جاءت العملية الإرهابية التي أعلن تنظيم "داعش خراسان" مسئوليته عنها في موسكو، في 22 مارس الحالي (2024)، ضمن سلسلة من الهجمات شنها التنظيم على مدار أسبوع في عدة دول. فخلال هذا الأسبوع، تمكن التنظيم من تنفيذ 4 عمليات إرهابية كبرى اثنتين في أفغانستان وثالثة في باكستان ورابعة في الفلبين، وهو ما يجعل من هذا الأسبوع الأنشط والأكبر من حيث طبيعة المُستَهدَف وعدد الضحايا والانتشار الجغرافي.
هذا الاتساع والتنامي في عمليات تنظيم "داعش خراسان" دفع بعض المسئولين الأمنيين الأمريكيين إلى إصدار تحذير من أن "هذه الهجمات قد تشجع التنظيم على محاولة استهداف فرنسا وبلجيكا وبريطانيا ودول أخرى تعرضت لهجمات إرهابية متقطعة خلال العقد الماضي"، حسب ما نقلته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، على نحو كان له دور في اتجاه السلطات الفرنسية نحو نشر تعزيزات أمنية في الشوارع بعد قرار الحكومة رفع مستوى التأهب الأمني إلى الحد الأقصى عقب تنفيذ هجوم موسكو.
وهنا، فإن ذلك يعني أن ثمة قلقاً ينتاب العديد من دول العالم إزاء السؤال الذي لم تحدد إجابته بعد ومفاده: من هو المُستَهدَف المحتمل لتنظيم "داعش خراسان" بعد روسيا؟
استراتيجية جديدة للتنظيم
كشف وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، في 27 مارس الجاري، عن إحباط مخطط هجوم إرهابي كل شهرين في فرنسا، معرباً عن مخاوفه من تغيير داعش استراتيجيته، وهو ما أكد عليه أيضاً قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال مايكل كوريلا بقوله أن "تنظيم داعش خراسان يحتفظ بالقدرة والإرادة لمهاجمة المصالح الأمريكية والغربية في الخارج، في أقل من 6 أشهر، دون سابق إنذار"، مضيفاً أن هناك "عدداً متزايداً من المؤامرات التي كان التنظيم الإرهابي يعمل على تنفيذها في أوروبا، قبل إحباطها، خلال الفترة الماضية".
هذه التحذيرات يبدو أنها تعتمد على تحليل لاستراتيجية تنظيم "داعش" الأخيرة والتي تركز بشكل أساسي على ما يسميه التنظيم بـ"العدو الآني" و"العدو البعيد"، مع منح الأولوية لـ"العدو البعيد" في نمط الاستهداف عبر التركيز على هجمات الخارج وخصوصاً في دول أوروبا، والأهم من ذلك هو قيام التنظيم، حسب تقارير عديدة، بإنشاء وحدتين: الأولى خاصة بـ"الاستخبارات الغربية"، والثانية معنية باستقطاب ما يسمى "الذئاب المنفردة" بالدول العربية والإسلامية، ولا سيما دول آسيا الوسطى، لتنفيذ عمليات ضد أهداف بهذه الدول.
وحدة "صقر"
هذه الوحدة أطلق عليها التنظيم مسمى "صقر"، وقد حظيت باهتمام خاص من جانبه، بعد أن نجحت جهود مكافحة الإرهاب المحلية والدولية في الحد من قدرات التنظيم خلال السنوات الثلاثة الماضية وإضعاف قدرته على التجنيد والاستقطاب، وهو ما دفعه للاعتماد على تلك الآلية منذ منتصف العام الماضي.
وقد أكدت السلطات الألمانية ذلك بإعلانها، في 7 يوليو الماضي، عن شن حملة اعتقالات استهدفت 7 أفراد من الطاجيك والتركمان والقرغيز مرتبطين بشبكة تابعة لـ"داعش خراسان"، كان يشتبه في تخطيطهم لهجمات في ألمانيا. كما ألقى القبض على 3 رجال في ولاية شمال الراين وستفاليا الألمانية، بسبب خطط لمهاجمة كاتدرائية كولونيا ليلة رأس السنة الجديدة، فضلاً عن تنفيذ مداهمات أسفرت عن 3 اعتقالات أخرى في النمسا، وواحدة في ألمانيا في 24 ديسمبر الماضي. وحسب ما نقلته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية عن تقرير للأمم المتحدة، فإن "بعض الأفراد من شمال القوقاز وآسيا الوسطى الذين يسافرون من أفغانستان باتجاه أوروبا يمثلون فرصة لتنظيم داعش خراسان، الذي يسعى إلى شن هجمات عنيفة في الغرب".
هذه التحذيرات اكتسبت وجاهة خاصة بعد تنفيذ العملية الإرهابية في موسكو، حيث اتضح أن العناصر التي اعتقلتها السلطات الروسية تحمل جنسيات بعض دول آسيا الوسطى الإسلامية، وهي الدول التي أصبحت أرضاً خصبة لتنظيم "داعش" في عمليات الاستقطاب والتجنيد، بالإضافة لتواجد الآلاف من العناصر الإرهابية من جنسيات دول مثل طاجيكستان وقيرغيزستان وكازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان في سوريا بعضهم تابع لتنظيم "داعش" وتم نقل عناصر منهم لمناطق ارتكاز أخرى للتنظيم في أفغانستان وأفريقيا، وبعضهم الآخر تابع لتنظيمات إرهابية أخرى في شمال غرب إدلب، حيث يسعى التنظيم إلى استغلال الخلاف المتصاعد داخل تنظيم "هيئة تحرير الشام" بقيادة أبي محمد الجولاني لاستقطاب مزيد من عناصره.
تكتيك "التمساح"
في إطار اعتماد "داعش" حالياً على أسلوب حرب العصابات، في ظل تأكيد قيادته على أنه يمر حالياً بـ"فترات ما قبل التمكين"، والتي لا يكون فيها للعناصر الإرهابية أي منطقة تصلح منطلقاً للهجمات الإرهابية أو بؤرة للاختباء فيها، بالتوازي مع التركيز على العمليات الفردية والمجموعات الصغيرة عبر استخدام الأسلحة الخفيفة مع استهداف أكبر للمدنيين وأجهزة الأمن والمصالح الاقتصادية، بدأ التنظيم في تبني ما يسمى بـ"تكتيك التمساح" الذي يعتمد على العمليات الإرهابية المفاجئة التي تقوم على محدودية النطاق واتساع التأثير والبدائية في الأسلحة المستخدمة، وتحويلها إلى عمليات انتقامية أو استنزافية بعد أن كانت عمليات ذات أهداف توسعية. ويمكن تفسير لجوء التنظيم إلى هذا التكتيك في ضوء رغبته في إثبات الوجود، مع التحايل على الإجراءات الأمنية عبر الاعتماد على ما يوفره هذا التكتيك من صعوبة في تعقب العمليات الإرهابية أو التنبؤ بحدوثها. ويتضمن تكتيك التمساح" ما يلي:
1- استهداف المدنيين الأوروبيين: يعتبر المدنيون الأوروبيون أول المستهدفين وفقاً لهذا التكتيك، نظراً لسهولة عملية الاستهداف سواء للجاليات الأوروبية المنتشرة في دول العالم (سياح أو عاملين) أو للمواطنين في الداخل الأوروبي، بالاعتماد على بعض العناصر المسلمة الغاضبة والتابعة للتنظيم أو ما يطلق عليهم "جمهور التنظيم غير المنظم"، حيث تعمل قيادة "داعش" على تنظيم هذه العناصر بشكل دقيق وربطهم أكثر بالتنظيم ليتحولوا من "جمهور للتنظيم" إلى "أعضاء منظمين ومقاتلين تابعين لداعش". ويعتمد هذا التكتيك على الدعوة السابقة لأبي محمد العدناني الناطق السابق باسم "داعش"، والخاصة بالتركيز على المتعاطفين مع التنظيم والغاضبين في أوروبا.
2- استخدام أسلحة بسيطة ومتوفرة: يعتمد تكتيك التمساح على استهداف دول أوروبا عبر وسائل بدائية مثل العبوات الناسفة بدائية الصنع، وعمليات القتل الفردي، والاختطاف، والتي يمكن من خلالها إحداث تأثير أكبر بتكلفة أقل، كما حدث في العملية الإرهابية التي وقعت في 16 أكتوبر 2023 بمحيط ساحة سانكتيليت شمالي العاصمة البلجيكية بروكسل، حيث قام أحد العناصر الداعشية المعروف باسم "عبد السلام المهاجر"، بمهاجمة المدنيين بسلاحه الرشاش، ما أدى إلى مقتل إثنين وإصابة إثنين آخرين، وهو ما تكرر عبر العملية الإرهابية الأخيرة في موسكو، على نحو يرجح اندفاع التنظيم نحو تنفيذ مزيد من العمليات عبر هذا التكتيك.
مرشحون آخرون
رغم التقارير المتعددة التي أصدرتها بعض أجهزة الاستخبارات، فضلاً عن تحليلات عدد من المتخصصين الدوليين، وتصريحات بعض المسئولين الحكوميين الأوروبيين مثل تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 25 مارس الجاري، والذي قال فيه إن "جماعة داعش خراسان التي تقف وراء إطلاق النار في موسكو حاولت أيضاً ارتكاب عدة أفعال في فرنسا في الآونة الأخيرة"، إلا أنه بتحليل دقيق لبيانات تنظيم "داعش خراسان" بالإضافة لتحليل مضمون الفيديو الوحيد الذي صدر عن تنظيم "داعش" المركزي، والذي خرج باسم تنظيم "داعش خراسان"، يتضح أن التنظيم يركز في بياناته ونشراته الإعلامية على ثلاث أهداف رئيسية: الأول، حركة طالبان الأفغانية. والثاني، دول جوار أفغانستان (باكستان وإيران). والثالث، الصين وروسيا، في إطار ما يطلق عليه التنظيم "العدو البعيد".
هذه الأهداف الثلاثة لتنظيم "داعش خراسان" تفوق مستويات الاستهداف لباقي أفرع التنظيم المختلفة بدول الارتكاز الأخرى، حيث اعتمدت الأخيرة على مفهوم "العدو الآني" أو "العدو القريب"، ما يجعل من تنظيم "داعش خراسان" الفرع الذي ورث بنية وقائمة استهدافات تنظيم "داعش" المركزي مقارنة بباقي أفرع التنظيم الستة عشر الأخرى.
في المجمل، يفرض تنظيم "داعش خراسان" العديد من التحديات خلال الفترة الحالية، منها ما هو مرتبط بتنامي واتساع نشاطه الإرهابي داخل أوروبا والجوار الأفغاني، ومنها ما يتصل باستعداده لتعزيز النفوذ في غرب أفريقيا والساحل الأفريقي، مستغلاً في هذا السياق التطورات الأمنية والسياسية التي تشهدها تلك المناطق، على غرار استمرار ظاهرة الانقلابات العسكرية، وتراجع نفوذ الدول الغربية.