فور صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2728، في 25 مارس الجاري (2024)، بشأن الحرب الجارية في غزة بين إسرائيل وحماس، نشبت مناقشات واسعة حول مدى فاعليته وإلزاميته، وهل يمكن أن يؤدي إلى وقف الحرب؟، وما هي الخطوة التالية إذا لم تقبل الأطراف المعنية (إسرائيل وحماس) تنفيذه؟
من الناحية المبدئية وبشكلٍ عام، لا تعتبر الصيغة التي تصدر بها قرارات مجلس الأمن صيغة تطبيقية في حد ذاتها، حيث يحتاج التطبيق إلى وضع تفسير متوافق عليه أولاً. وعادة ما استغلت إسرائيل تلك الثغرة للتنصل من القرارات الدولية عبر جر الطرف أو الأطراف الأخرى المعنية بهذا القرارات نحو جدل قانوني لا ينتهي حول تفسيرها. والحالة الشهيرة علي ذلك تتعلق بالجدل الذي أثارته إسرائيل على قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام1967 والذي كان ينص في أحد بنوده على انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها في ذلك العام، إذ دفعت إسرائيل في حينها وعلى مدى السنوات التالية بأن القرار نص على الانسحاب من "أراضٍ" وليس "الأراضي"، وبالتالي فسرت القرار على أنه يدعو للانسحاب من "بعض" وليس "كل" الأراضي التي احتلتها، واعتبرت أن انسحابها من سيناء بعد توقيع اتفاق السلام مع مصر عام1979 بمثابة تنفيذ كامل للقرار، وبالتالى لم تعد، وفقاً لرؤيتها، مٌلزمة بالانسحاب من الضفة الغربية والجولان!!
على المنوال نفسه، يمكن توقع مصير القرار 2728 الذي احتوى على صيغ مٌربِكة وقابلة لتفسيرات متعددة بل ومتناقضة، على نحو يعني أن هذه الصيغ ستجعله، في الغالب، غير قابل للتطبيق من حيث كونه غير محدد التفسير.
صيغة القرار وثغراته
ينص القرار على البنود التالية:
1- وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس يجب أن يكون "فورياً" و"تحترمه جميع الأطراف خلال شهر رمضان، ما يفضي إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار".
2- الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن.
3- ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، برفع جميع الحواجز التي تحول دون تقديم المساعدات الإنسانية على نطاق واسع.
من الملاحظ أن مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة جلعاد أردان، والذي تحدث في جلسة التصويت على القرار، لم يعلن صراحة رفض بلاده للقرار، مكتفياً بوصفه أنه "يتسم بعدم الإنصاف" بسبب عدم إدانته لحماس على خلفية هجومها الذي أشعل الحرب في 7 أكتوبر الماضي، وهو الموقف نفسه الذي اتخذه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، حيث اكتفى بإصدار بيان قال فيه: "إن القرار يعطي حماس الأمل في أن الضغوط الدولية سوف تسمح لها بالحصول على وقف إطلاق النار من دون إطلاق سراح مختطفينا، الأمر الذي يضر بالمجهود الحربي وجهود إطلاق سراح الرهائن".
والواضح أن عدم إعلان إسرائيل رفضها الصريح للقرار قد أتى بسبب يقينها من أن الخلافات حول تفسير بنوده ستؤدي عملياً إلى إهماله، وعدم القدرة على تنفيذه.
فعلى الجانب الأول، يتحدث القرار عن وقف لإطلاق النار خلال شهر رمضان، الذي لم يتبقى منه سوى أسبوعين فقط، وهو ما يجعله وقفاً مؤقتاً وليس دائماً للحرب، ويتسق النص مع الموقف الإسرائيلي المنفتح على التوصل لهدن أو عدة هدن وليس على الوقف التام للقتال. وحين يتحدث القرار عن الوقف الدائم لإطلاق النار فهو يستخدم تعبير "الدعوة" إلى ذلك، وليس النص على فرض "الوقف" الصريح للقتال، وهي صيغة لا تحمل أي إلزام حقيقي لإسرائيل بإيقاف الحرب.
وعلى الجانب الثاني، لم يوضح البند الخاص بالإفراج عن "الرهائن" Hostages من هم المقصودين بذلك: هل هم من تسميهم إسرائيل بـ"المخطوفين"، وهم مواطنيها وجنودها الذين تحتجزهم حماس، منذ هجومها على إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي فقط، أم أن التعبير يشمل أيضاً عناصر التنظيمات الفلسطينية الموجودين في السجون الإسرائيلية، سواء من تلقوا أحكاماً قضائية أو ممن يزالوا قيد التحقيقات؟. وإذا كان المقصود من القرار هو دعم عملية تبادل للأسرى، فلماذا لم يتم النص على ذلك صراحة؟
إن من صاغوا القرار ربما تحسبوا للاعتراضات التي يمكن أن تواجه عملية تمريره إذا ما تم استخدم تعبير "الأسرى" بدلاً من تعبير "الرهائن". فمن ناحية، تعتبر إسرائيل والولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية أن حماس حركة "إرهابية" لا يجوز التعامل مع نشطائها على أنهم مقاتلون لهم حقوق حين يقعون في الأسر، وذلك بموجب القانون الدولي الذي ينظم معاملة أسرى الحروب. ومن ناحية أخرى- حسب وجهة النظر هذه- فإن وضع إسرائيل يختلف عن وضع قطاع غزة، فعلى حين أن إسرائيل دولة معترف بها وتحتل مقعداً في الأمم المتحدة، فإن الصفة القانونية للقطاع تبقى ملتبسة، حيث أنه لم يعد إقليماً خاضعاً للسلطة الفلسطينية المٌعترف بها دولياً وذلك منذ استيلاء حماس على حكم القطاع عام 2007، كما أنه لا يعد إقليماً محتلاً في نظر القانون الدولي بعد انسحاب إسرائيل منه عام 2005 (وهي الحجة التي استخدمها جلعاد أردان مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة أثناء مشاركته في الجلسة التي تمخض عنها القرار 2728).
وقد يعتبر البعض أن عقد إسرائيل اتفاقاً لتبادل "السجناء" مع حماس من قبل وفي عدة سوابق، هو اعتراف من جانبها بأن الاتفاقات السابقة والمستقبلية تعني إقرارها بأن سجناء حماس والتنظيمات الفلسطينية الأخرى لديها هم "أسرى"، ولكن من المتوقع أن تحاول إسرائيل في إطار معركة تفسير القرار استخدام حجج من نوع أن الدول التي تواجه "تنظيمات إرهابية" قد تضطر للإفراج عن بعض نشطائها، بمقتضى صفقات قد تعقدها، وأن إسرائيل مثلها مثل أي دولة في سعيها لإنقاذ حياة مواطنيها، قد تقدم على عقد مثل هذه الصفقات، دون أن يعني ذلك اعترافها بأن من أفرجت عنهم هم "أسرى حرب"، وهو ما ينطبق على ما فعلته الولايات المتحدة نفسها مع تنظيمات مثل القاعدة وحتى داعش.
وعلى الجانب الثالث، تحدث القرار عما أسماه "إزالة" كافة الحواجز التي تعوق وصول المساعدات الإنسانية لسكان القطاع، دون أن يحدد الجهة التي تعوق ذلك. ويمكن تصور أن المماحكات القانونية التي سوف تستخدمها إسرائيل لعدم التعامل مع القرار إجمالاً وهذا البند خاصة، هي أن حماس تقوم بالاستيلاء على تلك المساعدات وتنقلها إلى مقاتليها المختبئين في الأنفاق، وبالتالى يمكن أن ينطبق هذا البند أيضاً عليها كونها تحرم السكان المدنيين منها لصالح أعمالها الحربية. كما يمكن توقع أن تستغل إسرائيل الاتهامات التي وجهتها إلى منظمة "الأونروا" بأن بعض موظفيها شاركوا في الهجوم الذي شنته حماس ضدها، لكى تزعم أن المنظمة يمكن أن تكون "جهة معيقة" لوصول الإمدادات، وينطبق عليها منطوق القرار، خاصة أن العديد من دول العالم قد "صدقت "مثل تلك الاتهامات وقامت بتعليق مساهمتها المالية للمنظمة لفترات مختلفة.
بمعنى أكثر وضوحاً، تُبين الملاحظات الثلاث السابقة كيف يمكن لإسرائيل التنصل من تطبيق القرار الآنف الذكر، وحتى لو طالبت الدول العشرة غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، والتي قدمت القرار، بمتابعة عملية تنفيذه، فستكون الذرائع السابقة حاضرة لإفساد مثل هذه المتابعة، بحيث لا يمكن استصدار قرار آخر يدعو لفرض عقوبات على إسرائيل بحجة أنها لم تلتزم به.
والجدير بالذكر أن السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس جرينفيلد أوضحت أن القرار "غير ملزم" لأن اللائحة التي تحكم صدور القرارات من مجلس الأمن تشترط لتمرير أي قرار من المجلس أن يحظى بالأغلبية، بشرط عدم استخدام أي من القوى العظمى الخمس حق الفيتو، ولكن القرار أيضاً لا يعتبر مٌلزماً حتى لو وافقت عليه الأغلبية في المجلس، إذا ما امتنعت إحدى القوى العظمى عن التصويت عليه، وبالتالى فإنه على الرغم من مرور القرار بأغلبية 14 صوت، فإن امتناع الولايات المتحدة عن التصويت جعله - بموجب اللائحة المشار اليها- قراراً "غير مٌلزم".
تأثير القرار على العلاقات الأمريكية–الإسرائيلية
اعتبر بعض المعلقين أن عدم استخدام الولايات المتحدة لحق الفيتو لمنع صدور القرار هو بمثابة تحول كبير في السياسة الأمريكية حيال إسرائيل!. غير أن ملاحظات عديدة قد تقود إلى إبطال هذا الاستنتاج وعلى رأسها:
1- إن الولايات المتحدة قد امتنعت عن التصويت، بدلاً من الموافقة على القرار، والذي لو كان قد حدث لأصبح مٌلزماً، وبالتالى فهي في الواقع قدمت نوعاً من الحماية الجزئية لإسرائيل من تلقي قرارات مستقبلية قد تسعى لفرض عقوبات عليها.
2- إن السفيرة الأمريكية جرينفيلد اعتبرت أن تنفيذ القرار يبدأ من عند حماس بالقيام بالإفراج عن الرهائن، أو بالقبول بصفقة تبادل "المخطوفين" الإسرائيليين و"السجناء" الفلسطينيين وفق التصور الأمريكي (هدنة أو مجموعة هدن مؤقتة وتبادل للأسرى وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية)، أي أنها تتفق من الأصل مع الموقف الإسرائيلي الرافض لإيقاف إطلاق النار بشكل دائم.
3- من الصعب البناء على عدم استخدام واشنطن حق الفيتو لمنع القرار، كونه غير ملزم، لترجيح حدوث تحول كبير في السياسة الأمريكية حيال إسرائيل، حيث يحتاج هذا الاستنتاج إلى اختبار عملي عندما تسعى بعض الدول مستقبلاً لاستصدار قرارات عقابية ضد إسرائيل.
4- إن القرار الأمريكي بالامتناع عن استخدام حق الفيتو يمكن فهمه فقط على أنه محاولة من جانب واشنطن للضغط على إسرائيل لتأخير العملية البرية التي تستعد لها في رفح إلى ما بعد نهاية شهر رمضان، حيث لا تعارض واشنطن شن هذه العملية من حيث المبدأ، بل تريد وضع قيود عليها تفادياً لاستفزاز مشاعر المسلمين في شهر رمضان. كما تريد ضمان نقل أكبر عدد من السكان المدنيين في المدينة إلى مناطق آمنة قبل شن العملية حتى تتجنب الإدانات الدولية إذا ما تسببت تلك العملية في إسقاط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين.
5- إن الامتناع عن استخدام حق الفيتو من جانب الولايات المتحدة ربما يمكن فهمه أيضاً في إطار سعى الرئيس جو بايدن لعدم إغضاب الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي، والكتل الانتخابية العربية والإسلامية قبل الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في 5 نوفمبر المقبل، خاصة مع تعالى الانتقادات لسياسته المنحازة لإسرائيل من الجانبين.
بمعنى أكثر وضوحاً، وفي إطار تلك العناصر الخمس، لا يمكن القول بشكل يقيني بأن هناك تحولاً كبيراً في السياسة الأمريكية حيال إسرائيل، ويمكن أن تُبين التطورات المقبلة في الحرب الإسرائيلية في غزة مدى محدودية هذا التحول بل ومدى هشاشة العناصر التي اعتمد عليها.