سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

يأتي إنتاج وإذاعة المسلسل المصري الضخم والمبهر فنياً وفكرياً "الحشاشين" بمثابة اختيار صائب للكيفية التي يمكن أن تستثمر فيها مصر في أحد عناصر مثلث القوة (القوة العسكرية، القوة الاقتصادية، القوة الناعمة) الذي يجب أن يتوفر لأي دولة لكي تلعب دوراً مؤثراً في محيطها الخارجي، يعضدد من مصالحها، ويعزز من حماية تماسكها الداخلي من خلال كشف الأفكار والتوجهات المشبوهة، لمواجهة الأخطار التي تتعرض لها من أكثر من جهة. ذلك أن القوتين العسكرية والاقتصادية على الرغم من أهميتهما البالغة في مثلث قوة الدولة، إلا أنهما لا تغنيان عن ضرورة توفر الضلع الثالث وهو "القوة الناعمة"، إذا ما أرادت الدولة (أي دولة) تحقيق أهدافها الشاملة.

وعلى مدى التاريخ القديم والحديث، كانت القوة الناعمة المصرية (فنونها، آدابها، ودياناتها... إلخ) أحد أهم أسلحتها في صياغة وتماسك النسيج الاجتماعي في الداخل، والتأثير على الخصوم والمنافسين في الخارج بما يخدم المصالح الاستراتيجية للدولة والمجتمع والهوية المصرية.

ويتناول مسلسل الحشاشين أحد أخطر القضايا التي هددت استقرار الدول والمجتمعات في الماضي والحاضر (ويمكن أن تبقى تهديداً جسيماً في المستقبل)، وهي قضية توظيف الدين من خلال فكر منحرف من أجل تدمير الدول، إما لصالح أصحاب هذا الفكر ذاته، أو من أجل خدمة القوى الخارجية المعادية أو المنافسة لهذه الدولة أو تلك.

هذا المقال لا يستهدف تقديم نقد فني لهذا العمل الكبير، رغم أنه يستحق الإشادة ولفت الانتباه إليه من كافة أوجهه الفنية (الإخراج، السيناريو، التمثيل، الموسيقى، الديكور…إلخ)، بقدر ما يهدف إلى تسليط الضوء على القضية التي يناقشها، ومدى ما يمكن أن يسهم به هذا العمل إجمالاً في دعم القوة الناعمة المصرية.

الحشاشين بين التاريخ والدراما

منذ البدايات المبكرة لاستلهام الوقائع والشخصيات التاريخية في الدراما المصرية، أثار الكثير من الباحثين والنقاد قضية مدى التزام كُتَّاب الدراما بالحقائق التاريخية عند كتابتهم لمثل تلك الأعمال. وعلى حين شدد فريق منهم على ضرورة أن يعكس العمل الدرامي الواقع التاريخي للفترة التي يتناولها كما لو كان ترجمة "بصرية" لتلك الوقائع أو الشخصيات كما وردت في الدراسات الأكاديمية، ذهب فريق آخر إلى أن الدراما التاريخية لا تساوي الأعمال التوثيقية، وأن الدراما التاريخية هي رؤية خاصة بكاتبي السيناريو ومخرجي مثل هذه الأعمال، ولا يجب محاسبتهم على تلك الرؤية بمعايير الدراسات الأكاديمية. وقد كان الروائي المصري صاحب جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ من أصحاب نهج الفريق الثاني، حيث رفض على الدوام التدخل في عمل المخرجين وكُتَّاب السيناريو عندما نقلوا بعض أعماله الروائية إلى السينما أو الإذاعة والتليفزيون.

وكما كان متوقعاً منذ عرض الحلقة الأولى لمسلسل الحشاشين، عاد الجدل حول المسلسل وفق منطق الفريقين السابقين. وركز هذا الجدل على أربع نقاط؛ ثلاثة منها تمثل الطرح التقليدي للمدرسة التي تريد محاسبة الأعمال الدرامية على ما تسميه ضرورة الالتزام بالوقائع التاريخية كما تناولتها الدراسات الأكاديمية، أما النقطة الرابعة فتجسد الحجة الواهية التي تحاول إثارة المشاهدين ضد الأعمال الفنية الضخمة من زاوية اقتصادية–اجتماعية لإخفاء هدفها الرئيسي الكامن إما في عدم إدراكها لأهمية القوة الناعمة للدول، أو في استخدام الحجة نفسها لأسباب سياسية واضحة. وتتلخص هذه النقاط الأربع فيما يلي:

1- إن السيناريو تبنى رواية غير صحيحة تاريخياً عن علاقة الشخصيات الرئيسية الثلاث في العمل ببعضهم البعض: الوزير "نظام الملك" (وزير الدولة السلجوقية)، والفيلسوف والشاعر عمر الخيام، وحسن الصباح مؤسس طائفة الحشاشين.

2- إن العمل اعتمد على اللهجة المصرية وليس على اللغة العربية الفصحى، بالمخالفة لما درجت عليه معظم الدراما التاريخية من الاعتماد على الفصحى.

3- إن العمل بأكمله بدا وكأنه يستهدف الإسقاط على أوضاع الحاضر، وبالتالي كان مضطراً لتشويه الحقائق التاريخية.

4- إن شركة المتحدة للخدمات الإعلامية قد قامت بإنتاج هذا العمل المُكلف ماليا في الوقت الذي تمر فيه مصر بأزمة اقتصادية.

لكن يمكن تفنيد هذه النقاط على النحو التالي:

فيما يتعلق بالنقطة الأولى، وعلاوة على أنها تنطلق من انحياز لرؤية لا تدرك الفارق بين الدراسات الأكاديمية التي تتناول تاريخ حقبة معينة أو شخصيات مُختارة، وبين الدراما التاريخية من حيث كونها فناً يقوم على استلهام التاريخ من أجل التنبيه لقضايا محددة مثل استغلال الدين وتوظيفه في صراعات السلطة، وخداع الجمهور بتصوير الصراع كما لو كان صراع المؤمنين ضد المعادين للدين… علاوة على ذلكً فإن هذه الرؤية تحاول الإيحاء بأن الدراسات التاريخية نفت بشكل مؤكد نوع العلاقة التي ربطت بين الشخصيات الثلاثة تاريخياً، وهو زعم غير صحيح، فبعض الدراسات التاريخية أوردت هذه العلاقة كإحدى الروايات التي يعتمد عليها الباحثون في تاريخ هذه الطائفة.

كما أن وجود روايات متعددة عن الأزمنة التي عاشت فيها الشخصيات الثلاثة، وعن نوع العلاقة التي ربطت بينهم وتطوراتها، تسمح لصانعي الدراما بالاعتماد على إحدى هذه الروايات وحدها، طالما أنها تخدم فكرتهم. بالإضافة إلى ذلك، هناك حقيقة واضحة وهي أن أغلب الدراسات الأكاديمية عن طائفة الحشاشين اعترفت بغياب المصادر الأصلية عن الطائفة، كما اختلفت في تحديد سنوات مولد ووفاة كل من الشخصيات الثلاثة مما يعضد من حق أصحاب المسلسل في تبني رواية محددة عن وجودهم التاريخي، للسبب نفسه وهو خدمة رؤيتهم الفنية للقضية التي يناقشونها.

ثانيا، وفيما يتعلق باستخدام اللهجة العامية المصرية وليس اللغة العربية، فإن ذلك يعتبر واحداً من مزايا المسلسل الذي ضمن أوسع مشاهدة ليس في مصر وحدها بل يمكن أن يضمن أيضاً استقباله بشكل جيد في العالم العربي الذي يفهم أغلب أبناءه العامية المصرية. كما أن قضية لغة العمل نفسه والتي كان البعض يريد أن تكون هي اللغة العربية الفصحى تتناقض مع مطلب الالتزام بالحقيقة التاريخية، حيث أن  أحداث العمل تدور معظمها في إيران القديمة، ومناطق أخرى في الشام ومصر في بدايات القرن الحادي عشر، وهي فترة لم تكن اللغة العربية هي لغة البلدان التي دخلها الإسلام، حيث لم تتحول معظم هذه البلدان إلى التحدث بالعربية إلا في مراحل متأخرة، وبعضها مثل إيران لم يتحول للعربية على الإطلاق (وهو الوضع القائم حتى اليوم). كما أن مصر نفسها لم تنطق بالعربية بشكل كامل إلا في القرن الرابع عشر الميلادي (كما يذكر أدم ميتز في كتابه: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري – الحادي عشر الميلادي)، وبالتالي لا وجهة للاعتراض على استخدام العامية المصرية في المسلسل لكل هذه الأسباب مجتمعة.

أما فيما يتعلق بالاعتراض الثالث الذي يرى أن المسلسل استهدف إجراء عملية إسقاط من الماضي على الحاضر الذي اكتوت فيه مصر والعالم العربي بممارسات الجماعات الإرهابية مثل الإخوان والقاعدة وداعش والجماعات الجهادية العنيفة، فإن ذلك قد يكون صحيحاً ولكن في إطار حقيقة أكبر وهي أن المسلسل ينبه إلى خطورة استغلال الدين والتفسيرات الخبيثة له من جانب بعض الجماعات والشخصيات للتأثير على البسطاء ودفعهم لارتكاب أعمال الاغتيال والتخريب التي كما قادت إلى خراب العالم الإسلامي في الماضي فإنها لا تزال قادرة على تهديد الحاضر والمستقبل أيضاً. والواقع الذي لا يمكن لأحد إنكاره ليس في مصر والعالمين العربي والإسلامي وحدهم، أن استخدام الدين في الصراعات السياسية يمكن أن يؤدي إلى هدم المجتمعات، وهو ما حدث لكل الأديان الأخرى حتى في بلدان مثل الولايات المتحدة واليابان عندما أرادت الجماعة الشهيرة التي تزعمها تشارلز مانسون في ستينات القرن الماضي، تحت زعم أنه المسيح الجديد في نهاية الستينات من القرن الماضي، استغلال الدين من أجل خلق الفوضى وجر المجتمع الأمريكي نحو حرب أهلية بين البيض والسود، وهو نفس ما حاولت القيام به جماعة عُرفت في اليابان باسم "أوم شينريكو" Aum Shinrikyo (وتعني الحقيقة السامية) في 1987، وهي تقوم على مزيج من الأفكار البوذية والهندوسية والتنبؤات بيوم القيامة، حيث ارتكبت هذه الجماعة جريمة إطلاق غاز سام في إحدى محطات المترو في طوكيو تحت وهم أن هذا الاغتيال الجماعي للأبرياء سيُعجِّل بنهاية العالم الفاسد وعودة الطائفة المؤمنة لحكمه. ولا تختلف الفكرة نفسها أيضاً عن جماعة "التكفير والهجرة" التي ظهرت في مصر في منتصف سبعينات القرن الماضي واغتالت وزير الأوقاف المصري حسين الذهبي بسبب كشفه لانحراف الجماعة عن صواب الدين.

بمعنى أكثر وضوحاً، ينضم مسلسل الحشاشين إلى الأعمال الإبداعية التي تحذر من خطورة الاستغلال المنحرف للدين، والذي يمكن حال ترجمته أو دبلجته بعدة لغات أن يساهم في التوعية بخطورة الإرهاب المتلحف بالدين على مستوى العالم كله نظراً للمستوى الراقي فنياً الذي يقدمه المسلسل، والذي يمكن أن يجذب المشاهدين من ثقافات متنوعة.

أخيرا، يمكن القول إن ما قامت به الشركة المتحدة، من خلال إنتاج هذا العمل الفني الضخم، يمثل خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، ليس فقط من أجل دعم القوة الناعمة المصرية بشكل عام، أو التوعية بخطورة الجماعات الدينية التي تنتهج العنف، ولكن أيضاً من أجل وضع الدراما التاريخية المصرية في المكان الذي تستحقه، خاصة في ظل محاولات عدة من جانب صانعي الدراما التاريخية في دول أخرى في الإقليم تقديم صورة مشوهة لتاريخ المنطقة، وما تعرضت له من نهب وتدمير لمعظم الحضارات والثقافات التي عرفها العالم العربي لمصلحة المشروعات الإقليمية لهذه الدول، وكجزء من جهودها المخططة لإظهار قوتها الناعمة وتحقيق أطماعها في المنطقة العربية.