د. إيمان مرعى

خبير ورئيس تحرير دورية رؤى مصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

 

تشتهر مصر دائماً بأجواء رمضانية مميزة تُكسِبها نوعاً من الخصوصية والتفردية، لا سيما فيما يتعلق بتنظيم فعاليات اجتماعية لافتة خلال الشهر الكريم. ففي هذا السياق، شهد حي المطرية- وتحديداً عزبة حمادة- تنظيم "أكبر حفل إفطار سنوي" يوم الإثنين الموافق 25 مارس 2024، تحت شعار "للسنة العاشرة .. جيرة وعشرة"، والذي حظى باهتمام خاص من جانب وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، ورواد مواقع التواصل الاجتماعي.

كان لافتاً في إفطار العام الحالي حضور أكثر من 10 آلاف مواطن تناولوا طعام الإفطار على نحو 570 مائدة امتدت إلى نحو 1000 متر. وقد حرص على المشاركة في الإفطار وزير الشباب والرياضة دكتور أشرف صبحى، ومستشار الرئيس للشئون الدينية أسامة الأزهرى، ووزيرتا الهجرة الحالية السفيرة سها جندى، والسابقة السفيرة نبيلة مكرم، وبعض أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، برفقة عدد من الفنانين والمشاهير والذين وثّقوا مقتطفات من هذه الفعالية الرمضانية التي تجسّد روح المحبة والترابط الاجتماعي بين المصريين.

ولم تكن هذه هى المرة الأولى التي يشهد فيها حي المطرية هذه الفعالية، إذ أنها تعد بمثابة طقس رمضاني يقام في منتصف شهر رمضان من كل عام، بدأه أهالي الحي منذ عام 2013، وحالت جائحة كورونا دون تنظيمه خلال عامي 2020 و2021.

ورغم أن هذه المناسبة قد لا تكون أكبر مائدة للإفطار الجماعى سواء في مصر أو أي بلد عربي أو إسلامى آخر، ولكنها في الوقت نفسه ترصد حكاية فريدة من نوعها تكتسب خصوصية تختلف عن أي إفطار جماعي، حيث تمكن "إفطار المطرية" من حجز مساحته الخاصة من الخصوصية والشهرة بعد أن استطاع القائمون عليه الحفاظ على استمراريته لمدة عشر سنوات بشكل أكبر من الفعاليات السابقة بهدف جمع شمل "عائلة المطرية الكبيرة" وتكريس المناسبة باعتبارها تقليداً اجتماعياً تتوارثه الأجيال القادمة ويصبح جزءاً أساسياً من تراثهم.

بدايات الفكرة

تعد موائد الإفطار واحدة من أبرز ملامح شهر رمضان في مصر. بيد أن الأمر تطور خلال السنوات الأخيرة ليتخطى كونه إعداد مائدة أو تقديم وجبات إفطار للفقراء، بل أصبح ملمحاً اجتماعياً مختلفاً، وبات لبعض المناطق في مصر يوم يجتمع سكانها فيه سنوياً على موائد الإفطار. ورغم ذلك، اكتسب "إفطار المطرية" وجاهة خاصة مقارنة بالمبادرات الأخرى التي نظمت في هذا الصدد، على نحو بدا واضحاً في أحد الشعارات الرئيسية التي رافقت تنظيم الفعالية والذي يتضمن مقولة "فطار المطرية حاجة تانية"، أولاً لجهة أسبقيته في طرح المبادرة، وثانياً لجهة استقطابه اهتماماً واسعاً على المستويين الشعبي والرسمي وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي.

وقد بدأت قصة "إفطار حي المطرية" في عام 2013 بتجمع أسر صغيرة من عائلة الصعايدة بعزبة حمادة على ثلاث أو أربع طاولات للإفطار معاً في منتصف شهر رمضان، ثم سرعان ما تطور الأمر حتى تجاوز العدد الـ100 طاولة، إلى أن وصل اليوم إلى نحو 570 طاولة في نحو 7 شوارع كاملة وعلى امتداد 1000 متر لإطعام أكثر من 10 آلاف فرد؛ ليتحول ما بدأته مجموعة صغيرة من الأصدقاء إلى رمز للتلاحم والتضامن الاجتماعي.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذا الإفطار تجاوز الأفكار الشعبية التقليدية مثل "العزومة" و"الكرم الشعبى"، ووصل إلى إعادة الاعتبار لفكرة التعاونيات والعمل الأهلى الذى يستطيع مساندة الدولة ودعمها في العديد من المجالات.

دلالات رئيسية

تمثل موائد الإفطار الجماعى عادة اجتماعية تعزز التكاتف والترابط الاجتماعى والألفة بين أفراد المجتمع وتهدف إلى الحفاظ على قيم المشاركة كجزء من العادات المصرية الأصيلة. وفي هذا السياق، يعكس "إفطار المطرية" دلالات رئيسية أربع هى:

1- ترسيخ مبدأ التعاون والعمل التطوعى: يعد التعاون سلوكاً إنسانياً فطرياً لتوحيد جهود الأفراد في نشاط جماعي من أجل تحقيق مصلحة مشتركة. هذا السلوك الإنساني الذي يعكس حاجة أفراد الجماعة كان موجوداً في كل العصور وحتى العصر الحالي، وإن كان قد اتخذ صوراً مختلفة وفق اختلاف الثقافات، واختلاف التطورات التى لحقت بالمجتمعات البشرية على تعاقبها. والتعاون ليس هدفاً في حد ذاته، ولكنه أسلوب عمل وأسلوب حياة، يلجأ إليه الأفراد في سبيل تحقيق الأهداف والغايات الاقتصادية والاجتماعية المرجوة، وهو ما يعكس الاهتمام العالمى بأدوار العديد من المنظمات والهيئات الدولية والإقليمية، التي تقوم بدعم وتنمية الحركة التعاونية، لأن القطاع التعاوني، بصفته منظمات شعبية غير حكومية، وبما يحققه من تنمية اقتصادية، اجتماعية وثقافية، لأعضائه وللمجتمع بصفة عامة، مهيأ أكثر من غيره، لتحقيق وتفعيل البعد الاجتماعى لعمليات التحول وسياسات الإصلاح بما يمتلكه من قدرة على تجميع إمكانيات أعضائها، وتوظيف تلك الإمكانيات، بأسلوب اقتصادي أرقى وأفضل، لتصبح أحد الأنماط المهمة فى التفاعلات المجتمعية، مما يتطلب من الحكومات تقديم يد المساعدة لها لتحقيق أهدافها، والقيام بأداء رسالتها المهمة فى التنمية بأبعادها المختلفة.

هذه الدلالة تحديداً عكستها مائدة "إفطار المطرية" الجماعى، التي امتدت لـ1000 متر في شوارع المطرية وشكلت فرصة لتعزيز التواصل الاجتماعي وتوطيد العلاقات، إلى جانب مشاركة الجميع في هذا الحدث من سيدات ورجال وأطفال كل حسب دوره ومهامه. وبالتالي يُبرز هذا الحدث الوجه المضىء للتعاضد والتكافل في المجتمعات. ولم يقتصر العمل التعاونى والتطوعى على تقديم الطعام للإفطار بل كان هناك متطوعون بالوقت والجهد، فهناك من يتطوعون بالطلاء ومواد الديكور كامتداد لأثاث الشوارع التي ستوضع فيها الطاولات، وطلاء المنازل، وطباعة الصور وتعليقها. ومن ثم تعزز هذه الفعاليات قيم التعاون وتبادل العطاء بين المواطنين وتساهم في تقديم صورة رائعة عن التكافل الاجتماعى، كما تعد مصدر إلهام لمناطق أخرى لتنظيم فعاليات مشابهة تعكس الوحدة والتضامن بين المواطنين.

2- الروح الاجتماعية والتضامنية: تجسد لحظة الإفطار الجماعى روح الترابط بين أفراد المجتمع، كما تعد فرصة للتضامن مع الأقل حظاً وتقديم المساعدة لمن هم في حاجة؛ حيث يتم توزيع الطعام على الفقراء والمحتاجين مما يبرز قيم التكافل والعطاء في المجتمع. وقد لفت الانتباه في هذا الحدث المشاركة الكبيرة التي تضم الأطياف والأفكار والشرائح كافة، حيث اجتمع الوزراء وكبار الشخصيات جنباً إلى جنب مع الفقراء والمحتاجين على مائدة واحدة.

3- إرساء مبادئ المحبة والسلام والوحدة الوطنية: تعتبر تجربة "إفطار المطرية" الجماعى فرصة للتواصل وتعزيز العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع. إذ إنها لحظة تجمع بين الطقوس الدينية والتقاليد الثقافية، وتعزز القيم الروحانية والتضامن الاجتماعى، كما أنها مناسبة لإحياء روح الوحدة الوطنية فى ظل توافق رمضان مع "الصوم الكبير" هذا العام، حيث شاركت الأسر المسيحية في تجهيز الوجبات وموائد الإفطار، في رسالة مهمة لإظهار الوحدة بين عنصرى الأمة المسلمين والمسيحيين في الدولة المصرية لتكون دائماً نموذجاً يحتذى به.

4- الدور الفعال للشباب: من اللافت للانتباه في هذا الحدث الدور الكبير للشباب، حيث القدرة على التنظيم، ودقة الترتيب دون متصدر واحد للمشهد، فالكل خلف الحدث ليبقى الحدث هو البطل الأوحد، حيث تحول المتطوعون إلى خلية نحل تعمل باتساق شديد وبحب متناهٍ وتعاون منقطع النظير، فالكل يعرف دوره وملتزم بالمطلوب منه؛ ولكل مجموعة قائد ولكل شارع مسئول ولكل مهمة مشرف، ناهيك عن مجموعات الشباب المسئولة عن تنظيم دخول الناس وجلوسهم ومجموعات أخرى لتسهيل حركة المرور، فضلاً عن مئات التفاصيل الصغيرة التي انتبهوا إليها، فكل شيء مدروس ومخطط له مسبقاً وتم التدريب عليه ليخرج الحدث في أبهى صورة.

ختاماً، إن حفل "إفطار المطرية" أصبح أيقونة تعيد التأكيد على أهمية دور التعاونيات والعمل الأهلى في تقديم العديد من الأفكار المختلفة، التي يمكن أن تساعد الدولة والمجتمع بأكمله في التغلب على كثير من التحديات، الأمر الذى يتطلب تبنى الفكر التعاونى ضمن مبادئ السياسات الوطنية بما يعمق التوجهات الرسمية والشعبية نحو العمل التعاونى، ونشر الوعى المجتمعى بتعزيز الثقافة والفكر التعاونى بين كافة الفئات الاجتماعية باعتبار التعاون قيمة عليا ومبدأ إنسانياً يعتمد على الذات والمساعدة الجماعية المتبادلة من خلال تجميع الإمكانيات، والموارد، والقدرات والجهود، أي التكافل بما يحقق منفعة عامة تساهم في الارتقاء بالمواطن نحو الأفضل؛ ومن ثم هناك ضرورة لتضافر الجهود للنهوض بالعمل التعاونى والاستثمار فيه كأحد أشكال التضامن الاجتماعى والوطنى.