أ. د. حمدي عبد الرحمن حسن

أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة

 

إن انهيار النفوذ الغربي في غرب أفريقيا، والذي يتجلى بشكل خاص في منطقة الساحل، هو ظاهرة معقدة تضرب بجذورها في عوامل مختلفة بما في ذلك الديناميكيات السياسية، والاستراتيجية العسكرية، والأخطاء الدبلوماسية. ومن الواضح أن هذا الانهيار يدل على وجود تحديات أوسع تواجه القوى الغربية في الحفاظ على سيطرتها ونفوذها في المنطقة، خاصة مع ظهور روسيا كمنافس استراتيجي.

وفي هذا السياق، يمثل طرد الولايات المتحدة من النيجر، الذي أعلنه المجلس العسكري الحاكم في النيجر في 16 مارس الحالي (2024)، نقطة تحول مهمة في الشراكة الطويلة الأمد لمكافحة الإرهاب بين البلدين. وترى حكومة النيجر أن الاتفاقية الأمنية، التي دخلت حيز التنفيذ منذ عام 2012، تشكل انتهاكاً لدستور البلاد، وعليه فإن الإعلان عن إلغائها يعكس رغبة الحكومة في تأكيد سيادتها وتحديد شراكاتها الخاصة في الحرب ضد الإرهاب. ويسعى هذا المقال إلى تحليل أسباب وتداعيات تراجع النفوذ الأمريكي والغربي عموماً في أفريقيا.

هل تلحق الولايات المتحدة بفرنسا؟

يأتي قرار طرد الولايات المتحدة وسط تصاعد العنف الإرهابي في منطقة الساحل بغرب أفريقيا، وبعد سلسلة من الجهود الدبلوماسية الفاشلة التي بذلتها الولايات المتحدة للحفاظ على وجودها في النيجر. وعلى الرغم من الزيارات رفيعة المستوى التي قام بها كبار المسئولين من وزارتي الخارجية والدفاع، بما في ذلك الجنرال مايكل لانجلي من القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، ظل المجلس العسكري الحاكم في النيجر حازماً في قراره بإنهاء الاتفاقية الأمنية.

ومن المعروف أن الولايات المتحدة حافظت على وجود عسكري كبير في النيجر، حيث يتمركز حوالي 1000 من الأفراد العسكريين والمقاولين المدنيين في القاعدة الجوية 201 بالقرب من مدينة أغاديز. وتعمل هذه القاعدة كمركز رئيسي للعمليات العسكرية الأمريكية في شمال وغرب أفريقيا، كما أنها تعد جزءاً لا يتجزأ من جهود المراقبة والأمن الأمريكية في المنطقة. لكن الطرد يشير إلى نهاية هذا التعاون ويسلط الضوء على العلاقات المتوترة بين البلدين.

علاوة على ذلك، يثير الطرد تساؤلات حول مدى فعالية التعاون الأمني الأمريكي في غرب أفريقيا. وعلى الرغم من الاستثمارات الكبيرة في المساعدة العسكرية والتدريب، استمرت الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل في التصاعد. على سبيل المثال، شارك ما لا يقل عن 15 ضابطاً استفادوا من المساعدة الأمنية الأمريكية في 12 انقلاباً في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل الكبرى خلال الحرب على الإرهاب، بما في ذلك الانقلابات في بوركينافاسو وغينيا ومالي والنيجر. وهذا يسلط الضوء على الطبيعة المعقدة والمتعددة الأوجه للتهديدات الأمنية التي تواجه المنطقة والقيود المفروضة على التدخلات العسكرية في التصدي لها.

كما يمثل العامل الإيراني والروسي أحد الأسباب التي تفسر خروج الولايات المتحدة من النيجر. إذ من المعروف أن الولايات المتحدة اتخذت موقفاً أكثر صرامة تجاه النيجر منذ يناير 2024، نظراً لعلاقات النيجر المتنامية مع إيران وروسيا، مما ساهم في المأزق الحالي. وبالفعل اتهمت الإدارة الأمريكية النيجر بالبحث سراً في صفقة تسمح لإيران بالوصول إلى احتياطياتها من اليورانيوم خلال اجتماعات 12-13 مارس 2024.  وذكرت مجلة جون أفريك أن الشكوك الأمريكية بأن إحدى اتفاقيات الطاقة الموقعة بالفعل بين إيران والنيجر تتضمن توفير اليورانيوم أصبحت خطاً أحمر للتعاون الأمريكي المستقبلي مع النيجر. ومن جهة ثانية يمكن للمرتزقة الروس (الفيلق الأفريقي- فاجنر سابقاً)  ملء المواقع الأمريكية المهجورة في شمال النيجر في غضون أشهر من مغادرة القوات الأمريكية البلاد، الأمر الذي من شأنه أن يشكل تهديدات مختلفة للجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي وتعزيز الشبكات اللوجستية الروسية في أفريقيا.

أسباب أفول النفوذ الغربي

يمثل المأزق الأمريكي في الساحل حلقة في سلسلة تداعي النفوذ الغربي عموماً والذي يعزى لعدة أسباب منها: فشل المقاربات التي تبنتها القوى الغربية في مكافحة الإرهاب في أفريقيا، واستمرار ميراث النموذج  الاستعماري الغربي للتنمية، الذي يتسم بعدم المساواة والاستغلال، وهو ما دفع الأفارقة إلى البحث عن أساليب بديلة. بالإضافة إلى ذلك، فإن النفوذ المتزايد لروسيا على المسرح العالمي قد تحدى الهيمنة الغربية وقدم تحالفات ونماذج بديلة للحكم للعديد من الدول. 

1- انهيار الاستراتيجية الغربية في منطقة الساحل: تجسد تراجع النفوذ الغربي في انسحاب القوات الفرنسية والغربية عموماً من مالي وبوركينافاسو وأخيراً النيجر بعد الانقلابات المتعاقبة. وربما يعكس ذلك فشل المقاربات الأمنية الغربية في مكافحة الإرهاب العابر للحدود بشكل فعال وتحقيق الاستقرار في المنطقة. وقد ساهم عدم القدرة على معالجة التهديدات الأمنية في ظهور المجالس العسكرية في العديد من دول الساحل، مما أدى إلى المزيد من تآكل النفوذ الغربي. ووفقاً لبيانات المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، زادت الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل بشكل كبير في السنوات الأخيرة. فخلال عامي 2002 و2003، تسبب الإرهابيون في سقوط 23 ضحية فقط في كل أفريقيا. ومع ذلك، في العام الماضي وحده، أسفرت الهجمات التي شنها متشددون إسلاميون في منطقة الساحل عن مقتل 11643 شخصاً، وهو ما يمثل زيادة بأكثر من 50 بالمائة. وتؤكد هذه الإحصائيات خطورة التحديات الأمنية التي تواجه المنطقة والحاجة الملحة لوضع استراتيجيات فعالة لمكافحة الإرهاب.

2- خيبة الأمل من النموذج الغربي في التنمية: أصيب السكان المحليون والنخب بخيبة أمل من المساعدة الغربية بسبب عدم فعاليتها وفرض القيم الغربية. وكان الفشل في معالجة القضايا الأساسية والقيم المتضاربة، مثل المساواة بين الجنسين وحقوق المثليين، سبباً في تغذية الاستياء وإضعاف المصداقية الغربية. ولعل إحدى القضايا المركزية التي تعاني منها دولة مثل النيجر هي استمرار نموذج التنمية الاستعماري، الذي يعطي الأولوية لاستخراج الموارد على التنمية المستدامة. وعلى الرغم من وفرة ثرواتها من الموارد الطبيعية، بما في ذلك احتياطيات اليورانيوم والذهب، فإن النيجر تظل واحدة من أفقر بلدان العالم، حيث يعيش قسم كبير من سكانها في فقر مدقع. لقد أدى إرث الاستعمار إلى ترسيخ الفقر بين الأجيال والتدهور البيئي، مما أدى إلى تفاقم انعدام الأمن ودفع الهجرة في جميع أنحاء المنطقة.

إن المشاعر التي أعرب عنها الكابتن إبراهيم تراوري رئيس بوركينافاسو في القمة الروسية-الأفريقية التي عقدت في سان بطرسبرج يوليو 2023 تسلط الضوء على الإحباط الذي يشعر به الأفارقة فيما يتصل بالتخلف المستمر في أفريقيا على الرغم من ثرائها من الموارد. لقد استلهم تراوري بحق روح توماس سانكارا عندما قال أمام تلك القمة الأفريقية-الروسية:" يجب على قادة الدول الإفريقية ألا يتصرفوا كدمية في أيدي الإمبرياليين والمستعمرين، وأقول لهؤلاء القادة: علينا أن نضمن الاكتفاء الذاتي لشعوبنا، ولاسيما مشكلة النقص في الغذاء التي تشكل أولوية قصوى، وعلينا أن نحترم شعوبنا التي تناضل ضد الاستعمار" .

3- تزايد النفوذ الروسي: أدى النهج الذي تتبعه روسيا في استغلال أوجه القصور الغربية وتقديم الدعم البديل إلى زيادة تهميش النفوذ الغربي. ومن خلال تقديم المساعدات العسكرية وإقامة تحالفات مع الدول الأفريقية، تهدف روسيا إلى تحدي هيمنة الناتو وتوسيع نفوذها في المنطقة. وبالفعل تتمتع روسيا اليوم بحضور كبير في سوق التعدين والطاقة الإفريقية. وتتركز امتيازات التعدين الروسية في البلدان التي تتسم بسوء الإدارة وضعف المؤسسات الحكومية، مثل جمهورية أفريقيا الوسطى وغينيا ومدغشقر وموزمبيق والسودان، مما يسمح بعدم وضوح الخط الفاصل بين الامتيازات الرسمية والامتيازات غير الرسمية. وعادة ما يتم استغلال هذا الغموض بشكل أكبر من خلال مشاركة الشركات المرتبطة بفاجنر التي تحولت إلى الفيلق الأفريقي نهاية عام 2023. وعلى النقيض من قطاع التعدين، فإن المشاركة الروسية في مشاريع النفط والغاز أكثر تنوعاً جغرافياً.

ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الشركات الروسية ليست شريكة رسمية في أي من مشاريع النفط والغاز الكبرى في أفريقيا. والواقع أن روسيا تساهم بأقل من 1% من الاستثمار الأجنبي المباشر في القارة. ومن جهة أخرى وقعت روسيا اتفاقيات تعاون نووي مع عشرين دولة أفريقية. ومن المتوقع أن تنضم كل من   مصر ونيجيريا إلى جنوب أفريقيا، التي لديها بالفعل محطة طاقة نووية عاملة، لتصبحان في مصاف الدول الأفريقية التي تتمتع بقدرات طاقة نووية مدعومة بالتكنولوجيا الروسية. ولا شك أن البديل الروسي يمثل اتجاهاً إيجابياً نحو عالم متعدد الأقطاب وهو ما يقدم فرصة للأفارقة لتنويع شراكاتهم الاستراتيجية مع القوى الكبرى في النظام الدولي.

معضلة النيجر وتداعياتها

تمثل متلازمة النيجر – إن صح التعبير- نقطة تحول كبرى تجاه إعادة تشكيل المشهد الجيوستراتيجي على المستويين الإقليمي والعالمي. لقد أضحت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) عاجزة عن الفعل الإيجابي، إضافة إلى فشلها في فهم الديناميكيات العالمية المعقدة التي شهدها العالم بعد الحرب الأوكرانية. إن ظهور تحالف دول الساحل والأنظمة الثورية في كل من النيجر ومالي وبوركينافاسو يشكل تحدياً لهياكل السلطة القائمة التي تهيمن عليها المصالح الغربية، وخاصة مصالح فرنسا. وعليه يمكن اعتبار أن الانقلابات في غرب أفريقيا ليست أحداثاً معزولة، بل هي جزء من حركة أكبر تهدف إلى رفض الهيمنة الغربية وإعادة هيكلة النظام الاستراتيجي العالمي. ومن المرجح أن تشمل المواضيع الرئيسية في التكالب الجديد، الصراع من أجل السيطرة على الموارد الاستراتيجية، مثل اليورانيوم، ودور القوى الخارجية في تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي في أفريقيا .

في عموم الأمر، يعكس انهيار النفوذ الغربي في غرب أفريقيا فرصة وتحدياً في نفس الوقت. يتمثل التحدي في ضرورة إعادة تقييم شاملة للتوجهات الغربية وبذل جهود متضافرة لإعادة بناء الثقة والشراكات مع الدول الأفريقية. وكما تعكس معضلة النيجر، فإن ثمة ترابطاً بين تحديات التنمية في منطقة الساحل والحاجة الملحة إلى حلول شاملة تعطي الأولوية للتنمية المستدامة، والتوزيع العادل للموارد، والاستقرار السياسي. ولن يتسنى للبلدان الأفريقية أن تتحرر من دائرة الفقر وانعدام الأمن التي ابتليت بها القارة لأجيال عديدة إلا من خلال معالجة هذه القضايا الأساسية. أما الفرصة التي ينبغي على  الدول الأفريقية اقتناصها فتعني ضرورة الاستفادة من لحظة التحول في النظام الدولي تجاه التعددية القطبية لتعظيم دورها وبناء تحالفات استراتيجية جديدة مثل تجمع بريكس بلس وغيره من أنماط التعاون بين دول الجنوب العالمي.