانقسام بين الضفة وغزة، ويحول بالتالي دون تطبيق خيار حل الدولتين الذي ترفضه تل أبيب.

ب- دعم واشنطن وتوفير حاضنة دعم إقليمية: تسعى الإدارة الأمريكية لتذليل الصعوبات أمام تصورها بشأن "اليوم التالي" لحكم القطاع، من أجل وضع نقطة نهاية للحرب الجارية التي أضرّت بصورتها الدولية نتيجة لدعمها المطلق لإسرائيل في هذه الحرب،ويأتي في مقدمة هذه الصعوبات تلك المسائل المتعلقة بالتخوفات الإسرائيلية فيما يتعلق بوضع السلطة الفلسطينية وعودتها لحكم القطاع، حيث يبدو أن واشنطن تضغط في اللحظة الراهنة لدفع السلطة الفلسطينية لاتخاذ خطوات إصلاحية تمكنها من تغيير موقف تل أبيب. وبرز ذلك من خلال إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبول استقالة حكومة محمد اشتية وتكليف محمد مصطفى بتشكيل حكومة جديدة، هذا فضلاً عن حديث بعض التقارير الأمريكية عن اقتراب الولايات المتحدة من التوصل إلى اتفاق مع السلطة الفلسطينية لإنهاء "مدفوعات الشهداء"[6].

وتعمل واشنطن كذلك على تهيئة ممكنات تطبيق هذا التصور من خلال توفير حاضنة دعم إقليمية للمسائل المتعلقة بالجانب المالي لخطط إعادة الإعمار، أو الجانب الأمني لخطط السيطرة الأمنية على القطاع ومنع عودة عناصر حركة حماس، وذلك من خلال إبداء المرونة للتعامل مع مقترح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بتشكيل قوة متعددة الجنسيات تشارك فيها بعض الدول العربية، وتكون بقيادة واشنطن، بحيث تتولى تأمين قوافل المساعدات الإنسانية، وكذلك الميناء الذي يتم بناؤه في القطاع، وذلك بحسب ما أفادت به صحيفة "يديعوت أحرونوت"، في تقرير لها على هامش الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الإسرائيلي للولايات المتحدة خلال الأسبوع الأخير من مارس 2024، والتي نسق خلالها تلك الخطوة مع واشنطن بحسب الصحيفة[7].

ج- الظروف المعيشية الكارثية للفلسطينيين داخل القطاع: يبدو أن كلا من واشنطن وتل أبيب تعوّل على أن تهيئ الظروف الإنسانية الكارثية التي يعيشها الفلسطينيون داخل القطاع حاضنة محلية قوية لحكم "العشائر المحلية" التي سيتم من خلالها تمرير المساعدات الإنسانية، وهو ما سيمكّنها من تحييد المقاومة المحتملة لحكمها من جانب ما تبقى من جيوب لحركات المقاومة داخل القطاع.

2- عوامل الفشل

هناك، في المقابل، مجموعة من العوامل التي قد تدفع إلى فشل سيناريو حكم العشائر، يمكن إجمالها فيما يلي:

أ- الخبرة السلبية في التعامل مع العشائر المحلية: كانت خبرة تل أبيب في اللجوء إلى خيار حكم العشائر المحلية في كل من قطاع غزة عبر ما يسمى بـ "مجلس المخاتير"، وكذلك في الضفة الغربية عبر "الجمعيات القروية" كبديل لمنظمة التحرير الفلسطينية... كانت سلبية، وانتهت بالفشل. فقد لجأت إسرائيل إلى تنظيم العشائر في قطاع غزة مثل عشيرة "الحليس" و"الشوا" (التي عينت منها إسرائيل عمدة لمدينة غزة في عام 1971)، وغيرها من العشائر عبر "مجلس المخاتير" الذي ترأسه آنذاك موسى أبو شعبان في قطاع غزة عام 1967، وذلك من أجل تخفيف عبء إدارة الشئون المدنية عبر هذه العشائر التي كانت جميعها على اتصال مع الإدارة المدنية الإسرائيلية. وظلت هذه الصيغة قائمة حتى اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987[8]، التي أدت إلى انهيار هذه الكيانات العشائرية وانضوت في ظل الحراك المجتمعي الذي ساهم في بروز الحركات الوطنية الفلسطينية مثل حركة فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، بل كان ذلك سبباً في ميلاد فصيل جديد للمقاومة وهي حركة حماس التي تمكنت من السيطرة على القطاع عبر خلق حاضنة مجتمعية استطاعت من خلالها موازنة حضور حركات المقاومة الأخرى وعلى رأسها حركة فتح.

ورغم تراجع مكانة ونفوذ هذه الكيانات العشائرية في المجتمع المحلي لقطاع غزة، إلا أنها تمكنت من الاحتفاظ بالسيطرة على قطاعات كبيرة من الاقتصاد، التي كان لها تأثير كبير على المستوى المحلي. كما لعبت دوراً فعّالاً بعد انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، حيث تمكنت من ملء فراغ السلطة من خلال إنشاء مناطق شبه حكم ذاتي بعناصرها المسلحة الخاصة، وكذلك تأسيس أنظمة لإنفاذ القانون والرعاية الاجتماعية غير الرسمية، وذلك وفقاً لتقرير صدر عام 2007 عن مجموعة الأزمات[9]. لكن سرعان ما انهارت هذه الكيانات العشائرية في أعقاب سيطرة حركة حماس على القطاع عام 2007، التي توصلت إلى "تسوية مؤقتة" مع العشائر بعد اشتباكات عنيفة في عام 2008. ومنذ ذلك الحين اتجهت بعض هذه العشائر إلى التعاون الوثيق مع حماس، في حين حافظت عشائر أخرى على مسافة معها، بما في ذلك تلك التي كانت أكثر انسجاما مع فتح والسلطة الفلسطينية مثل عشيرة الحليس.

ب- غياب الحاضنة الشعبية للعشائر المحلية: ساهم تغلغل حركة حماس في المجتمع داخل قطاع غزة على مدار الأعوام الماضية، في تضاؤل حضور العشائر المحلية ونفوذها المجتمعي. ووفقاً للتقديرات الإسرائيلية، فإن عدد العشائر الأكبر حجماً داخل القطاع –مثل الدغموش والسنوار والحلة والرضوان والمصري على سبيل المثال لا الحصر– يصل إلى ما يقرب من 15 ألف أو 20 ألف عضو[10]، وهي أعداد محدودة لتكون بديلاً لجهاز بيروقراطي كامل كانت تديره حركة حماس، وكذلك لتحقيق انتشار أمني فعال. ووفقاً لنتائج أحدث استطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية خلال الفترة (5-10) مارس 2024، فإن 60% من العينة من سكان القطاع رأوا أن قطاع غزة سيبقى تحت سيطرة حماس، وأن حماس ستكون هي القوة الحاكمة في المستقبل، وحول سؤالهم عن السلطة التي يفضلونها في القطاع، عبر أكثر من 50% عن تأييدهم لاستمرار حكم حماس في القطاع.[11] وتكشف هذه النتائج بدورها عن غياب أية حواضن شعبية محتملة للعشائر المحلية المقترحة لحكم القطاع، وأنه سيكون خيار لا يتمتع بقبول طوعي من جانب سكان القطاع.

ج- مؤقتية الحل وعدم الاستدامة: قد لا يتهيأ لهذا التصور الاستدامة كحل دائم لأزمة القطاع، خاصة إذا لم يقترن بمسار حل سياسي جاد لتسوية الصراع، يتعزز معه حضور مكون فلسطيني كبير مثل السلطة الفلسطينية، بحيث تتمكن من ملء فراغ حركة حماس وأجهزتها الأمنية والبيروقراطية داخل القطاع، وفي الوقت نفسه يجدد الأمل لدى المواطنين الفلسطينيين في قيام دولتهم المستقلة، خاصة في ضوء عامل المتغير الجيلي للأجيال الناشئة الذي سيتعزز معه محفزات الرفض لنهج إدارة الصراع دون أن يكون هناك حل يلوح في الأفق، وهو ما سيهدد أية اتفاقات هشة لا تضمن حلولا مستدامة، وهو ما انعكس في نتائج استطلاع الرأي المُشار إليه سلفًا، حيث رأى 71% من العينة من المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة ممن أيدوا هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر، أن الهجوم قد وضع القضية الفلسطينية- الإسرائيلية في بؤرة الاهتمام، وقضى على سنوات من الإهمال للقضية على المستويين الإقليمي والدولي[12].

ختامًا، يمكن القول إن مرونة الموقف الإسرائيلي في اللحظة الحالية للتعامل مع مقترح حكم العشائر المحلية لقطاع غزة فيما بعد الحرب، يمثل محاولة التفافية لتجاوز صيغ التسوية الشاملة التي تتضمن عودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع، ومن ثم، إنهاء خيار حل الدولتين الذي تضغط به واشنطن والأطراف الإقليمية ليكون عنوان أية سيناريوهات مقترحة لليوم التالي، وهو ما فشلت في إحباطه تل أبيب–حتى الآن– عبر المخططات الخبيثة لترحيل المواطنين الفلسطينيين لدول الجوار.وتستكمل هذا الموقف الالتفافي باقتراح وزير دفاعها يوآف غالانت تشكيل قوة متعددة الجنسيات تشارك بها أطراف عربية،وهو ما تحاول تل أبيب من خلاله إنضاج تصورها الالتفافي بشأن اليوم التالي، بحيث تتمكن من الترويج لهفي الأوساط الغربية، وتمريره من خلال واشنطن.

وسيساعد ذلك بدوره إسرائيل في إبداء درجة من المرونة في التعامل مع سيناريوهات اليوم التالي التي تضغط واشنطن وغيرها من الأطراف الإقليمية عليها لقبولها، وبالتالي ستعزز هذه المرونة مساحة الحركة لتل أبيب في مواجهة هذه الضغوط وتأمين شرعية جديدة لموقفها تسمح لها باستكمال أعمالها العسكرية التي تستهدف من خلالها اجتياح مدينة رفح.

من ناحية أخرى، قد تعوّل واشنطن على أن هذه المرونة الإسرائيلية قد تمتد لتشمل قبول مبدئي لعودة السلطة الفلسطينية بعد خضوعها لعملية إصلاح غير واضحة المعالم والكيفية، وينعكس ذلك من خلال ضغطها في الوقت الحالي لاتخاذ السلطة بعد الإجراءات الإصلاحية على النحو المشار إليه سلفاً، وقد يكون ذلك أحد الأثمان المطلوبة من تل أبيب في مقابل موافقة واشنطن ومباركتها لعملية اجتياح مدينة رفح.


[1] Robert Satloff, Dennis Ross and David Makovsky, Israel’s War Aims and the Principles of a Post-Hamas Administration in Gaza, The Washington Institute for Near East Policy, October 17, 2023. Accessed Date: November 1, 2023. Accessed Date: March 30, 2024. Retrieved From: https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/israels-war-aims-and-principles-post-hamas-administration-gaza

[2] مهاب عادل، رؤى إسرائيل لغزة بعد الحرب وعوائق إعادة الإعمار، مجلة تقديرات مصرية، العدد 56، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، فبراير 2024. 

[3]Abdel-Rauf Arnaut, 120,000 Israelis displaced since onset of Gaza conflict, Anadolu Agency, October 23, 2023. Accessed Date: March 30, 2024. Retrieved from: https://www.aa.com.tr/en/middle-east/120-000-israelis-displaced-since-onset-of-gaza-conflict-/3030137

[4] TOI STAFF, Netanyahu says war against Hamas set to continue into 2025 — TV report, Times of Israel, January17, 2024. Accessed Date: March 30, 2024. Retrieved from: https://www.timesofisrael.com/netanyahu-says-war-against-hamas-set-to-continue-into-2025-tv-report/

[5]NAJIB JOBAIN, JOSEF FEDERMAN AND JACK JEFFERY, Netanyahu says he told the US that he opposes a Palestinian state in any postwar scenario, AP news, January 19, 2024. Accessed Date: March 30, 2024. Retrieved from: https://apnews.com/article/israel-hamas-war-news-01-18-2024-73d552c6e73e0dc3783a0a11b2b5f67d

[6] NAHAL TOOSI, US says Palestinians are close to changing ‘pay for slay’ program, politico, March 29, 2024. Retrieved from: https://www.politico.com/news/2024/03/29/us-says-palestinians-are-close-to-changing-pay-for-slay-program-00149734

[7] Yoav Zitun, Gallant to Netanyahu: One step closer for a multinational force deployment in Gaza, Ynetnews, March 29, 2024. Retrieved from:https://www.ynetnews.com/article/hkglao4jc

[8] GIANLUCA PACCHIANI, Relying on local clans to run postwar Gaza should be off the table, experts warn, Times of Israel, March 12, 2024. Retrieved from: https://www.timesofisrael.com/relying-on-local-clans-to-run-postwar-gaza-should-be-off-the-table-experts-warn/

[9] International crisis group, Inside Gaza: The Challenge of Clans and Families, International crisis group, December 20, 2007. Accessed Date: March 30, 2024. Retrieved from: https://www.crisisgroup.org/middle-east-north-africa/eastern-mediterranean/israelpalestine/inside-gaza-challenge-clans-and-families

[10] Relying on local clans to run postwar Gaza should be off the table, Ibid.

[11] نتائج استطلاع الرأي العام رقم (91): البيان الصحفي، المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، 20 مارس 2024. انظر: https://pcpsr.org/ar/node/970

[12] المرجع السابق.