د. عبد العليم محمد

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

مقدمة

تستهدف هذه الدراسة تشخيص المفاهيم المركزية التى رافقت حركة التحرر الوطنى الفلسطينى فى نسختها المعاصرة؛ تلك التى بدأت مع انطلاقة حركة "فتح" عام 1965 والفصائل الفلسطينية المُقاوِمة وانضمامها إلى منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها لها منذ عام 1969، ولعبت هذه المفاهيم المركزية دورا أساسيا فى تحديد دوائر الحركة الفلسطينية على الصعيد الداخلى والعريى والدولى والإقليمى، ومثلت مرجعية نظرية وفكرية لتوجيه النضال الفلسطينى.

هذه المحاولة لتشخيص المفاهيم ليس الهدف منها التذكير بها فحسب، بل تأكيد قدرتها وفاعليتها فى الممارسة الميدانية والعملية فى تحقيق المنجزات والمكتسبات للحركة الوطنية الفلسطينية، وتعزيز مواقعها على الخريطة الدولية كحركة تحرر وطنى حازت السبق فى الاعتراف القانونى من قبل المجتمع الدولى ممثلا فى هيئة الأمم المتحدة وجمعيتها العامة.

وتجمع هذه الدراسة بين إثبات الفاعلية والتأثير لهذه المفاهيم فى المرحلة التأسيسية للنضال الفلسطينى، فى العقود التى تلت ظهور "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأهلية وملاءمة هذه المفاهيم أو العديد منها لإنقاذ الموقف الفلسطينى، وإعادة تأسيس الحركة الوطنية الفلسطينية وتجنب غموض مسار أوسلو والتباسه.

ترصد الدراسة العديد من هذه المفاهيم المركزية ومن بينها الفكرة الوطنية الفلسطينية الجامعة كبديل للأيديولوجيات التى تختزل الواقع وكذلك مفهوم التفوق الأخلاقى الذى ميز مسار الحركة الوطنية الفلسطينية فى مواجهة أعدائها؛ إسرائيل والصهيونية، وكذلك مفهوم بناء الوعى المزدوج بالهوية الوطنية الفلسطينية من جانب وبطبيعة الصراع مع إسرائيل ككيان استيطانى عنصرى، والتكامل بين التحرر الفلسطينى والتحرر العالمى وغيره من المفاهيم، والتى تمثل عينة للمنظومة المفهومية التى اعتمدتها حركة التحرر الوطنى الفلسطينى.

وبالرغم من أن هذه الدراسة قد تم إنجازها قبل عملية "طوفان الأقصى" فى السابع من أكتوبر عام 2023، والعدوان الذى لحقها على الشعب الفلسطينى فى غزة، والمقاومة الفلسطينية والمستمرة منذ ذلك التاريخ وحتى الآن؛ إلا أن تداعيات عملية "طوفان الأقصى" والمواجهة غير المتكافئة بين المقاومة وبين جيش الاحتلال الصهيونى قد دفعت إلى الصدارة وجدول الأولويات، إن على الصعيد الفلسطينى أو العربى أو الدولي، جملة القضايا التى أثارتها هذه الدراسة وانتهت إلى تشخيص للمشكلات التى تواجه النضال الفلسطينى والحركة الوطنية الفلسطينية، خاصة فى ظل انزياح المجتمع الإسرائيلى نحو اليمين وقيمه، وصعود الائتلاف الدينى والقومى المتطرف منذ ديسمبر عام 2022 فى انتخابات الكنيست الأخيرة. ومن بين هذه القضايا إنهاء الانقسام ورصد آثاره فى الواقع، وضرورة توحيد الموقف الفلسطيني، وكذلك إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وبناء النظام السياسى الفلسطينى على أسس ديمقراطية ومن خلال الانتخابات واعتماد قاعدة ومبدأ الأغلبية الديموقراطية، وكذلك الفصل بين السلطة الوطنية وبين منظمة التحرير الفلسطينية صاحبة الولاية عليها، واعتبار المنظمة هى الوعاء التمثيلى الأكبر والأهم فى النضال الفلسطيني، وضرورة استئناف نشاط المنظمة إن فى الداخل بصورة محدودة أو فى الخارج بصورة أكبر، وفى نفس الوقت ضرورة انضمام منظمات المقاومة الإسلامية كحركة "حماس" و"الجهاد الإسلامى" إلى هياكل ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية واعتبار ذلك ضرورة وطنية إن من حيث أهداف النضال الوطنى أو من حيث الحفاظ على هذه المنظمات واستيعابها فى ديناميكية النضال الفلسطينى وانتشالها من المتربصين بها إقليميا ودوليا لوضعها فى إطار الإرهاب، على غرار ما فعلت إسرائيل عقب "طوفان الأقصى"، حيث ربطت بين داعش وحماس والحادى عشر من سبتمبر عام 2001، بهدف استحضار رد فعل دولى على غرار ما حدث مع التحالف الدولى ضد داعش أو رد الفعل الأمريكى ضد إرهاب القاعدة.

ولا شك أن هذه المصادفة وذلك التشابه بين القضايا الُتى طرحت فى أعقاب طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلى على المقاومة وغزة ومحاولة تنفيذ خطط التهجير ومخطط الحسم وغيرها من الأهداف الإسرائيلية المعلنة وغير المعلنة، وبين القضايا التى تطرقت إليها هذه الدراسة، لا يعود إلى التنبؤ والاستشراف، بل يعود فى المقام الأول إلى أن هذه القضايا هى قضايا مفصلية فى الشأن الفلسطينى، ومدار مناقشات وحوارات فلسطينية- فلسطينية، وفلسطينية- عربية، وحتى دولية، بيد أن الكشف عنها وصدارتها لجدول الأعمال الفلسطينى والعربى والدولى مدين لطوفان الأقصى والمقاومة الباسلة للمقاتلين الفلسطينيين وحركات المقاومة وصمود الشعب الفلسطينى فى مواجهة جيش احتلال يحتل مرتبة متقدمة فى صفوف الجيوش الكبرى فى العالم وفقا للمعاهد المتخصصة فى دراسات التسليح والجيوش.

جهد الباحث يتمثل فى متابعة هذا الحوار عن قرب وملاحقة تفاصيله وملفاته وإبراز القضايا الصريحة والمضمرة فى ثنايا هذا الحوار وإلقاء الضوء عليها من المنظور الوطنى والقومى والإنسانى والوجدانى وليس من منظور المراقب المحايد.

تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة أجزاء، الأول منها يعالج المفاهيم ويوضح أبعادها وتأثيرها، والثانى يتعلق بمدى ملاءمة وأهلية هذه المفاهيم وصلاحيتها -رغم اختلاف الظروف عن ذى قبل- للتطور الحالى فى الحركة الوطنية الفلسطينية. أما الجزء الثالث فيعالج تفعيل الأداء وإعادة هيكلة النضال الفلسطينى وحركة التحرر الفلسطينية واستشراف آفاق الحلول الممكنة وتجديد الهياكل التنظيمية للنضال الفلسطينى الرسمى والشعبى.

أولاً: التحرر الذاتي في الحالة الفلسطينية

مرت حركة التحرر الوطني الفلسطيني في مسارها الطويل منذ عقد العشرينيات من القرن العشرين، وحتى الآن بمراحل مختلفة قبل وبعد النكبة وإنشاء دولة إسرائيل الصهيونية، مارست فيها كافة أشكال النضال السلمية، من تأسيس الأحزاب والاحتجاج والعصيان المدني والمقاومة في ثورة 1936، وكذلك النضال الدبلوماسي من خلال حضور المؤتمرات الدولية أو ما يسميه بعض الباحثين "دبلوماسية الوفود والمذكرات"[1] من خلال الهيئات والتنظيمات التي تطلعت لتمثيل الشعب الفلسطيني كـ"الهيئة العربية العليا" وحكومة عموم فلسطين.

ورغم تراكم موروث الحركة الوطنية الفلسطينية عبر هذه العقود، فإن العديد من السلبيات رافق هذا الموروث الكفاحي، في مقدمته أن الهيئات التي قادت الكفاح الفلسطيني في هذه الفترة لم تتحصل على التمثيل الكافي للتحدث باسم الشعب الفلسطيني، من ناحية أخرى فإن هذه الحركة عانت من الخلافات والمناكفات بين القيادات المختلفة، وكذلك تعرضت لضغوط عديدة من قبل بعض البلدان العربية.

مثّل ظهور"حركة فتح" في عام 1965 في المشهد الفلسطيني والعربي، نقطة فارقة في تاريخ حركة التحرر الفلسطيني، وجاء ذلك بعد تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964، وقبل تصدرها حركات المقاومة المسلحة وسيطرتها على منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969، وظهور القيادة الفلسطينية الممثلة في الزعيم الوطني الراحل ياسر عرفات كرئيس للجنة التنفيذية للمنظمة، وكان ذلك إيذانا ببدء مرحلة جديدة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، والتي مثلت نقلة نوعية مختلفة عما قبلها من مراحل، إن على الصعيد التنظيمي أو الكفاحي أو الفكري أو السياسي والميداني.

وهذه الأهمية التي حظيت بها منظمة التحرير الفلسطينية وحركات المقاومة الفلسطينية وبالذات حركة "فتح"، التي انضمت إلى منظمة التحرير وقادتها، لم تنبع من فراغ، وإنما لأن المنظمة والحركة الوطنية الفلسطينية تحت قيادتها، قد تبنت مقاربة مفاهيمية استوعبت الواقع الوطني الفلسطيني كما الواقع العربي والإقليمي وكذلك الظروف الدولية على حد سواء. وتتلخص وظيفة المفاهيم في حالة الحركة الوطنية الفلسطينية في توجيه الكفاح الوطني وحدوده وآلياته، كما أنها تساعد في إضاءة الطريق ومعالجة العقبات التي تعترض هذا الكفاح، وتحدد المجالات النوعية لتعزيز مواقع الكفاح الوطني. كما أنها تساهم في إخراج العطاء الوطني الكامن والمحتمل إلى حيز الممكن والواقع، وذلك من خلال استبطان هذه المفاهيم وتمثلها والاسترشاد بها في الممارسة العملية.

وهذه المفاهيم التي استرشدت بها الحركة الوطنية الفلسطينية تحت قيادة منظمة التحرر الفلسطينية في نضالها وأدائها وممارساتها، هي جزء لا يتجزأ من عملية التحرر الذاتي للحركة الوطنية الفلسطينية، بل وأحد إنجازات هذه الحركة، والتي ساهمت في حصيلة المنجزات التى تمكنت المنظمة والشعب الفلسطيني من تحقيقها عبر هذه العقود منذ 1969 وحتى الآن.

في التاريخ الاستعماري المظلم ترافق المدفع والبندقية والعلم والتكنولوجيا والتبشير؛ لإخضاع الشعوب المستعمرة، فالمدفع والبندقية لكسر شوكة مقاومة الغزو والاستعمار، والعلم ومنتجات الحداثة لغواية ذوي الفضول والخيال من أبناء هذا الشعب[2]، أما التبشير فهو لإزاحة الثقافة الوطنية والمعتقدات المحلية وانتزاع هذه الشعوب من ثقافتها.

ولتبرير الاستعمار لجأت المؤسسة الاستعمارية الثقافية لترويج بعض الرسائل باعتبارها الغاية المعلنة للاستعمار، والتي تتناقض مع محتوي ومضمون وأهداف الاستعمار الحقيقية؛ مثل الادعاء بأن الرجل الأبيض له رسالة حضارية ومهمة حضارية تستهدف الارتقاء بالشعوب المستعمرة، أو نشر الحداثة والديمقراطية في البلدان المستعمرة، أو أن الدول الاستعمارية بحكم امتلاكها للعلم والمعرفة بمقدورها أن تعرف الشعوب المستعمرة على نحو دقيق وعلمي بأكثر مما تعرف هذه الشعوب عن نفسها.

وقد استهدفت الدول الاستعمارية أن تستبطن الشعوب المستعمرة هذه التمثلات الفكرية والسياسية والعرقية كبديل لواقع هذه الشعوب، الثري والغني السابق على الاستعمار، واعتبار هذه التمثلات وسيلة لإزاحة الواقع المعاش واستبداله بالواقع المتخيل والمصنوع من قبل الدوائر الاستعمارية، بل واعتبار هذه التمثلات كحقيقة أنطولوجية وعلمية عن الشعوب المستعمرة لأنها مرتبطة بالمعرفة والقوة والهيمنة[3].

تتلخص الصورة المتخيلة من قبل الدوائر الاستعمارية للشعوب المستعمرة في ثنائيات مختزلة ومجتزأة ومبتسرة، تستهدف في المقام الأول تعزيز حضور المُستعمِر وتغييب المُستعمَر، وأن الأول هو المركز والثاني هو المحيط، وتضع هذه الصورة التفوق مقابل التدني والتحضر مقابل البربرية، والعقل والمنطق مقابل العاطفة وانعدام المنطق، والمعرفة مقابل الجهل، وبطبيعة الحال فإن الحد الأول من هذه المعادلة من نصيب الرجل الأبيض والمُستعمِر بينما الثاني من نصيب المُستعمَر والخاضع للاستعمار.

الحالة الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية في مقابل الشعب الفلسطيني ليست حالة استثنائية من الصورة السابق الإشارة إليها؛ رغم المزاعم الدينية التوراتية، حيث غيبت الدعاية الصهيونية الشعب الفلسطيني وروجت لمقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وفي سياق الصراع العربي الإسرائيلي واحتلال بقية الأراضي الفلسطينية روجت الدعاية الإسرائيلية الصهيونية لمقولات "الاحتلال الخير" والاحتلال المستنير" و"الاحتلال الليبرالي" والأسرلة [4] و"الفلسطيني الإرهابي" وأن أفضل الفلسطينيين هو "الفلسطيني الميت".

وقد واجهت الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأة منظمة التحرير الفلسطينية هذه التمثلات الإسرائيلية والمفاهيم الاستعمارية من خلال تفنيد هذه المزاعم وتفكيك الصورة المتخيلة للشعب الفلسطيني من قبل إسرائيل وإعادة بناء هذه الصورة على نحو يكفل تعزيز الوعي الفلسطيني بهويته وذاته وطبيعة صراعه مع إسرائيل واستعادة الثقة بالذات الوطنية وقدرتها على السير في تحقيق هدف التحرر والانخراط في سيرورة التحرر الوطني، دون أن يقترن ذلك بالعزلة عن تيار القيم العالمية والإنسانية[5] أو دون أن يقع ذلك فى خانة التهوين أو التهويل.

استعانت الحركة الوطنية الفلسطينية تحت قيادة "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية للانتقال بالشعب الفلسطيني من تلك الصورة النمطية والمتحيزة ضده، والتي رسمت معالمها الدعاية الإسرائيلية والصهيونية، إلى هذه الصورة البناءة والفاعلة الجديدة عن الشعب الفلسطيني المقاوم والمتمسك بهويته الوطنية بمقاربة مفاهيمية استرشادية، توجه الممارسة والأداء، سواء الأداء الكفاحي والمقاوم أو الأداء الدبلوماسي والسياسي، وهذه المفاهيم قد لا توجد ظاهرة في النصوص أو المواثيق، ولكنها مضمرة وقائمة يستدل عليها من الممارسات العملية والسياسات التى اتبعتها منظمة التحرير الفلسطينية، كما أن هذه المفاهيم قد استلهمت الموروث الكفاحي للحركة الوطنية الفلسطينية في مسيرتها الطويلة نحو الهدف.

من الصعوبة بمكان أن نحدد على وجه الحصر والدقة منظومة المفاهيم التي رافقت مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية عبر امتدادها الطويل، ولكننا سنعكف على دراسة نماذج من هذه المفاهيم أو عينة منها، تلقي الضوء على استراتيجية النضال الفلسطيني في هذه الفترة وتساعد على تلمس منجزات الحركة الوطنية الفلسطينية في مضمار التحرر الذاتي والمعرفي وكسر الأنماط المعرفية التي حاولت الدوائر الإسرائيلية الفكرية والاستشراقية والبحثية حصر الشعب الفلسطيني في إطارها.

منظمة التحرير هي الشعب الفلسطيني، ذلك في تقديري أفضل تعريف للمنظمة، ذلك أنها ليست مجرد إحدى المؤسسات التي أنشأها الشعب الفلسطيني في مسيرته الكفاحية؛ فتحت المنظمة أبوابها لكافة أبناء الشعب الفلسطيني من النخبة الثقافية والفكرية ورجال الأعمال والمهنيين والطلاب والتكنوقراط، من كافة ألوان الطيف السياسي والفكري، كما أنها جمعت أبناء الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجدهم الجغرافية في الخارج والداخل وفي إسرائيل، وأزالت الحواجز اللفظية التي اعتمدتها المؤسسات الدولية بين أبناء الشعب الفلسطيني، اللاجئون بعد النكبة، والنازحون وهم من تركوا ديارهم بعد عدوان 1967 والفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة تحت الاحتلال وفلسطينو 1948 أولئك الذين بقوا في أرضهم بعد النكبة.

من ناحية أخرى، فإن القول بأن "المنظمة هي الشعب" يستند إلى تلك المشروعية والتمثلية والشعبية التي حظت بها المنظمة، في كافة أماكن تواجد أبناء الشعب الفلسطيني، والمؤشرات الناجمة عن انتخابات البلدية التي جرت في 1976 و1980 أكدت تأييد كافة المرشحين لبرنامج المنظمة.

حتى قيام وإنشاء منظمة التحرير كانت قضية فلسطين هي مجرد قضية لاجئين ومدرجة أو كانت مدرجة في أعمال منظمة الأمم المتحدة بهذه الصفة، تمكنت المنظمة بعد إنشائها ومع قيادتها الجديدة من فصائل المقاومة من تحويل قضية الشعب الفلسطيني إلى قضية شعب وتحرر وطني ويطالب بحق تقرير المصير أسوة بحركات التحرر الأخرى، وبعد أن غابت القضية الفلسطينية بعد النكبة طوال ما يفوق العشرين عاما عن أعمال هيئة الأمم المتحدة، عادت إليها هذه المرة كحركة تحرر وطني فلسطينية معترف بها عربيا وإقليميا وإسلاميا من قبل الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وأخيرا من المجتمع الدولي.

أصبحت منظمة التحرير مرآة الشعب الفلسطيني، يرى فيها كل فلسطيني نفسه وهويته وكيانه أيا كان موقعه طالبا أو عاملا أو فلاحا أو رجل أعمال أو أكاديميا، انتقلت المنظمة إلى مكانة الكيان المعنوي في تاريخ النضال الفلسطيني الذي يسير في طريق الكيان المنشود أي الدولة الفلسطينية على أرض فلسطين.

1- اللا أيديولوجيا؛ الفكرة الوطنية الجامعة

إذا كان الحديث عن منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها مرآه الشعب الفلسطيني التي يري فيها نفسه، فإن حركة "فتح" هي بؤرة هذه المرآة ومركزها، ذلك أنها الحركة التي قادت منظمة التحرير الفلسطينية، واعترفت بقية منظمات المقاومة بأحقيتها في قيادة المنظمة، باعتبارها أولا أكبر هذه المنظمات وباعتبارها ثانيا رائدة النضال الفلسطيني المعاصر، وقد تمكنت حركة فتح من قيادة المنظمة وطبعت أداء المنظمة بطابعها الوطني غير المؤدلج، والذي تمحور حول الفكرة الوطنية الجامعة للنضال الفلسطيني ومختلف أطيافه السياسية. استندت فتح في اعتماد الوطنية الفلسطينية وبعث الانتماء الفلسطيني والهوية الفلسطينية في مواجهة الأيديولوجيا الصهيونية التي غيبت الشعب الفلسطيني، إلى أن هذه الفكرة الجامعة هي الرد الحقيقي على مزاعم الصهيونية.

هذه الفكرة الوطنية الفلسطينية الجامعة البعيدة عن التمركز حول الأيديولوجيات القومية والماركسية والإسلامية العابرة للحدود الوطنية، هي التي مكنت فتح ومنظمة التحرير من تجاوز المحن والتحديات التي اعترضت طريقها إن من الداخل أو من الخارج، وخرجت من كل هذه المحن والتحديات بمزيد من الصلابة والإصرار والتأييد.

إن الفكرة الوطنية التي ارتكزت عليها فتح والمنظمة هى كلمة السر[6] في بقاء فتح والمنظمة حتى الآن، لأنها زودت فتح والمنظمة بقدرة على اكتساب المرونة والتأقلم مع الظروف المتغيرة إقليميا ودوليا، دون أن تقع في فخ التنكر، لو كانت اعتمدت في حركتها قالبا أيديولوجيا جامدا، كما أن فتح لم تزعم احتكار "الوطنية"، ذلك أنها ملك الشعب الفلسطيني الذي ينشد التحرر من الاحتلال والدولة في مرحلة الاستقلال وتقرير المصير، فقط كان دور فتح يتمثل في الريادة والسبق والأداء.

حركة التحرر الوطني الفلسطيني أو حركة فتح، هي حجر الزاوية فى الثورة الفلسطينية المعاصرة، أو حاضنة النضال الفلسطيني المعاصر، أو مؤسس الحركة الوطنية الفلسطينية في نسختها التي بدأت في 1 يناير عام 1965، كما أنها الحركة الأم، التي احتضنت كافة التيارات الوطنية في المشهد الفلسطيني، وتحت جميع هذه المسميات فإنها تحمل منها جميعا نصيبا من  الحقيقة والواقع، فهي فاتحة النضال الفلسطيني ومؤسسة له منذ بدايته المعاصرة، كما أنها تمثل بوتقة النضال الفلسطيني الذي انخرطت فيه كافة التيارات الوطنية، واحتضنت كافة فصائل النضال الوطني من كافة ألوان الطيف الأيديولوجي والسياسي.

وهذه الحركة أي فتح ورغم أنها تمثل حلقة في النضال الوطني الممتد طوال ما يفوق القرن، إلا أنها تميزت عن كافة حلقات النضال الوطني الفلسطيني بالقدرة على الاستمرار والبقاء، والتعامل مع المعطيات المتغيرة فى الساحة الفلسطينية والعربية والدولية.

هذه القدرات التي تميز مسيرة حركة فتح كقائد للنضال الفلسطيني وبوتقة لكافة تجلياته وفاعلياته؛ لا تعنى بحال إضفاء نوع من القداسة على هذه المسيرة التي دخلت عامها السابع والخمسين، بل تعنى وضع منجزاتها فى سياق النضال الفلسطيني وإبراز دورها في إحياء القضية الفلسطينية والإبقاء على الزخم الذي تحظى به في كافة الظروف والأحوال. ذلك أن أية حركة سياسية نضالية لا تزعم لنفسها العصمة من الأخطاء كما أن مريديها وأعضائها لا يدعون هذا الزعم، فالانتقادات والأخطاء واردة في كل ما هو بشرى وإنساني، وأن الفجوة غالبا ما تكون قائمة بين الخطاب والمواثيق والوثائق المؤسسة والتصورات السياسية وبين الواقع، والمهم فى هذا السياق هو قراءة الواقع والوقائع ومعالم التغير فى البيئة الإقليمية والدولية واستخلاص الدروس وتصحيح المسار.

اللا أيديولوجيا هو المفهوم الذي اعتمدته حركة فتح نظريا وعمليا، يتمثل في التحرر من القوالب الأيديولوجية سابقة التجهيز، تلك القوالب الجامدة والدوجمائية التي تتطلب في المقام الأول تواؤم الواقع معها، وليس تواؤمها هي مع الواقع، أعلنت فتح عن وجودها ونشاطها في إطار الزخم الأيديولوجي الذي ميز المشهد في المنطقة العربية وتعدد الأيديولوجيات في هذا الوقت، الأيديولوجيا القومية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والقومية البعثية وحركة القوميين العرب والأيديولوجيا الماركسية بتنوعاتها، والتي كان يمثل الاتحاد السوفيتي السابق مرجعا لها ونموذجا، بالإضافة إلى أيديولوجيا الإسلام السياسي في نسخته الإخوانية، لم تنجذب فتح إلى أى من هذه الأيديولوجيات بالكامل، بل حملت بعض التعاطف لكل منها، دون أن تنخرط بالكامل فى أي منها، اكتفت فتح بالتحرر الوطني؛ تحرير فلسطين والنضال ضد إسرائيل، وتميزت بالمرونة الأيديولوجية التي تتسع لكافة تيارات النضال الفلسطيني بصرف النظر عن المرجعيات الأيديولوجية لهذه التيارات، وأصبحت كما يقول بعض المحللين حركة تشبه شعبها، انضم إلى عضويتها أبناء المخيمات والشتات واللجوء والنخبة من كافة الأنحاء.

وفضلاً عن ذلك، فإن حركة فتح تميزت بالإيمان بالتعددية في الساحة الفلسطينية الوطنية، وهو يستند إلى فهم عميق وإدراك ذو مغزى لتكوين الشعب الفلسطيني إن من حيث الديانة أو من حيث التصورات السياسية، ويركز هذا المبدأ على المساواة بين الفلسطينيين جميعهم بصرف النظر عن دياناتهم ومعتقداتهم السياسية، ويعنى رفض الأحادية وتزكية التعدد باعتباره مصدر ثراء وغنى للحالة النضالية الفلسطينية، تجلى ذلك في تزكية فتح لإشراك حماس في الانتخابات، حيث حصلت حماس على الأغلبية وقبلت فتح بالنتيجة.

واجهت حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية التي قادتها العديد من التحديات في البداية والمسار؛ ولكنها فى جميع هذه الحالات والتحديات لم تفقد فتح حيويتها وأهميتها للحركة الوطنية الفلسطينية رغم تغير المعطيات ومرور العقود حتى أن بعض الذين انشقوا على فتح، أعلن بعضهم الندم وعاد البعض الآخر إلى صفوفها وتزداد الحاجة إلى حركة فتح في الحالة الفلسطينية النضالية مع ضرورة التجديد ومواكبة التغير إن فى الأساليب أو البرامج أو التنظيم، والحال أن الخبرات المتراكمة لدى الحركة عبر العقود والقدرة على تجاوز التحديات واستمرار البقاء يؤهلان هذه الحركة لقيادة النضال الفلسطيني على أسس ومرتكزات جديدة إذا ما توفرت النوايا والإرادة على تلبية الطلب السياسي والنضالي القائم في الساحة الفلسطينية على قيادة حركة فتح للمشروع الوطني الفلسطيني.

2- التفوق الأخلاقي في مواجهة العدو

التفوق الأخلاقي في مواجهة العدو، يعني في أبسط معانيه أن قوى التحرر الوطني إن في النضال المسلح أو النضال السلمي وتحت كل الظروف، لا ينبغي أن تتخذ من سلوك أعدائها معيارا للتصرف أو قدوة تحتذي بها، وهذه المعركة الأخلاقية تستهدف أن تتميز قوى التحرر الوطني بأجندة أخلاقية تميزها عن أخلاقية العدو، وأن تحتفظ بمدونة سلوك تسمو فوق المدونة الأخلاقية للعدو؛ ذلك أنه لو سارت حركات التحرر الوطني في طريق تقليد خصومها فإن معني ذلك أن تصم نفسها باللا أخلاقية والانحطاط وتصبح نسخة طبق الأصل من أعدائها رغم الفارق في النبل والأهداف الذي يميز هذه الحركات عن أعدائها.

وقد تميزت الحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة إسرائيل والصهيونية بهذا التفوق الأخلاقي إن فيما يتعلق بالطرح السياسي والإنساني حول الدولة الديمقراطية والمساواة لكل أبناء الديانات المقيمين في فلسطين، أو التمييز بين اليهودية واليهود والصهيونية أو رفض غواية العداء للسامية، ولم تكن هذه المظاهر للتفوق الأخلاقي مجرد عناوين خالية من المضمون بل سعت حركة فتح والمنظمة إلى ترجمتها في الواقع، حيث لمعت في سياق النضال الفلسطيني أسماء لشخصيات يهودية معادية للصهيونية ومناصرة للحقوق الفلسطينية، وشغل بعض هذه الأسماء مناصب رسمية في هيراركية منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية مثل ألان هاليفي[7] والذي شغل منصب مستشار السفارات الفلسطينية في العديد من الدول الأوروبية وغيره من المناصب، وكذلك يوري ديفيس الذي كان عضوا مراقبا في المجلس الوطني وكذلك العديد من الشخصيات اليهودية في دائرة الشئون الدينية بالمنظمة.

حركة التحرر الوطني الفلسطينية بامتداد تاريخها واجهت ظروفا صعبة وخاصة؛ حيث فقدت قاعدة انطلاقها من داخل فلسطين، وتعثرت حقوق الارتفاق أي ممارسة الكفاح من دول مجاورة، وتعرضت لانتكاسات وانتهت بالابتعاد عن الوطن، تحت ضغوط ومحاصرة القوة العسكرية الإسرائيلية، ومع ذلك فإن هذه الحركة إن قبل نشأة إسرائيل أو بعدها مع ظهور فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية قد حققت إنجازات من بينها وعلى رأسها التفوق الأخلاقي على العدو.

التفوق الأخلاقي الذي تميزت به الحركة الوطنية الفلسطينية تمثل في النقاط الثلاث التالية: الأولى، أن هذه الحركة وفى أوج الاستيطان اليهودي الصهيوني تحت الانتداب طرحت فكرة الدولة الديمقراطية والحل الديمقراطي؛ حيث طرح الجانب الفلسطيني هذه الفكرة أمام لجنة "بيل" عام 1939، وهى اللجنة التي وضعت فكرة التقسيم، كما طرح الحزب الشيوعي الفلسطيني فكرة الحل الديمقراطي في عام 1944، وكذلك عصبة التحرر الوطني، ومضمون هذا الحل يتلخص في إقرار حقوق المواطنة المتساوية لجميع المقيمين في فلسطين التاريخية.

عندما ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية في أفق السياسة العربية والفلسطينية اقترحت في أكتوبر 1968 الحل الديمقراطي في فلسطين، ووجهت بيانا للأمم المتحدة تؤكد فيه طبيعة هذا الحل، وأقر المجلس الوطني الفلسطيني عام 1971 أطروحة الدولة الديمقراطية العلمانية، ولم تلق الفكرة آذانا صاغية لا من المجتمع الدولي ولا من الدوائر الحاكمة فى إسرائيل وتم رفضها وتجاهلها.

والثانية، رفض العداء للسامية؛ وتأكيد التمييز من البداية بين اليهود والصهيونية، فليس كل يهودي صهيونيا بالضرورة، والديانة اليهودية واليهود كأتباع هذه الديانة، يحظون بالكرامة، ولم تنخرط الحركة الوطنية في مسلسل الكراهية والعداء لليهود، باستثناء فترة زعامة الحاج أمين الحسيني خلال الحرب العالمية الثانية وهى فترة مضطربة عموما.

والثالثة، رفض تراتبية المعاناة الإنسانية واحتكار اليهود دون غيرهم لهذه المعاناة، واحتلال مكانة الضحية الأولى، بل كل أشكال المعاناة الإنسانية واحدة وتقف على قدم المساواة؛ فاليهود والفلسطينيون والأرمن كما الهنود الحمر والأفارقة، جميعهم ينتمون للإنسانية المشتركة ولا يجوز المفاضلة بين أشكال معاناتهم كما أن معاناة اليهود لا تعنى الانتقام من الفلسطينيين.

يستند التفوق الأخلاقي للحركة الوطنية الفلسطينية إلى تقاليد ثقافية عريقة في إطار الحضارة العربية، فاليهود لم يلقوا ذات المعاملة في هذه الحضارة العربية، كتلك التي لاقوها في الغرب، ولم تعرف الحضارة العربية ثقافة "الجيتو" فكان اليهود في الأندلس يحظون بالمساواة والكرامة، ويتبوأون المناصب الرفيعة في دولة الأندلس، بل وعندما طرد العرب منها رافقهم اليهود، وفى البلدان العربية لم تشهد العلاقات بين العرب واليهود التوتر إلا مع قيام إسرائيل ومحاولات الصهيونية تأكيد زعم أن إسرائيل هي وطن كل يهودي.

قد ينظر البعض إلى القول بالتفوق الأخلاقي للحركة الوطنية الفلسطينية على أنه ينم عن الضعف، أو يعكس اختلال موازين القوى، في حين أنه تعبير عن ثقافة متسامحة ولم تتعرض للتشوه إلا مع ظهور الحركات الدينية الإرهابية المتطرفة.

3- بناء الوعي

استهدفت حركة التحرر الوطني الفلسطينية بقيادة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ البداية إعادة بناء الوعي الفلسطيني على مستويين: أولهما، مستوى الهوية والانتماء. وثانيهما، مستوى معرفة طبيعة الصراع مع إسرائيل.

فيما يتعلق بالمستوى الأول، حرصت الحركة الوطنية الفلسطينية على بعث الوطنية الفلسطينية والانتماء والهوية وذلك عبر التأكيد على تواصل وجود الشعب الفلسطيني على هذه الأرض. في إعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988، جاءت هذه العبارات "على أرض الرسلات السماوية إلى البشر، على أرض فلسطين، ولد الشعب العربي الفلسطيني، نما وتطور، وأبدع وجوده الإنساني عبر علاقة عضوية، لا انفصام فيها ولا انقطاع، بين الشعب والأرض والتاريخ"[8]، وهي العلاقة التي لم يتمكن لا الانتداب ولا تعاقب السلطات الأجنبية من قطعها أو إيقافها.

لعب الكفاح المسلح ضد إسرائيل دورا محوريا في صياغة الدوافع السياسية وخلق الديناميكية التنظيمية لتطوير الهوية الوطنية الفلسطينية، وترسيخ مقومات الكيان الوطني الفلسطيني وتهيئة ساحة مشتركة لكافة القوى والمنظمات الفلسطينية والاتحادية وإنشاء بنية شبيهة بالدولة، من خلال المؤسسات التي تم بناؤها وتكوين نخبة بيروقراطية لإدارتها، وذلك دون أن تمتلك المنظمة إحدى مقومات الدولة وهي الأرض أو الإقليم[9].

بالإضافة إلى بعث وإعادة بناء الهوية الفلسطينية وركائزها التنظيمية والمعنوية فإن حركة التحرر الفلسطينية حرصت على استنهاض كافة التعبيرات الفنية والأدبية والفولكورية لتجسيد النضال الفلسطيني المسلح، ومواكبة التغير الذي طرأ على المشهد الفلسطيني. كذلك أولت الحركة الوطنية الفلسطينية اهتماما خاصا للإعلام الفلسطيني والدولي لتبديل صورة الفلسطيني من الإرهابي إلى الفدائي والمقاوم مع استمرار العمل الفدائي.

كما حرصت القيادة الفلسطينية ممثلة في شخص الأب الروحي للوطنية الفلسطينية الرئيس الراحل ياسر عرفات على تكريس الرمزية الفلسطينية ممثلة في البندقية وغصن الزيتون والكوفية الفلسطينية، التي لم تفارقه إن في الحرب أو السلم بل لازمته في كافة رحلاته في الخارج ومقابلاته الرسمية وغير الرسمية. يذكر العالم ذهابه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وانتقال انعقادها إلى جنيف بعد رفض الولايات المتحدة منحه تأشيره دخول، بعد إعلان استقلال الدولة الفلسطينية في الجزائر عام 1988، هذه الرمزية الفلسطينية الثلاثية ومعرفة العالم بها، كانت في حقيقة الأمر معرفة بالشعب الفلسطيني وبوحدة هذا الشعب ووجوده المتواصل في أرض فلسطين.

الهوية الوطنية في أبسط معانيها هي تأكيد الاختلاف والتمايز، عبر مختلف أشكال وصيغ التعبير عن الذات الوطنية في اللغة والملبس والعادات والتقاليد والثقافة، وهي ليست قالبا جامدا بل صيغة متغيرة وجدلية، تبني ويعاد بناؤها على ضوء التغير في الواقع والسياق السياسي والاجتماعي[10]، وهذا ما قامت به حركة التحرر الوطني الفلسطينية في السياق التاريخي الوطني والإقليمي والعالمي الذي رافق هذه الحقبة من عمر النضال الفلسطيني، ولم تكن هذه الهوية الفلسطينية قاتلة، كما العديد من الهويات المعاصرة[11].

كانت الفكرة الوطنية الفلسطينية الجامعة هي مفتاح الوحدة الوطنية والتماسك الوطني، وهو ما كانت حركة التحرر الفلسطيني في حاجة ماسة له بعد عقود من الغياب تلت النكبة، خاطبت هذه الفكرة عقول وقلوب أبناء الشعب الفلسطيني من كافة التيارات والفئات لأنها حجر الزاوية في الصراع الدائر والذي استهدف منذ بدايته إنكار وجود الشعب الفلسطيني وتغييبه إن في الحاضر أو على الصعيد التاريخي.

كانت الفكرة الوطنية الفلسطينية بمثابة "بوتقة الصهر" الوطنية التي جمعت بين أبناء الشعب من كافة أماكن تواجده في اللجوء والنزوح وتحت الاحتلال وما وراء الخط الأخضر ومن كافة الفئات والتيارات، وأكد تعديل ميثاق المنظمة هذه الفكرة الرئيسية، حيث أصبح ميثاق المنظمة هو الميثاق الوطني بدلاً من القومي، ونص التعديل على أن "فلسطين وطن الشعب العربي الفلسطيني" وأنه صاحب الحق الأصيل والأول في تحرير واسترداد وطنه.

أما الجانب الثاني من عملية ومفهوم بناء الوعي فتمثل في معرفة طبيعية العدو وفهمه، وتحديد معالم أدائه وأساليبه وتكتيكاته واستراتيجيته، وذلك على ضوء تشكيل معرفة علمية قائمة على دراسة العدو من خلال ما يكتبه عن نفسه أو ما يكتب عنه، وهي المهمة التي كانت رائدة على الصعيد العربي عامة، عندما تشكل مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1965 وغيره من المؤسسات التي أنيط بها هذه المهمة.

طبيعة العدو إسرائيل ككيان استيطاني إحلالي عنصري توسعي على ضوء المعطيات والوقائع التي جرت وتجري وعلى ضوء ممارسات إسرائيل في العدوان على الشعب الفلسطيني ومصادرة ممتلكاته وحرمانه من حقوقه من منظور الدراسة العلمية والبحثية، هي المعرفة التي اضطلع بها مركز الأبحاث الفلسطيني وكذلك المؤسسات الأخرى المشابهة.

المعرفة بالعدو قبل ذلك كانت معرفة نمطية انطباعية قائمة على التحيزات المسبقة والقبلية وغلب عليها الطابع الديني الأسطوري، وليس الطابع العلمي الأمبريقي، وفقدت هذه المعرفة قيمتها بعد العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في عام 1967؛ إذ تبين للقاصي والداني من العرب وغيرهم أننا لم نكن نعرف إسرائيل معرفة موثوقة، وأن ما كان يتردد من معارف ويتم تداولها لم تكن سوى معارف سطحية انطباعية، لا تشير من قريب أو بعيد إلى منهجية اتخاذ وصنع القرار في المؤسسات الإسرائيلية ولا طبيعة الفكر الصهيونية العنصرية الاستعلائية ولا حدود العدوانية العسكرية لهذا الكيان[12].

ولعلنا نذكر في سياق التدليل على أهمية المعرفة العلمية لإسرائيل ودور مركز الأبحاث الفلسطيني وإصدارته المختلفة المتعلقة بهذا الموضوع، حرص إسرائيل إبان عدوانها على بيروت في عام 1982 على الاستيلاء على مركز الأبحاث الفلسطيني ونقل محتوياته ووثائقه وأرشيفه إلى إسرائيل والتي أعيد جزء منها في صفقة تبادل الأسرى بعد الحرب.

4- الترابط والتكامل بين التحرر الفلسطيني والتحرر العالمي

أدركت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة فتح أن التحرر الفلسطيني جزء لا يتجزأ من حركة التحرر العالمية، وأن الارتباط بين التحرر الفلسطيني والعالمي يرتكز إلى القيم الإنسانية المشتركة المتمثلة في الكرامة والاستقلال والتحرر من الاحتلال، وأن ما يجمع بينها هو القضية الأساسية للتحرر من الاستعمار بكافة أشكاله العنصرية والاستيطانية.

هذا الارتباط والتكامل بين التحرر الوطني والعالمي من شأنه أن يعزز الحركة الوطنية الفلسطينية ويمثل تحصينات خلفية لتقوية عود هذه الحركة، كما تحظى بدعم الرأي العام العالمي الذي يتعاطف مع حركات التحرر ويساندها في مواجهة الحكومات للدول الاستعمارية. ومن ثم فإن انخراط الحركة الوطنية الفلسطينية في منظومة حركات التحرر الوطني في العالم، يمنح شرعية دولية للتحرر الوطني الفلسطيني، وينم عن الإدراك المبكر لعالمية قضايا التحرر والاستقلال، وترابطها باعتبار ذلك الطريق الوحيد لتجنب العزلة والحصار الذي فرض على الشعب الفلسطيني، وتوضيح أفق وغايات النضال الفلسطيني وأهدافه المشروعة.

ولم تقف منظمة التحرير وحركة فتح عند هذا الشعار، بل حاولت ترجمته إلى أجندة عملية لدعم حركات التحرر الوطني في العالم بأسره، حيث أمدت منظمة التحرير الفلسطينية العديد من دول العالم الثالث والحركات الثورية مثل الجماعات المناهضة لنظام الشاه في إيران، وحركة مونتنييرو في الأرجنتين وجبهة التحرير في السلفادور والمؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا، وغيرها الكثير من الحركات التحررية بالمال والسلاح لدعم قضية التحرر العالمية[13].

واستخدمت المنظمة الأدوات الاقتصادية لكسب تأييد العواصم الإفريقية، حيث أمدت العديد من هذه العواصم بالخبراء والأطقم الطبية والصحية والعديد من الاتفاقيات الاقتصادية وافتتاح عدد كبير من المتاجر ومزارع الطيور والفواكه وساعدت القيادة الفلسطينية في ذلك مؤسسة "صامد" التي افتتحت خمسة فروع لها في أفريقيا[14].

استفادة حركة فتح نظراً للسبق والريادة في إطار التحرر الوطني الفلسطيني قبل دخولها منظمة التحرير مع بقية الفصائل المقاومة، من خبرتها الدولية وتمكنها من نسج العديد من العلاقات مع الصين والاتحاد السوفيتى السابق، وجندت كوادرها ذوى الخبرة في المجال الدولي والعلاقات الدولية لصالح فتح مجالات جديدة لمنظمة التحرير، وعلاقات عديدة مع الدول وحركات التحرر الوطني في العالم، واكتسبت المنظمة وفتح مزيداً من الشرعية والدعم الدبلوماسي لقضية التحرر الفلسطيني، كان من الملفت في هذا السياق قيام الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بزيارة إحدى عشر دولة أفريقية خلال شهر واحد في منتصف الثمانينيات.

5- وحدانية التمثيل للشعب الفلسطيني

القول بوحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني، يسوغه تجنب استخدام تعبير "أحادية" التمثيل والذي يحمل معنى سلبياً وينصرف إلى احتكار التمثيل، ذلك لأن تعبير "الوحدانية" يقصد به في سياق التحرر الوطني الفلسطيني وحدة الشعب الفلسطيني وأن يكون له صوت واحد مسموع في الإقليم والعالم، ولم تتنكر هذه الوحدانية للتعدد في المشهد الفلسطيني، وإنما ارتكزت على الإقرار بالتعدد والاختلاف في إطار الالتزام بالمبدأ الديمقراطي المتمثل في التزام الأقلية بقرار الأغلبية، أي أن هذه الوحدانية تنصرف إلى القرار الذي تنتهي إليه المناقشات والتصويت.

وإدراك منظمة التحرير وفتح على رأسها لأهمية هذه الوحدانية في القرار والتمثيل، يقود إلى إدراكهما لخطورة الانقسام في الحالة الفلسطينية، وعدم توفر التمثيلية والشرعية لأي من الهيئات التي شهدها مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، وخطورة الأدلجة والقوالب الأيديولوجية على مصير الوطنية الفلسطينية، ذلك أن الفكرة الوطنية الجامعة لا يختلف عليها أحد في الحالة الفلسطينية والتي تصوغ هدفها في التحرر من الاحتلال وتحرير فلسطين وعندما يتحقق هذا الهدف فإن لكل حادث حديث.

وقد حرصت منظمة التحرير الفلسطينية على هذا المبدأ أي وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني في كافة الظروف، رغم مرور استراتيجية التحرير بمراحل مختلفة، منها مرحلة تحرير فلسطين، ومرحلة الدولة الديمقراطية للمقيمين على أرض فلسطين، ومرحلة البرنامج المرحلي عام 1974، وكذلك في مرحلة إعلان الدولة الفلسطينية عام 1988، وهذه المرحلة بالذات التي شهدت تداول تشكيل "حكومة منفي" فلسطينية على غرار الحكومة الجزائرية المؤقتة، وحكومة فيتنام المؤقتة واللتان تفاوضتا مع فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.

كان هدف المؤيدين لتشكيل حكومة منفي فلسطينية، أنه بعد إعلان قيام الدولة فإن تشكيل مثل هذه الحكومة ضرورة للتفاوض مع المجتمع الدولي وإسرائيل والولايات المتحدة حول الاعتراف بهذه الدولة، وتحرير إقليمها، على غرار الحالة الجزائرية والفيتنامية، ورغم ذلك فإن قيادة منظمة التحرير وانطلاقاً من إدراكها لخصوصية الحالة الفلسطينية، رفضت تشكيل هذه الحكومة، تجنباً لوجود ازدواجية في التمثيل الفلسطيني وكذلك ازدواجية في الولاء ورأت المنظمة أنها قادرة على القيام بمهمة هذه الحكومة في التفاوض وغيره، حتى يظل التمثيل الفلسطيني موحداً ووحدانياً.

من ناحية أخرى، فإن منظمة التحرير الفلسطينية كانت ترى نفسها أكبر من حكومة منفى، وأن أعباءها ومهامها تتجاوز بكثير مهمة مثل هذه الحكومة، وهي التي حصلت على اعتراف دولي بأكثر مما حظت به "حكومة منفي" في التجارب السابقة، كانت المنظمة تخشى من الحد من خياراتها السياسية في حالة تشكيل هذه الحكومة، وأن ينتهي الأمر بهذه الحكومة إلى الاستقرار فى الخارج، ورأت أن الإبقاء على مسمى "حركة التحرر الوطني" ذو قيمة معنوية ونفسية وسياسية أكبر، إن لدى الشعب الفلسطيني أو لدى الرأي العام العربي- الدولي[15].

وقد تمكنت منظمة التحرير من تحقيق وحدانية التمثيل للشعب الفلسطيني رغم وجود عناوين تمثلية أخرى، كالهيئة العربية العليا وكذلك واجهات تمثلية أخرى لبعض الدول العربية.

6- تلازم الكفاح المسلح والمقاومة مع الدبلوماسية والعلاقات الدولية

هذا التلازم والتزامن بين مسار الكفاح المسلح والدبلوماسية والعلاقات الدولية، يبدو من أهم منجزات حركة التحرر الفلسطينية، حيث كان يؤشر إلى إدراك قيادة المنظمة وحركة فتح لأهمية هذا التزامن، وبلورة حصاد الكفاح المسلح لتحرير الأرض على الصعيد الدولي، من اعتراف قانوني وواقعي، جزئي أو كلي، ذلك أن مثل هذا الاعتراف يعزز شرعية النضال الفلسطيني ويمثل ضغوطاً على الخصم من قبل الدول والحكومات والرأي العام في البلدان التي منحت المنظمة اعترافاً قانونياً كاملاً أو جزئياً.

كان لمنظمة التحرير الفلسطينية السبق في مجال الانخراط في المنظومة الدولية، وتنبهت مبكراً لأهمية هذا الانخراط وحيويته للنضال الفلسطيني، وكان لحركة التحرر الفلسطينية الفضل في شق طريق الانخراط والاعتراف من قبل المجتمع الدولي والقانوني الدولي، رغم أنها لم يقدر لها بلوغ هدفها في نيل الحرية والاستقلال كما قدر لجميع حركات التحرير.

قبل دخول المنظمة في هذا السياق كان الانخراط في المنظومة الدولية قاصراً على الدول والحكومات والمنظمات الدولية، وأصبحت حركات التحرير شخصيات دولية بموجب هذا الانخراط، واستحقت هذه المكانة بموجب الأدوار والأنشطة والفاعلية التي ميزت أداءها وأهدافها.

وقد حدث هذا التطور في منظمة التحرير الفلسطينية بعد إعادة النظر في حصاد ونتائج الكفاح المسلح، رغم أهميته ودوره في ترسيخ الهوية الفلسطينية، وإعادة النظر في الهدف المنشود في تدمير إسرائيل وتحرير كامل الجغرافيا الفلسطينية التاريخية، وتوجت هذه المراجعة الفكرية والسياسية بإعلان البرنامج المرحلي عام 1974 والقبول بإقامة سلطة وطنية على أي جزء يتحرر من فلسطين، واعترفت جامعة الدول العربية في العام ذاته 1974 بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وتبع ذلك اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بالمنظمة كممثل وحيد للشعب الفلسطيني بل وحصلت على عضوية مراقب في الجمعية العامة وبذلك كانت حركة التحرر الفلسطينية أول حركة وطنية تتمتع بهذا الإنجاز.

وقد اكتسبت منظمة التحرير الفلسطينية الشخصية القانونية الدولية من خلال توافق مقاصدها مع قواعد القانون الدولي والاعتراف الدبلوماسي، وكذلك عضوية المنظمات الدولية ومشاركتها في المؤتمرات الدولية، وتوافق مسلكها مع القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، حيث قامت المنظمة بوضع نظام جزائي متوافق مع البروتوكول الإضافي لاتفاقيات جنيف خصوصاً المادة (43) والتي تقضي بخضوع القوات المسلحة لأطراف النزاع لنظام داخلي يطبق قواعد القانون الدولي في النزاعات المسلحة، ومارست المنظمة سلطات سيادية على الفلسطينيين إن في الحرب أو في السلم، وقامت بتسليم عدد من المتهمين والمجرمين في عمليات إرهابية وخطف طائرات (مطار روما 1973، أو حادثة الخطوط الجوية البريطانية 1974)، واضطلعت المنظمة كذلك بالتفاوض في عدة أحيان مع خاطفي الطائرات من الفلسطينيين.

7- الاشتباك الإيجابي

كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، المؤسس والأب الروحي للوطنية الفلسطينية في نسختها المعاصرة، يدرك بعمق الطابع المعقد والمركب للقضية الفلسطينية، وأن حركة التحرير الفلسطينية تحظى بخصوصية واستثنائية دوناً عن كافة حركات التحرر الوطني؛ نظراً للتأييد الواسع الذي حظت به دولة إسرائيل من كافة القوى الكبرى المؤثرة في النظام الدولي في كافة المراحل، ومن ثم فإنه لم يأل جهداً، ولم يترك باباً إلا وطرقه يتوسم فيه تعاطف مع الشعب الفلسطيني أو قابلية لهذا التعاطف وتأييد قضيته أو أن يستمع لصوت فلسطين وشعبها.

كان ياسر عرفات يقول "لعم"[16] لكافة المبادرات التى تتضمن الحقوق الفلسطينية، وهذا الاشتقاق اللفظي الذي يجمع بين نعم ولا في الوقت ذاته، يعني أن الشعب الفلسطيني وفي إطار خصوصية قضيته وتركيبها، لا يملك ترف الرفض المطلق أو القبول المطلق لكافة الأفكار والمبادرات التي تتضمن الإشارة لحقوق الشعب الفلسطيني، وتتضمن في الوقت ذاته مناورات حول هذه الحقوق أو شروط يصعب قبولها.

حرصت القيادة الفلسطينية على تأكيد هذا الاشتباك الإيجابي في مختلف الدوائر التي تؤثر في القضية الفلسطينية بحكم نشأتها، واستمرار تأثير هذه الدوائر في تطورها، ففي الوقت الذي أولت فيه القيادة الفلسطينية أهمية كبيرة لدائرة عدم الانحياز والدول الأفريقية والدول الإسلامية والعالم العربي كذلك أولت الاهتمام للدائرة الأوروبية والمتوسطية والولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الاشتراكي والدول التي تنتمي إليه.

وحرصت القيادة الفلسطينية في كل هذه الدوائر على كسب الأصدقاء والرأي العام ومخاطبة الحكومات والمبعوثين بمختلف الطرق والوسائل لإسماع الصوت الفلسطيني، وتأكيد الطابع الدولي والإقليمي والوطني للقضية الفلسطينية، وتكامل هذه الأبعاد مجتمعه، ولم تترك القيادة الفلسطينية الدائرة الإسرائيلية الداخلية، حيث أولت اهتماماً خاصاً لحركات السلام الإسرائيلية المؤيدة للحق الفلسطيني، والتي تنتقد الممارسات الإسرائيلية، ونظمت وأشرفت على الاتصالات مع أنصار السلام في إسرائيل من منظمات المجتمع المدني أو الدوائر الرسمية الإسرائيلية.

وسيراً في طريق الاشتباك الإيجابي مع كافة الأفكار، عند طرح الكونفيدرالية مع الأردن، وافق عليها بشرط أن تكون هذه الكونفيدرالية بين دولتين؛ هي المملكة الأردنية الهاشمية ودولة فلسطين، كما اشتبك وفقاً لقواعد الاشتباك السياسية مع فكرة المؤتمر الدولي للسلام في مدريد، رغم عدم الاعتراف بالوفد الفلسطيني المستقل في المفاوضات، وقبوله بالوفد المشترك الأردني الفلسطيني، كما اشتبك مع اتفاقات أوسلو رغم قصورها عن تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني، وعندما وصلت إلى طريق مسدود في عام 2000 وانطلقت الانتفاضة لم يتورع عن دعم الانتفاضة ضد الاحتلال وانتهاك حرمة الأقصى.

كان دائماً يردد، أنه لابد من الرد والتعامل مع كافة الأفكار والمبادرات، لأنها في نظره فرصة لإسماع الصوت الفلسطيني وتأكيد حضور الرقم الفلسطيني، في أية معادلة مطروحة للحل جزئية أو كلية سلبية أو إيجابية، وأن الاشتباك يمثل الحضور الفلسطيني وإبراز القضية الفلسطينية.

ثانياً: في مدى ملاءمة هذه المفاهيم للواقع الفلسطيني الراهن

ليس من الصعب –عند تأمل المفاهيم التي ارتبطت بالنضال الوطني الفلسطيني المشار إليها- ملاحظة أنها لا تزال في أغلبها زاخرة بالقدرة على الاستمرار والحياة وببعث الروح فيها، وقدرتها على التلاؤم مع واقع النضال الفلسطيني وتوجهات الحركة الوطنية الفلسطينية في المرحلة الراهنة، وأن تمثل مرجعية نظرية وفكرية وسياسية تبعث الحياة والفاعلية في الحركة الوطنية الفلسطينية في كافة مستوياتها التنظيمية والميدانية إن على الصعيد الوطني أو العربي والإقليمي أو الدولي.

يعزز من ملاءمة هذه المفاهيم للواقع الفلسطيني الراهن، أمران على درجة كبيرة من الأهمية. الأول منهما، يتعلق بعدم وصول حركة التحرر الفلسطينية إلى مبتغاها وهدفها المنشود؛ أي الاستقلال والدولة والقدس وحل قضية اللاجئين وفق المرجعيات الدولية المعتمدة ومبدأ حل الدولتين، وذلك على العكس من كافة حركات التحرر الوطني العالمية التى تمكنت من إنجاز أهدافها في التحرر من الاستعمار وبناء الدولة؛ رغم السبق الذي حازته حركة التحرر الوطنية الفلسطينية في فتح أبواب الاعتراف القانوني والدولي بحركات التحرر الوطني كأشخاص للقانون الدولي والعلاقات الدولية[17].

ومن ثم فإن نضال الشعب الفلسطيني ينطبق عليه مفهوم التحرر الوطني واعتماد آليات هذا التحرر ومبادئه ومفاهيمه وتكتيكاته واستراتيجياته، وكذلك الموروث النضالي والفكري لهذه الحركات.

أما الأمر الثاني فيتعلق بسياسات إسرائيل التى تستغرق في أيديولوجية اليمين الصهيوني المتطرف والديني بأكثر من أي وقت قضى، وتنكر هذه السياسات وتلك الأيديولوجية التي تنطلق منها لحقوق الشعب الفلسطيني المعترف بها وحل الدولتين، بل وعلى النقيض من ذلك تخطو نحو ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة واختيار نظام الفصل العنصري كتسوية نهائية وشاملة[18] للقضية الفلسطينية وتنفيذ الصفقة المشبوهة "صفقة القرن" التى صاغها فريق ترامب بالاشتراك مع نتنياهو.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الحاجة الفلسطينية لاستلهام هذه المفاهيم في سياق الحركة الوطنية الفلسطينية، تزداد إلحاحاً بعد الانقسام الحاصل منذ 2007 والمستمر حتى الآن في الحالة الوطنية الفلسطينية، وضرورة استدعاء هذه المفاهيم لإعادة اللحمة الوطنية إلى السياق الطبيعي وتنحية الأيديولوجيا التي تستهدف التقسيم وتعمقه وتفتح الطريق إلى الأطراف الأخرى البعيدة عن المشهد الفلسطيني، للتدخل واستثمار القضية الفلسطينية في إطار صراع الفاعلين الإقليميين على الأدوار ومناطق النفوذ.

تكتسب تلك المفاهيم أهميتها ومصداقيتها وقابليتها لأن تكون مرجعية الكفاح الوطني الفلسطيني في المرحلة الراهنة من طبيعتها الديناميكية، ذلك أنها لم تتبلور في إطار "خلوة نظرية" لبعض المفكرين أو الكوادر بعيدة عن المواقع، بل لأنها كانت محصلة التفاعل بين الممارسة والنظر واستكشاف الواقع والطريق والعقبات أمام النضال الفلسطيني عربياً وإقليمياً ودولياً، وهو ما يفسر الانتقال من مفهوم تحرير فلسطين من النهر إلى البحر إلى مفهوم الدولة الديمقراطية ثم برنامج النقاط العشر أو البرنامج المرحلي، وذلك يعود إلى التغير في معالم المرحلة ومعطياتها الإقليمية والعربية والدولية بعد حرب أكتوبر عام 1973 والدعوة إلى انعقاد مؤتمر جنيف، وغير ذلك من مظاهر التغير الذي ارتبط بهذه الحقبة.

أحاطت هذه المفاهيم بكافة مكونات القضية الفلسطينية التي رافقتها منذ البداية وهي المكون الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي وأن حركة التحرر الوطني الفلسطينية لا تملك رفاهية تهميش أى من هذه المكونات رغم أولوية البعث الفلسطيني والكفاح الفلسطيني باعتباره حجر الزاوية في تفعيل المكونات الأخرى، شكلت هذه المفاهيم خلفية إدراكية مترابطة لتشخيص الواقع المحيط بالقضية الفلسطينية وتمكنت القيادة والممارسة من تحقيق الإنجازات في كل جانب من جوانب القضية الفلسطينية على الصعيد الوطني والعربي والدولي والإقليمي.

ولا شك أن الحكم والتقييم للمفاهيم يركز على قدرتها على التعبير عن الواقع والتوافق معه على ضوء المؤشرات العملية والميدانية، وهذه المؤشرات عديدة ومتداخلة إن على الصعيد/ الوطني أو العربي أو الإقليمي والدولي، ويندرج في هذه المؤشرات التأييد الشعبي لمنظمة التحرير الفلسطينية في الداخل من أغلب الهيئات والمنظمات والاتحادات المهنية والبلديات، والحصول على الاعتراف بتمثيلية الشعب الفلسطيني عربياً ودولياً وإقليمياً وتبادل الاعتراف والتمثيل مع العديد من البلدان على الصعيد القانوني والدبلوماسي.

يضاف إلى ما تقدم أن القيادة الفلسطينية الحالية استثمرت هذه الانحيازات الدبلوماسية على الصعيد الدولي للحصول على اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين كعضو مراقب في الهيئة الدولية وانضمت الدولة الفلسطينية المعترف بها للعديد من المنظمات والوكالات الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة.

ومع ذلك، فإن أحد هذه المفاهيم بحاجة إلى مراجعة نقدية على ضوء الظروف الدولية الراهنة، والتي منذ الحادى عشر من سبتمبر عام 2001 والتفجيرات الإرهابية التي وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية، أفضت إلى الخلط والالتباس بين المقاومة المسلحة للاحتلال وبين الإرهاب، بل واعتبرت أن مثل هذه المقاومة هي الإرهاب، وتطابقت وتماهت وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية بشأن هذا التشخيص واستطاعت إسرائيل أن تؤكد دورها في محاربة الإرهاب الفلسطيني وأن تضع المقاومة الفلسطينية في خانة الإرهاب.

وقد وضعت القيادة الفلسطينية الحل الدبلوماسي باعتباره الطريق إلى الدولة الفلسطينية، رغم التعثر الذي أصاب هذا الطريق بسبب تعنت إسرائيل ورفضها الامتثال لمتطلبات حل الدولتين.

ورغم هذه التطورات فإن الكفاح المسلح كمنهج لمقاومة الاحتلال ليس معيباً من زاوية المبدأ، إلا أن الانقسام في الحالة الكفاحية الفلسطينية بين حركة فتح وحركة حماس ومنذ الانقلاب الذي قادته هذه الأخيرة عام 2007، أصبح التفاوض في واد والمقاومة في واد آخر، وحدث شرخ وانشقاق في الحالة الفلسطينية النضالية، كما أن ممارسة المقاومة المسلحة من قبل حركة حماس وبعض الحركات الأخرى اتخذ في التسعينيات وبعد تطبيق اتفاق أوسلو(1)، وأوسلو(2) منحى يبدو أنه كان مغلفاً بتعويق مسار أوسلو، رغم بنيته المليئة بالثغرات وموقف إسرائيل المراوغ والخبيث في تفسير نصوص أوسلو وتطبيقاتها ومحاولات اليمين الديني والقومي المتطرف إفراغ أوسلو من محتواه.

من الممكن أن تكون المقاومة المسلحة منهجاً وطريقاً للحصول على الدولة والتحرر من الاحتلال؛ في حالة واحدة فقط ألا وهي رأب الصدع في الحالة الكفاحية الفلسطينية وإنهاء الانقسام بين فتح، وحماس، وبين غزة والضفة، وأن يكون سلاح المقاومة تحت قيادة سياسية وطنية موحدة تحوز الإجماع وهي التي تحدد متى تستخدم السلاح ومتى يمكن اللجوء إلى التفاوض وأن تحتكر هذه القيادة ممارسة العنف على غرار أي دولة وولايتها على السلاح والعنف وإخضاع كافة أشكال النضال للتوافق الوطني، وأن يجمع هذا النضال بين المقاومة والتفاوض وفق الظروف الذاتية والموضوعية، والتي تتعلق بتقدير وظروف الشعب الفلسطيني وتجنب إرهاقه واستنزافه وتحميله فوق طاقته أو الظروف الدولية وموقف المجتمع الدولي وإجراء الحسابات السياسية الدقيقة للتكلفة والعائد من اللجوء إلى المقاومة المسلحة.

ثالثاً: إعادة هيكلة الحركة الوطنية الفلسطينية

قد لا يجادل أحد، من المهتمين بالقضية الفلسطينية أو المؤيدين للشعب الفلسطيني في حاجة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى إعادة هيكلتها وبنائها وخطورة استمرار هذه الحركة على ما هي عليه الآن، من انقسام يبدو أن لا نهاية له رغم تعدد المحاولات وتوفر الأساس الموضوعي لمعالجته عبر هذه السنوات التي انقضت منذ حدوثه، وانتقال وتغلغل هذا الانقسام من السياسة والسلطة إلى المجتمع والرؤى والأيديولوجية والتصورات السياسية.

ورغم الحاجة الملحة والموضوعية لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية وتفعيلها، فإن هذه المقاربة تقتضي نوعاً من الحذر والحيطة نظراً لتعقد المشهد الفلسطيني وتداخلاته وتشابكاته العديدة إن في الداخل أو في الخارج، والتحلي بروح الموضوعية والمرونة وتعدد زوايا النظر وتجنب الأحادية والشطط.

خلق مسار أوسلو منذ تطبيقاته الأولى، عدداً من نقاط الالتباس والغموض، التي تستوجب التوضيح والمصارحة والنقد، وذلك رغم أن الكثيرين من المراقبين والباحثين رأوا فيه بدايات مبشرة مثل؛ الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل وإقامة سلطة وطنية انتقالية فلسطينية على جزء من أرض فلسطين؛ كانت بمثابة -أو هكذا يفترض- أن تكون نواة للدولة الفلسطينية في حدود عام 1967، وهو ما لم يحدث لظروف تتعلق بسياسات إسرائيل وتعنتها في تفسير النصوص وتعويقها لمسار حل القضايا النهائية.

ويتعين في هذا السياق محاولة توضيح مواطن الالتباس والغموض وتحديد الكيفية أو الكيفيات التي يمكن بها تجاوزها بهدف إحياء الحركة الوطنية الفلسطينية وتجديد هياكلها.

1- فك الارتباط بين منظمة التحرير والسلطة الوطنية

تمتلك منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، بل باعتبارها "الشعب الفلسطيني" حقوق الولاية القانونية والسياسية على السلطة الوطنية الفلسطينية، فالمنظمة هي بمثابة الأب الروحي للسلطة والمنشئ لها، ذلك أن السلطة الوطنية أنشئت على أساس وثيقة الاعتراف المتبادل بين المنظمة وإسرائيل بموجب اتفاق أوسلو الموقع في 13 سبتمبر عام 1993.

وفي حين أن تمثيلية المنظمة تمتد لكل الفئات التي تشكل الشعب الفلسطيني، فإن السلطة الفلسطينية يضيق نطاق صلاحياتها عن ذلك بكثير، وإذا كانت المنظمة تتميز بطابع دائم ومستمر باعتبارها حاضنة وبوتقة الصهر الفلسطينية لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، فإن السلطة الوطنية بطبيعتها وظروف نشأتها تميزت بطابع انتقالي ومؤقت لمدة خمسة أعوام لحين معالجة قضايا الوضع النهائي وقيام الدولة الفلسطينية.

ورغم نهاية تطبيقات أوسلو واقتصارها على ما طبق حتى الآن منها بسبب المواقف الإسرائيلية ومناهضة اليمين الديني والقومي المتطرف، فإن آثارها لا تزال مربكة للحياة السياسية الفلسطينية إن من حيث الانقسام أو الخلل الوظيفي أو التحديات الملحة التي تعترض المشهد الفلسطيني، والتي من أهمها الإدراك المتزايد لصعوبة إقامة الدولة الفلسطينية واستنزاف قدر كبير من الطاقة والموارد، من أجل هذا الهدف، الذي يزداد تحقيقه صعوبة في إطار المعطيات الداخلية الإسرائيلية وكذلك المعطيات الدولية[19].

منذ بداية أوسلو وحتى الآن زاد عدد المستوطنين إلى أربعة أضعاف ما يقرب من 620 ألف مستوطن في المنطقة (ج) في الضفة الغربية والقدس، وهي المنطقة التي تضم أكثر من 60%[20] من الضفة الغربية والنواة الأساسية للدولة الفلسطينية، كما ارتفعت الأصوات في مختلف أحزاب اليمين القومي والديني لضم المنطقة (ج) لإسرائيل واعتبارها جزءاً لا يتجزأ من دولة إسرائيل اليهودية، وتضمن البرنامج السياسي لحزب الليكود في عام 2017 سياسة الضم والتي تعززت بإعلان "صفقة القرن" رسمياً في مطلع عام 2020، ومن شأن هذه التغيرات أن تعصف بإمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة والاستمرار.

منذ توقيع وتنفيذ إعلان المبادئ في 13 سبتمبر عام 1993 وإقامة السلطة الفلسطينية عام 1994، اختلطت الأمور وأصبح من الصعب التمييز بين منظمة التحرير والسلطة الوطنية وأدوار كل منهما وغاب إطار المساءلة وتعمق الالتباس، فأصبح رئيس السلطة الفلسطينية هو رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس حركة فتح في ذات الوقت، رغم أن السلطة بطبيعتها مؤقتة وانتقالية تتولى تطبيق الاتفاقيات الموقعة بين المنظمة وإسرائيل واستلام سلطة الحكم في الأراضي التي يتم إخلاء السلطة الإسرائيلية منها، وكانت السلطة خاضعة لمنظمة التحرير باعتبارها الممثل والشريك المفاوض مع إسرائيل.

ولا شك أن اختلاط الأدوار وغياب التمييز بين دور المنظمة كوعاء للنضال الفلسطيني على الصعيد الدولي وبين دور السلطة كمرحلة انتقالية، قد أفضى إلى تقليص دور ومهام كل من المنظمة والسلطة على حد سواء، فالأولى، أي المنظمة، فقدت استقلاليتها وتعرضت لتقليص دورها كراعية وحاضنة للنضال الوطني الفلسطيني وتهميش دورها الخارجي على الصعيد الدولي وتقلص نشاط أجهزتها التنظيمية ودوائرها التي كانت تغطي وتؤمن الرعاية للشعب الفلسطيني بكل فئاته وفي كافة أماكن تواجده. من ناحية أخرى فإن السلطة الوطنية بدورها لم تتمكن من تأمين دورها كسلطة انتقالية حيث غابت المراقبة والمساءلة من قبل الجهة المنوط بها هذه المهمة أي منظمة التحرير الفلسطينية. كما أن الخلط بين المنظمة والسلطة الوطنية قد أفضى عملياً إلى توجه المساعدات والمنح المقدمة من الدول المانحة إلى السلطة الوطنية وحرمان المنظمة منها وساهم ذلك في شل فاعليتها وأدوارها الدبلوماسية والوطنية.

وفي حين أن الاختلاط بين هاتين المؤسستين، أي المنظمة والسلطة، أو اعتبارهما هيئة واحدة، قد أفضى عملياً إلى اعتبارها حكومة دولة والتعامل الدولي معها على هذا الأساس، فإن ذلك يعني عملياً إخضاع السلطة والمنظمة في آن واحد لإسرائيل باعتبارها سلطة احتلال، وذلك لأن أوسلو تمنح إسرائيل سلطة الإشراف والتقييم على أداء السلطة الفلسطينية.

ومعالجة هذه المسألة تتلخص في الفصل بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية بحيث تمتنع القيادات في هاتين المؤسستين عن الجمع بين وظائف المنظمة ووظائف السلطة وتعيين حدود الأدوار لكل من هاتين المنظمتين وتحديد برنامج عمل لكل منهما ونطاقه، وأن تمارس منظمة التحرير أنشطتها وفاعلياتها من خارج الأراضي المحتلة، وتحتفظ بمكاتب لها في الداخل حتى تكون بعيدة عن الضغوط الإسرائيلية وفي هذه الحالة فإن السلطة الوطنية تكون مسئولة عن أدائها أمام المنظمة باعتبارها صاحبة الولاية الشرعية المنوط بها المساءلة والمحاسبة[21].

2- إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني

الانقسام الفلسطيني منذ 2007، لم يقتصر فحسب على تقسيم السلطة في غزة ورام الله، بل امتدت آثاره لتطال النظام السياسي الفلسطيني بأسره والحؤول دون قيام حكومة وطنية تخضع للمساءلة، حيث تجمدت الانتخابات منذ 2006 وحتى الآن أي منذ ثمانية عشر عاماً.

ويتطلب ذلك إعادة بناء منظمة التحرير الجامدة لكافة الفصائل الفلسطينية على ضوء الشروط والتوجهات الموضوعة للدخول إلى المنظمة باعتبارها حاضنة النضال الوطني الفلسطيني، وإجراء الانتخابات وفقاً لنظام انتخابي مغاير لذلك الذي أجريت بموجبه انتخابات عام 2006، لضمان قدرة الأحزاب والحركات الفلسطينية لإنشاء التحالفات والتوافقات بعيداً عن العشائرية والمناطقية، وذلك على ضوء الفصل بين دور المنظمة ودور السلطة الوطنية واعتبار الانتخابات شأناً داخلياً تنظمه وتشرف عليه السلطة الفلسطينية، وتركيز نشاط المنظمة في الشئون الخارجية.

هذه الثلاثية التي تتمثل في إنهاء الانقسام والمصالحة، والانتخابات، والإصلاح، في حال اعتمادها شعارات للمرحلة على ضوء فض نقاط الاشتباك والالتباس في الأدوار بين المنظمة والسلطة قد يؤدي إلى ترسيم النظام السياسي الفلسطيني وتجديد شرعيته ومنحه المصداقية إن في الداخل أو في الخارج.

3- إعادة بناء العلاقات مع إسرائيل

خلق مسار أوسلو –أو ما طبق منه حتى الآن- وضعية ملتبسة وغامضة للحركة الوطنية الفلسطينية، ومربكة في الوقت ذاته إن للشعب الفلسطيني والرأي العام الفلسطيني أو على الصعيد العربي والحكومات لدى مختلف دول العالم، تتمثل هذه الوضعية الملتبسة في "الشراكة" مع إسرائيل كسلطة احتلال، وهذه "الشراكة" لم تقتصر على الصعيد الاقتصادي بحكم الأمر الواقع والاحتلال، وإنما امتدت على الصعيد الأمني والسياسي، وبموجبها –أي هذه الشراكة- أصبحت السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية بحكم تداخل الأدوار والاندماج بينهما، خاضعتين للاحتلال.

حظت هذه الوضعية بالقبول النسبي في بداية تطبيق أوسلو وذلك باعتبارها مرحلة مؤقتة وانتقالية، ولأنها بدت في نظر الكثيرين إن من المسئولين الفلسطينيين أو الرأي العام الفلسطيني كمرحلة وخطوة في طريق تحقيق حلم الدولة الفلسطينية بل وممر إجباري لموافقة إسرائيل على قيام هذه الدولة.

بيد أن هذه الوضعية الملتبسة والتي بدت كوضعية انتقالية في البداية، تبدو الآن وكأن لها نهاية لها، منذ عام 1994 تاريخ إنشاء السلطة الوطنية وحتى الآن، بعد أن تبين للقاصي والداني أن إسرائيل تنكرت لحل الدولتين وكثفت الاستيطان في الأراضي التي من المفترض أن تنشأ عليها الدولة الفلسطينية وتمثل جزءاً من إقليمها المفترض، كما أن ضم أجزاء كبيرة من هذه الأراضي إلى إسرائيل لم يعد مجرد فكرة أو مشروع لأحد الأحزاب الإسرائيلية، بل أصبح برنامجاً معلناً في المشهد السياسي الإسرائيلي، خاصة بعد الإعلان عن صفقة القرن في مطلع 2020 ودعم الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب لمثل هذا التوجه.

هذه الوضعية التي تتميز بالالتباس والغموض، أفضت إلى تغير نظرة العديد من الدول للحالة الفلسطينية الإسرائيلية وأصبح خطاب هذه الدول الرسمي يتظاهر بتأييد عملية السلام وعملية أوسلو وبتمويل السلطة الفلسطينية، واكتفى بذلك طالما أن القيادة الفلسطينية ملتزمة بهذا المسار لبناء الدولة في إطار أوسلو[22].

الشراكة الأمنية مع إسرائيل أفضت عملياً إلى تقييد التجمعات الشعبية والمدنية السلمية، خارج مبادرات السلطة الوطنية وتكييفها للأوضاع، من ناحية أخرى فإن السلطة الوطنية بمقتضى هذه الشراكة أصبحت في وضع لا يمكنها من حماية المواطنين الفلسطينيين وتأمين حياتهم ضد خطر الاستيطان والمستوطنين، كما أنها لم تستطع وقف تغلغل القوات الإسرائيلية واعتقال الفلسطينيين في الأراضي والمناطق الخاضعة رسمياً للسلطة الفلسطينية.

من ناحية أخرى، فإن تدفق المنح والمساعدات الغربية للسلطة الفلسطينية، ورغم أن هذه المساعدات تعتبر بمثابة حق للشعب الفلسطيني وفقاً للأعراف الدولية، تبدو في كثير من الأحيان رغم أهميتها في الحالة الفلسطينية كما لو كانت ثمن بقاء الأوضاع على ما هي عليه؛ أي استمرار الاحتلال وتعزيز الوضع القائم الذي خلقته إسرائيل، كما أن هذه المساعدات ارتبطت بهيكلية مشروطة قد لا تتوافق مع الحاجات الفلسطينية في الزراعة والإنتاج.

لقد أفضى استمرار الاحتلال وعدم تنفيذ إسرائيل لمتطلبات مسار أوسلو، ليس فحسب إلى تكثيف الاستيطان بل وبناء بنية تحتية من شبكات الطرق والنقل والطرق الإلتفافية خاصة بالمستوطنين، وتركيب شبكة وبنية تحتية فوق الأخرى في المساحة الجغرافية ذاتها[23].

وبذلك وفرت أوسلو لإسرائيل حل ومعالجة المفارقة التي كانت تشغل بال القادة الإسرائيليين ألا وهي كيفية الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية دون استقلال الفلسطينيين، والسيطرة على الفلسطينيين وتغييب حضورهم في الوقت ذاته.

يتطلب هذا الوضع الذي يتميز بالالتباس والغموض والتمويه، مقاربة نوعية حذرة، تتأسس على القيام بمراجعة نقدية شاملة للاستراتيجية الوطنية الفلسطينية وعناصرها المختلفة، تتضمن تعزيز النهوض بالاقتصاد الفلسطيني وقدرته على الوفاء بحاجات الشعب الفلسطيني وتقليص اعتماده على الاقتصاد الإسرائيلي في الحدود الممكنة وذلك عبر تدعيم إنتاج السلع والخدمات التي تعادل السلع والخدمات الإسرائيلية وتمثل بديلاً عنها، وتعزيز الزراعة الفلسطينية والمشروعات الفلسطينية الصغيرة والمتوسطة، وتدعيم روابط التكافل والتماسك الاجتماعي لاستنهاض المجتمع الفلسطيني.

أما على الصعيد الأمني والسياسي، فالأمر يتطلب إعادة النظر في الشراكة الأمنية وتقليص التعاون الأمني مع إسرائيل وإفساح المجال للمبادرات الشعبية والمجتمع المدني الفلسطيني في مواجهة الاحتلال والفصل العنصري وإعادة بناء العلاقات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل على أسس جديدة تتوافق مع متطلبات تجديد الحركة الوطنية الفلسطينية وضرورات المراجعة النقدية الشاملة لمسار أوسلو وتداعياته السلبية على الصعيد الفلسطيني والعربي وكشف طبيعة الاحتلال وسياساته المنهجية لتنفيذ الفصل العنصري والهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعب الفلسطيني.

توافق الإرادة الشعبية مع إعادة النظر والتأمل في وضعية السلطة الفلسطينية وتجديد هياكلها الشرعية وفك الارتباط بينها وبين منظمة التحرير الفلسطينية واستعادة الطابع التحرري الوطني للمشروع الوطني الفلسطيني هو بيت القصيد في عملية البناء الوطني.

النقد والمراجعة ليس بالضرورة تراجعاً وتشكيكاً، بل هو محطة ضرورية في مرحلة التحرر الوطني، والقدرة على تصويب المسار يتطلب حفز الهمة والابتكار لشق مسار جديد وتصحيح ما ينجم من أخطاء وهي فضيلة تحسب للقائمين بها ولا تحسب عليهم.

خاتمة

شخصت هذه الورقة المفاهيم المركزية التي استرشدت بها حركة التحرر الفلسطيني ووجهت أداءها على مختلف الصعد الوطنية والعربية والإسلامية والدولية، وكذلك الظروف والسياق الذي رافق نشأة هذه المفاهيم، والجدل بين نشأة هذه المفاهيم وواقع النضال الفلسطيني ومراحله المختلفة والمعطيات الإقليمية والدولية.

ويجدر التنبيه إلى أن الورقة لم يزعم كاتبها أن قائمة المفاهيم التي تم تشخيصها وتعيينها، هي قائمة حصرية أو نهائية، بل مجرد عينة من المنظومة المفاهيمية التي تشكلت في تاريخ النضال الفلسطيني، بهدف فتح باب النقاش والمراجعة النقدية الضرورية في المرحلة الراهنة من الحركة الوطنية الفلسطينية وخاصة مع التطبيقات الأولية لمسار أوسلو إن من الناحية السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية والعلاقات التي نشأت بين إسرائيل والسلطة ومساحات الالتباس والغموض التي رافقت هذا المسار.

تجادل هذه الورقة وصاحبها بأن المفاهيم التي تم تشخيصها ومعالجتها تكاد تتجاوز المكان والزمان وتكاد تكون عابرة لهما، ويستند ذلك إلى التعثر الراهن في تحقيق الهدف المرحلي المتمثل في الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشرقية وحل قضية اللاجئين، وأن الحركة الوطنية الفلسطينية ورغم سبقها في العديد من المجالات والدوائر لحركات التحرر الوطني لم تصل إلى هدفها المنشود بعد ولم تحقق غايتها المستهدفة، بل على النقيض من ذلك فإن إسرائيل تعلن الضم كسياسة رسمية بدعم من "صفقة القرن" وتنفذ على الأرض نظام فصل عنصرياً ممنهجاً وهيمنة غير مسبوقة على الشعب الفلسطيني ومقدراته بهدف إدامة الاحتلال وحصر الشعب الفلسطيني في جيوب صغيرة محاطة بالسيادة الإسرائيلية.

ويتطلب ذلك مواجهة جديدة واستراتيجية جديدة ومختلفة لبعث الحياة مجدداً في هياكل الحركة الوطنية الفلسطينية وخاصة منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيل هياكلها بحيث تستوعب مختلف القوى والفصائل وإنهاء الانقسام وإجراء الانتخابات وتجديد الشرعية وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية الضرورية لتحقيق الأهداف الوطنية المشروعة، وبالمثل إعادة النظر في العلاقات مع إسرائيل إن من حيث الشراكة الأمنية والسياسية أو من حيث التبعية الاقتصادية في ضوء مقاربة حذرة ومشروطة بل ومحسوبة بدقة تضع في اعتبارها حسابات التكلفة والعائد والاستنزاف الذي تعرض له الشعب الفلسطيني طوال هذه العقود.

ولا يزعم صاحب الدراسة أنه أدلى بالقول الفصل، بل حاول وبإخلاص ودون نفاق، وعن قناعة لا تزعزع بعدالة القضية الفلسطينية وقدرة الشعب الفلسطيني على الصمود والمقاومة للاحتلال وطمس الهوية؛ وكذلك قدرة قيادته على التجديد وشق مجرى جديد ونوعي للنضال الفلسطيني مهما كانت العقبات ومهما بعدت المسافات.

استندت الدراسة الحالية في محاولة قراءة وتشخيص المفاهيم التي رافقت الحركة الوطنية الفلسطينية في نسختها التي قادتها وتقودها منظمة التحرير وفي القلب منها حركة فتح؛ على نتاج التحرر الذاتي ومفاهيم ما بعد الكونيالية وطبيعية العلاقات المركبة بين الاستعمار والحركات الوطنية، ذلك النتاج الذي تمحور حول التحرر والهوية والمقاومة بالمعني الثقافي والسياسي، وإعادة بناء الصورة الوطنية للشعوب المستعمرة ووعيها بطبيعة المستعمِر والمعرفة التي حاول ترويجها عن هذه الشعوب وانعكاس استيعاب المنظمة وفتح في الحالة الفلسطينية لهذه المفاهيم وإعادة أقلمتها مع واقع النضال الفلسطيني وخصوصيته.


[1] رشاد توام، دبلوماسية التحرر الوطني، التجربة الفلسطينية (فلسطين: منتدى بيرزيت للدراسات الاستراتيجية جامعة بيززيت، 2013) ص33.

[2] -Daryush shayegan: Le regard Mutile, Eds, Albin Michel, Paris, 1980. P.32.

[3] -Edward Said: I'orientalisme, Eds, du Seil, Paris,1980.

[4] وليد سالم، "في التحرر المعرفي: مساهمة أولية في تشكيل إطار تفكير فلسطيني"، ورقة خلفية مقدمة لمؤتمر التحرر الذاتي، نوفمبر 2021.

[5] المصدر السابق.

[6] د. إبراهيم أبراش، "سر حركة فتح الذي لم يدركه الآخرون"، وكالة معاً الإخبارية، 23/1/2016، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/emp9ZLaz

[7] عقل عبد الله، "رحيل هاليفي.. الشوكة في عين إسرائيل"، موقع الإمارات اليوم، 15/7/2013، متاح على الرباط التالي: https://2u.pw/oA3sVtGv

[8] رشاد توام، مصدر سبق ذكره، ص21.

[9] المصدر السابق، ص 31.

[10] عبد العليم محمد، الثورة والهوية والتحول الديمقراطي (القاهرة: مركز الأهرام للتأليف والترجمة والنشر، 2017).

[11] أمين معلوف، الهويات القاتلة (بيروت: دار الفارابي، الطبعة الأولى، 2004).

[12] عبد العليم محمد، "مركز الدراسات والصراع العربي الإسرائيلي: مقاربة منهجية ومعرفية"، كراسات استراتيجية، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية، العدد رقم 291، 2019.

[13] رشاد توام، مصدر سبق ذكره، ص 43.

[14] المصدر السابق، ص45.

[15] المصدر السابق، ص125.

[16] عبد العليم محمد، "لعم عرفات"، جريدة الأهرام، 7/11/2004.

[17] رشاد توام، مصدر سبق ذكره، ص14.

[18] د. رمزي عودة، "إسرائيل اختارت الأبارتهايد"، مركز الناطور للدراسات والأبحاث، 12/2/2022، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/a0QnOI5X

[19] عمر حسن عبد الرحمن، "من الالتباس إلى الوضوح"، مركز بروكنجز الدوحة، ديسمبر 2019، ص1.

[20] المصدر السابق، ص 2.

[21] المصدر السابق، ص 4.

[22] المصدر السابق، ص 7

[23] المصدر السابق، ص 8.