لا يكاد يتبلور أي اتجاه للتهدئة في الشرق الأوسط، حتى يختل توازنه على وقع نقطة تحول حرجة تثير اضطرابات فتعيد تشكيل سياسات المنطقة، والتي بدورها تمهد الطريق أمام نشوب نقطة أخرى، في دورة لا تتوقف عن إنتاج الأزمات؛ فأوقات الهدوء في المنطقة باتت كفترات كمون تتجمع فيها العاصفة تحت السطح انتظاراً لشرارة تُخرجها للعلن لتصنع مفاجآت غير متوقعة في مسارات الأحداث، خاصة مع الفجوة المعرفية لدى صناع السياسات أو دوائر البحث، فما نعرفه عما يجري في باطن المنطقة (التفاعلات غير المرئية) أقل كثيراً مما نراه ونعرفه عن ظاهرها (التفاعلات المرئية).
في الأعوام القليلة الماضية، لاحت مؤشرات عدة لمسار التهدئة بالمنطقة مثل اتفاقات التطبيع الإقليمي، والمصالحات الخليجية، وإعادة استئناف العلاقات السعودية-الإيرانية، وتحسن العلاقات التركية–العربية. ثم جاءت عملية "طوفان الأقصى" للمقاfhومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023 لتقطع هذا المسار، حيث أشعلت حرب إبادة إسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة دعمتها واشنطن لينتشر من بعدها الاضطراب الإقليمي في مواقع أخرى، كلبنان والعراق وسوريا، حتى بلغ منطقة البحر الأحمر، مع هجمات الحوثيين في اليمن على السفن المارة بالمنطقة، رداً على عدم وقف إطلاق النار في غزة.
لم تنعزل تلك الحرب لا عن مسار القضية الفلسطينية الذي عُرف على مدى أكثر من سبعة عقود سلسلة حروب وانتفاضات على فترات زمنية متقطعة بحثاً عن تسوية عادلة، ولا عن المسار الممتد المضطرب للشرق الأوسط؛ فلم يمر عقد واحد منذ استقلال دول المنطقة دون اشتعال نقاط تحول حرجة كرست حالة الاضطراب المزمن، ففي العقد الأخير وحده، عرفت المنطقة نشوب الثورات العربية والحروب الأهلية والتدخلات الخارجية، وغيرها.
مع كل نقطة تحول حرجة يتجدد التساؤل ذاته: لماذا لا يستقر الشرق الأوسط وكيف أصبحت المنطقة مرادفاً للتأزم المستمر؟ هنا، يحاول هذا التحليل استدعاء "نقطة التحول Tipping point"، كمفهوم يفسر حالات الانقطاع والتغيير في الأنظمة والبيئات السياسية، في مسعى لفهم معضلة الاضطراب المزمن. فمع تكرار تلك النقاط، وتشابكها على فترات زمنية طويلة تتكشف حالة الهشاشة الممتدة للمنطقة، والمصادر المولدة لها، ومن ثم تتجلى أبواب الخروج الممكنة.
نقطة التحول.. المعنى والأنماط والمسار
نقطة التحول هي التي يختل عندها التوازن في مسار الأحداث، مما يؤدي إلى تأثيرات كبيرة، ولا رجعة فيها، أي أنها نقطة انقطاع أو عتبة تقود إلى عملية التغيير. نشأت الفكرة من منطق فيزيائي يتعلق بأن أي جسم متوازن قد يتعرض للسقوط إن أضيفت له كمية صغيرة. إلا أن هذا المنطق المادي الذي يلائم خصائص التفاعلات في الأنظمة والبيئات الطبيعية قد يختلف عند تكييفه لفهم نقاط التحول في الظواهر الإنسانية [1].
لهذا السبب، جرى استخدام نقطة التحول، باصطلاحات عديدة (الانتقال الحرج، عتبة التغيير، الانعطاف الحاد، تحولات الأنظمة، وغيرها) في مجالات الاجتماع والسياسة والاقتصاد وغيرها. تتفق تلك الاصطلاحات على فكرة انقطاع المسار الذي يعقبه تحولات في مسار الأحداث، لكنها تختلف وتتداخل في تحديد طبيعة هذا الانقطاع (سلبي أم إيجابي)، حجمه (صغير أم كبير)، طريقة حدوثه (تدريجي أم دارماتيكي)، تفسيره (عوامل هيكلية أم مباشرة)، تداعياته (خفيفة أم شديدة الأثر)، حالة اللاعودة (ممكنة أم لا). مع كثرة الأدبيات في هذا المجال، يمكن التركيز على نمطين لنقطة التحول، هما[2]:
النمط الأول: نقطة التحول السياقية، أي أن الانقطاع أو عبور عتبة التغيير التي يعقبها تحولات كبرى قد يأخذ طابعاً تدريجياً على فترة زمنية طويلة حتى يظهر. استخدم علماء الاجتماع، خاصة جرودزنيز، هذا الفهم في خمسينات القرن العشرين لتفسير نزوح الأسر البيضاء من الأحياء المختلطة في الولايات المتحدة، عندما يتزايد القاطنون السود بشكل كبير، ثم طور شيلينج الفكرة عبر نموذج يحدد بقاء مجموعة عرقية في حي معين إذا كانت نسبة مجموعة أخرى منخفضة، لكن عند عتبة معينة ترتفع فيها النسبة بأعداد كافية تغادر المجموعة الأولى الحي بفعل تأثيرات الدومينو، ومن ثم يبدأ التحول الكبير.
تعرض هذا الفهم لنقد بسبب إمكانية بروز عوامل مضادة تثبط إمكانية حدوث الانقطاع (قد يبقي مثلاً السكان الأوائل مع زيادة أعداد السكان الجدد في الحي ما لم يكن لديهم خيارات للخروج إلى أماكن بديلة). أضف لذلك، فالمدة الزمنية اللازمة لبلوغ نقطة التحول قد تختلف في تفاعلات الأنظمة الاجتماعية، وفقاُ لعوامل عدة مثل، مدى وجود سياسات لتخفيف التغيرات الديمغرافية بما يحد من ضغوطها لإحداث التحول. مع ذلك، ينظر هذا النمط إلى نقطة التحول على أنها تنشأ نتاج عوامل هيكلية تؤدي إلى إحداث تأثيرات سياقية متدرجة على فترة زمنية طويلة (تغيرات في الهياكل الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية). هنا قد تكون نقطة تحول متوقعة من عدمه وفقاً لمدى مراقبة السلوكيات الفردية والجماعية في نطاق اجتماعي معين.[3]
النمط الثاني: نقطة التحول المباشرة، وهو الأكثر انتشاراً بسبب ارتباطه بعنصر التغير الدراماتيكي السريع والمفاجيء، حيث تنشأ نقطة التحول نتاج تغيرات طفيفة في بيئة معينة خلال فترة زمنية قصيرة بما يقود إلى تحولات كبيرة. لاقت الفكرة جاذبية في الأدبيات لكونها تحاول فهم نمط التفاعلات اللاخطية في الظواهر الإنسانية (نتائج لا تتسق مع المعطيات)، وهو ما سعت نظريات لتفسيره، كأثر الفراشة (أحداث محدودة قد تفجر موجات متتالية من التغيير بعيدة جغرافياً) أو البجعة السوداء (شرارات غير متوقعة تنتج عن أحداث عرضية، وتؤدي إلى تأثيرات كبيرة، ويمكن تفسيرها بعد وقوعها) أو البجعة الرمادية (شرارات غير متوقعة تنتج تأثيرات كبيرة لكن لها أدلة مسبقاً تعرضت للتجاهل في ظل فوضى المعلومات أو الفجوة المعرفية).[4]
في الاتجاه ذاته، طرح جلادويل[5] إطاراً لفهم نشوء نقاط تحول في مجالات الأفكار والسلع والعلامات التجارية، قياساً على تحول أمراض معينة من إصابة عدد قليل من الناس إلى وباء منتشر. فيمكن لمجموعة قليلة من الأفراد لديهم قدرات المعرفة والتشبيك والتنظيم نشر أي فكرة صغيرة كوباء (قانون القلة)، لكن يلزمهم رسالة مؤثرة وذات جاذبية وقابلة للتضخيم والانتشار(قانون الالتصاق)، فضلاً عن قابلية السياق ذاته للتغيير (قانون السياق). استخدم البعض هذا النمط لتفسير عدوى الانتشار السريع والمكثف للتصورات والخطابات والسلوكيات في فترة زمنية قصيرة لبلوغ نقطة التحول، كالثورات العربية، وحركة احتلو وول ستريت وجائحة كورونا.
برغم اختلاف ديناميات بلوغ نقطة التحول في هذين النمطين، فإن ثمة سمات مشتركة بينهما يمكن عبرها مقاربة مسار الانقطاع والتغيير المستمر في الشرق الأوسط:
أولاً: إن نقطة التحول كحالة انقطاع سواء نتجت على فترة زمنية طويلة أو قصيرة، فإنها تفترض وجود سياق قابل للكسر، ثم شرارة تشتعل لتقود إلى عتبة التغيير، يليها تأثيرات كبيرة، ثم مرحلة اللاعودة، وقد تنكسر المرحلة الأخيرة مجدداً إذا نشأت محفزات جديدة تدفع لنشوء نقطة تحول أو انقطاع آخر، على نحو يماثل منطق التغيرات المستمرة في حياة المجتمعات كلما تلقت محفزات للتغيير (أيديولوجيات، حروب، ثورات، موارد، ابتكارات، هكذا).
ثانياً: إن نقطة التحول الناتجة عن تغيرات تدريجية سياقية قد تمهد الطريق لنظيرتها المباشرة، فالثورات أو الانقلابات أو الحروب قد تمثل انقطاعاً دراماتيكياً مفاجئاً في مسار الأنظمة السياسية يؤدي إلى تأثيرات كبيرة، لكنها عادة ما تكون مدفوعة أيضاً بتغييرات تدريجية تتعلق بعوامل هيكلية.
ثالثاً: إن تكرار الانقطاعات في مسار تفاعلات الأنظمة السياسية أو البيئات الإقليمية على مدى فترة زمنية طويلة يخلق نوعاً من الهشاشة الممتدة، أي القابلية المزمنة للانكسار، حتى لو تخللها فترات صمود نسبي تصبح حينها ظاهرية ومؤقتة.
رابعاً: إن نقطة التحول بمفردها قد لا تفسر طبيعة مسار الظواهر الإنسانية على مدى فترة زمنية طويلة، وإنما يتطلب الأمر سلسلة متعددة ومتصلة من النقاط التي تشكل موجة تحول أو اتجاه متراكم يغذي بعضه البعض.
على أساس ذلك، يمكن فهم الاضطرابات المزمنة في الشرق الأوسط عبر اتجاهين: الأول، النظر في سلسلة من نقاط التحول الحرجة والتي تشكل خلال فترة زمنية معينة موجة تحول تثير اضطراباً يمتد صداه من الماضي إلى الحاضر والمستقبل. تكمن أهمية ذلك في ثقل العامل التاريخي في تفاعلات المنطقة، فلا يمكن فهم اللحظة الراهنة دون ارتباطاتها التاريخية. أما الأمر الثاني، يتعلق بتفسير عوامل تكرار نشوب الانقطاعات في الشرق الأوسط عبر فحص مراحل دورة نقاط التحول (القابلية للكسر، عتبة التغيير، حالة اللاعودة والتي قد تنكسر مجدداً)، أخذاً بالاعتبار أن تلك المراحل تتداخل على أرض الواقع [6].
دورة نقاط التحول
موجات التحول الشرق أوسطي.. الترابط والتشعب
يتسم مفهوم الشرق الأوسط بالسيولة والتسييس، بما يجعل رسم طبيعة وحدود المنطقة وتفاعلاتها مختلف عليه بين الأدبيات، إلا أن هذا التحليل يقصد بالمفهوم الفضاء الجغرافي الذي يضم دولاً عربية وغير عربية (إسرائيل، إيران، تركيا، باكستان، أفغانستان)، وهو يضم تناقضات ومشتركات سياسية واقتصادية وهوياتية، ويحظى بأهمية استراتيجية نظراً لموقعه وموارده وممراته البحرية، بما يجعله أحد الأرصدة المتنافس عليها بين القوى الكبرى في إدارة معادلات القوة والصراع في السياسة العالمية [7].
أخذت نقاط التحول على مدى التاريخ الممتد للشرق الأوسط أشكالاً متعددة، كالانقلابات العسكرية والثورات الشعبية والحروب الأهلية والإقليمية، والتدخلات الخارجية واغتيالات القادة السياسيين. اتسمت تلك النقاط بأنها، هجينة، أي تجمع بين كونها نقاط تحول تدريجية سياقية ومباشرة مفاجئة، وعلى فترات زمنية طويلة وقصيرة، مترابطة، أي تحفز كل نقطة تحول الأخرى بسبب ترابط العوامل المنشئة لها على نحو مباشر وغير مباشر، مستمرة، أي ينقطع المسار إثر كل نقطة تحول ليظهر التغيير، ثم اللاعودة، والتي تنكسر مجدداً، متشعبة، أي أن كل نقطة التحول تنتج من رحمها نقاط تحول فرعية في أماكن وأزمنة مختلفة.
مع كثرة نقاط التحول وتكرارها في سياقات متغيرة وعلى مديات زمنية متفاوتة في المنطقة، تشكلت موجات تحول تضم كل منها عدة انتقالات حرجة تصوغ خلال فترة زمنية معينة اتجاهاً متراكماً ينكسر ليتولد عنه اتجاه آخر في تفاعلات المنطقة، بما يعكس حالة التعقيد والأثر التاريخي والترابط بين ماضي وحاضر ومستقبل الشرق الأوسط، وهو ما يمكن توضيحه من خلال ثلاثة موجات تحول، على سبيل المثال لا الحصر، لا تزال تلقي بآثارها على اللحظة الراهنة، وهي:
أولاً: موجة تحول ما بعد سايكس بيكو
كرست تلك الموجة لصعود المد الوطني والقومي في الشرق الأوسط عبر سلسلة انتقالات حرجة. فقبل أكثر من مائة عام تم تقسيم المنطقة التي كانت تسيطر عليها الإمبرطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى بين القوى الاستعمارية الغربية (بريطانيا وفرنسا) في اتفاقية سايكس بيكو في العام 1916. تنظر الأدبيات لهذا الاتفاق على أنه نقطة التحول المركزية في تاريخ الشرق الأوسط، لكونها أسست الجغرافية السياسية الراهنة لدول المنطقة، وجذرت إرث عدم الثقة في سياسات القوى الغربية التي أخلت حينها بوعودها في استقلال العرب مقابل الثورة على الأتراك.
أعقب ذلك الاتفاق وعد بلفور في عام 1917، الذي وضع حجر الأساس لوطن قومي لليهود في فلسطين، وإنشاء نظام الانتداب البريطاني الفرنسي في المنطقة بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب. مع تفكك تلك الإمبراطورية، تراجعت الرابطة الهوياتية الإسلامية، حيث بزغ النموذج العلماني القومي في تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك، كما صعد المد الوطني الساعي إلى استقلال دول المنطقة، من خلال الثورات وحركات المقاومة ضد الحكم الاستعماري، ثم تبلور هذا الاتجاه مع الرفض العربي لقيام إسرائيل عام 1948، كدولة صنيعة الاستعمار الغربي.
بهزيمة الجيوش العربية في حرب 1948، كانتقال حرج آخر تكرست المعضلة الممتدة للصراع العربي–الإسرائيلي، لكنها حفزت على الضغط للتغيير الداخلي، كما جرى في مصر مع سقوط النظام الملكي إبان ثورة يوليو 1952، والتي من بعدها تصاعدت موجة التحرر الوطني والنضال ضد الاستعمار في المنطقة. ثم جاء العدوان الثلاثي (فرنسا وبريطانيا، وإسرائيل) على مصر في العام 1956 ليمثل انتقالاً آخر متصلاً ارتبط فيه تغيرات الداخل والاقليم بتوازنات القوى الدولية، لكونه دشن لأفول القوى الاستعمارية القديمة (بريطانيا وفرنسا) في المنطقة، وصعود الولايات الأمريكية في مواجهة الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، فضلاً عن تصاعد الوحدة العربية بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر كتصور فكري ومشاريع سياسية لمواجهة القوى الغربية، مثلما جرى بين مصر وسوريا في العام 1958 (الجمهورية العربية المتحدة)، لكن تلك التجربة تعثرت على وقع انقلاب عسكري في سوريا عام 1961، وفي ظل أجواء من الاستقطاب الإقليمي بين النظم الثورية والمحافظة تجلت ذروتها في التدخل العسكري المصري لمساندة الثورة اليمنية ضد الحكم الملكي عام 1962. [8]
ثانياً: موجة تحول ما بعد هزيمة يونيو 1967
كرست تلك الموجة بما تضمنته من انتقالات حرجة لاتجاهين متراكمين أحدهما، صعود التيار الإسلامي حاملاً لمشروع هوياتي، والآخر بروز المفهوم الشرق أوسطي للمنطقة على حساب العربي بسبب الاتجاه للسلام مع إسرائيل. فقد شكلت هزيمة مصر أمام إسرائيل في 5 يونيو 1967 انتقالاً مفاجئاً لكن جذوره ترجع إلى الإنهاك في حرب اليمن والانغلاق الداخلي للنظام الناصري. هيأت تلك الهزيمة لانتقالات حرجة متشعبة في اتجاهات وأماكن مختلفة.
صحيح أن مصر نهضت سريعاً من كبوتها وأعادت بناء جيشها لتخوض حرب الاستنزاف، وأصلحت علاقاتها العربية، لكن هزيمة يونيو عبرت عن فشل المشروع القومي العروبي مما مهد لبروز الحركات الإسلامية خلال السبعينيات، والتي تلقت محفزات من سياقات الطفرة النفطية الخليجية، وانفتاح نظام السادات الداخلي والخارجي تجاه الغرب بعد انتصار أكتوبر 1973. قاد ذلك الانتصار إلى تحول شرق أوسطي مع نشوء مسار السلام مع إسرائيل عبر اتفاقية كامب ديفيد 1978 ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية 1979. ومع رفض دول عربية لتلك المعاهدة، تعرضت عضوية مصر حينها للتعليق في الجامعة العربية لعقد كامل.
مع العام 1979، عرفت المنطقة ثلاث نقاط تحول كبرى (الثورة الإيرانية، الغزو السوفيتي لأفغانستان، اقتحام مسلحين للمسجد الحرام في مكة) سلطت كل منها الضوء على الاتجاه المتراكم للصعود الهوياتي الإسلامي في تفاعلات المنطقة، خاصة مع دعم العرب والولايات المتحدة في تلك الفترة الجهاد ضد السوفييت في أفغانستان، إلا أن خطر هذا الصعود تجلى في لحظة اغتيال الرئيس أنور السادات في 6 أكتوبر 1981.
شكلت تلك الانتقالات الحرجة سياقاً حفز على نشأة تنظيم "القاعدة" في أواخر الثمانينيات مع الانسحاب السوفييتي من أفغانستان، وليأخذ دفعة أكبر في التسعينيات مع تشكيل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في عام 1991 لتحرير الكويت من الغزو العراقي خلال حرب عاصفة الصحراء، والتي توسع بعدها الوجود الأمريكي في المنطقة، لاسيما في ظل تفكك الاتحاد السوفيتي في العام نفسه.
حفزت الهيمنة الأمريكية على نشوء انتقالات متشعبة أخرى، فمن جهة برزت مفاوضات السلام في مدريد في العام 1991، ثم اتفاق أوسلو 1993، ووادي عربة 1994. من جهة أخرى، فمع رواج سرديات نهاية التاريخ وصدام الحضارات، انتقل الإرهاب من طابعه المحلي إلى العالمي، من خلال تفجير مركز التجارة العالمي في 1993، ثم استهداف سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا في 1998، ليؤسس أسامة بن لادن في ذلك العام الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين.
مع هجمات 11 سبتمبر 2001، تحول تنظيم "القاعدة" إلى مصدر تهديد للولايات المتحدة والتي جعلت مكافحة الإرهاب على رأس أولويات سياستها في المنطقة، خاصة مع غزو أفغانستان في العام نفسه، ثم مع الغزو الأمريكي للعراق في 2003، برزت ضغوطات أمريكية خلال هذا العقد لإجراء إصلاحات داخلية في دول المنطقة للحد من البيئات المولدة للتطرف. في الوقت نفسه، تولد عن تنظيم "القاعدة" تنظيمات فرعية أخرى عديدة أثارت اضطرابات في المنطقة كتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" في 2006، كما مهد انتشار الفكر القاعدي إلى بروز تنظيمات أخرى أكثر تطرفاً في خطابها وسلوكياتها، كـ"داعش" في سوريا والعراق في عام 2014.[9]
ثالثاً: موجة تحول ما بعد الثورة الإيرانية
حفزت تلك الثورة في العام 1979 على بروز موجة تحول ليست فقط هوياتية في المنطقة، وإنما ارتبطت بها انتقالات متشعبة كان مضمونها الأبرز صعود الفواعل المسلحة دون الدول على حساب الدول. فقد دشنت الثورة الإيرانية لمشروع سياسي شيعي مضاد للنموذج الغربي، لكنه واجه في بدايته حرباً مع العراق (1980-1988) حجمت تمدده إلى السياق العربي. إلا أن الحاجز العراقي تعرض للإنهاك سواء في الغزو العراقي للكويت في 1990 وما تبعه من حرب عاصفة الصحراء، أو في الغزو الأمريكي للعراق في 2003.
مهد ذلك الغزو الطريق لإضعاف أكبر للدولة العراقية وجعلها موضوعاً وليس فاعلاً في التنافس الإقليمي والدولي، مع صعود الطائفية والمليشيات والتنظيمات الإرهابية التي بلغت مداها العنيف بعد أكثر من عقد علي يد تنظيم "داعش". وفي ظل تكرس الأزمة الأمنية في العراق، بدت القدرة الإيرانية أكبر على اختراق دول المنطقة العربية، كلبنان وسوريا واليمن والعراق، عبر سياسة استقطاب ودعم الفواعل المسلحة دون الدول.
مع رهان إيران على تلك الفواعل لتعزيز نفوذها الإقليمي ومواجهة إسرائيل بشكل غير مباشر، فقد أنتج ذلك من رحمه تحولاً تاريخياً تمثل في انتقال الحروب العربية الإسرائيلية من الدولة كفاعل رئيسي في حروب (1948، 1956، 1967، 1973) إلى الفواعل المسلحة دون الدول كفاعل رئيسي في حروب (حزب الله وإسرائيل في عام 2006، حماس وإسرائيل منذ 2008 إلى الآن). تعززت قدرة تلك الفواعل بشكل أكبر كمحركات للانتقال الحرج في مسار المنطقة في مرحلة ما بعد الثورات العربية في 2011. إذ أعقب تدخل حلف الناتو لإسقاط نظام القذافي في ليبيا في 2011 صعوداً للمليشيات، كلاعب في الصراع إثر انفراط عقد مؤسسات الدولة، كما حفزت تدخلات روسيا، تركيا، إيران، الولايات المتحدة في سوريا على تقوية الجماعات المسلحة، فضلاً عن الشركات الأمنية الخاصة. هكذا الأمر أيضاً مع جماعة الحوثيين إثر تدخل التحالف العربي في اليمن في 2015، حيث زادت قوتهم بعد تسع سنوات من حرب بلا حسم، ليصبحوا مهدداً لأمن البحر الأحمر على نحو برز بعد اشتعال حرب غزة الأخيرة. [10]
تلك النماذج من موجات التحول، بما احتوته من نقاط حرجة مضطربة ومتشابكة ومتشعبة ومترابطة ومتنقلة في أماكن وأزمنة مختلفة، تشي بطبيعة تعقد الانقطاعات في الشرق الأوسط، والتي تجعل مسار الهشاشة ممتداً من الماضي إلى الحاضر والمستقبل. لكن السؤال ما المصادر المولدة لنقاط التحول المستمرة ؟ هنا، يمكن فحص دورة تلك النقاط، من حيث السياقات وعتبات التغيير وحالة اللاعودة وإمكانية كسرها.
القابلية للكسر.. مأزق الاستقرار الظاهري
القابلية للكسر تعني أن الانقطاع في مسارات الأحداث في المنطقة لم يكن ليحدث إلا إذا كان السياق ذاته قابلاً ومحفزاً عليها، وهو ما يرتبط بمدى حدة الأزمات الهيكلية. في حالة الشرق الأوسط، تبدو القابلية مرتفعة لكسر مساراته، لأن الاستقرار يعكس حالة "ظاهرية هشة" أكثر منه استجابات لمشكلات مزمنة لدى دول ومجتمعات المنطقة، وذلك بسبب تلاقي ثلاث اختلالات هيكلية كبرى، هي:
أولاً- الاختلال الداخلي: تغولت الدولة في الشرق الأوسط على المجتمع وقيدته، بل إنها تماهت مع النظام والقيادة، بدرجات متفاوتة، وفقاً لخصوصية كل دولة وإرثها المؤسسي. من ثم، عبرت غالبية أنظمة الحكم -على اختلاف أشكالها- عن معضلة "التمثيل الضيق"، أي تسيطر عليها مجموعات محدودة من النخب وشبكات المصالح التي تتمحور حول السلطة والموارد ومدعومة بأدوات قسرية، وتفتقر إلى قاعدة اجتماعية واسعة. تعززت تلك المعضلة مع غياب المحاسبة في ظل السيطرة على قواعد اللعبة الانتخابية والبرلمانات والمعارضات، باستثناء نماذج إسرائيل وإيران وتركيا وإن شابتها قيود في تجاربها الديمقراطية برزت خلال العقد الأخير.
خلف هذا النوع من الأنظمة معضلات هيكلية، كالتفاوتات الاقتصادية الاجتماعية، وعدم القدرة على استيعاب التنوعات الهوياتية والأقليات. ومع غلبة نمط الاقتصادات الريعية سهلة الإيرادات في المنطقة، ضعفت كفاءة بعض دول المنطقة على خلق بنى إنتاجية حداثية تستوعب الشرائح الديمغرافية الشابة الغالبة على الهيكل السكاني، بالتالي تكرست معضلات البطالة والفقر وبدت نماذج التنمية تفتقر لعدالة توزيع العوائد، ومن ثم اقترن الركود السياسي بالركود الاقتصادي، كما يذهب نزيه الأيوبي في تحليله لمعضلة الدولة العربية. وبرغم أن بعض دول المنطقة سعت لانتهاج إصلاحات اقتصادية بعد تغلغل العولمة والسياسات النيو ليبرالية عبر الفصل بين معضلتي العجز الديمقراطي والتنموي على أساس تجارب آسيوية، كالصين وسنغافورة وغيرها، إلا أن بعضها لازال يواجه تحدياً هيكلياً يتعلق بضعف الاحتكام للقانون وهيمنة الاحتكارات[11].
مع استمرار تلك الأزمات المزمنة، ضعفت وظائف الدولة وتآكلت تدريجياً شرعيتها، وهو السياق الذي حفز على إنتاج نقاط تحول حرجة، كالثورات العربية في عام 2011. إلا أنه مع تعثر الأخيرة تأزمت أكثر معضلة الدولة في المنطقة، بما جعلها أكثر قابلية للاختراق الخارجي أو الحروب الأهلية، لتشهد المنطقة أشكالاً لدول ناقصة السيادة (تسيطر قوات أجنبية على أجزاء من أراضيها، كما سوريا) وأخرى منقسمة السلطة (ليبيا واليمن). ومع عدم حسم الصراعات الأهلية أو التوافق على التسوية بسبب تدويل وأقلمة صراعات المنطقة، بات نمط "الدول المعلقة"، التي لم تتفكك أو تتعافى بارزاً في دول الصراعات.
ثانياً- الاختلال الإقليمي: يعاني الشرق الأوسط معضلة مزمنة تتعلق بغياب إطار جماعي إقليمي ينظم تناقضات المصالح بين الدول، فضلاً عن تنافس قوى إقليمية على القيادة، ما أوجد اختلالاً في التوافق على رؤية الآليات المفترضة لتكريس الاستقرار. تعزز ذلك مع ضعف الأطر الجماعية العربية وعدم قدرتها على إدارة العلاقة مع الجوار الإقليمي غير العربي، مما أنتج في الأخير غلبة لمنطق أمن الدول على حساب الأمن الجماعي.
كانت تلك المعضلات حاضرة قبل ثورات 2011، إلا أن الأخيرة بلورتها، فمع ما شكلته الثورات من انكشاف للدواخل العربية، بدت القوى الإقليمية غير العربية في وضعية فائص القوة، ومن ثم وظفت ذلك في التمدد الإقليمي. فإسرائيل، وجدت في البيئة العربية الفوضوية فرصة لتوسيع التطبيع الإقليمي وبناء محاور إقليمية لمواجهة إيران دون مقابل يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية، بينما تدخلت تركيا عسكرياً في سوريا وليبيا والعراق، أما إيران، فقد كرست نفوذها الإقليمي عبر سياسة الوكالة مع فاعلين مسلحين دون الدول.
ازداد مأزق المنطقة مع نشوء استقطاب المحاور الإقليمية على نحو برز في مناطق الصراعات، كالتحالف القطري- التركي الذي دعم الإسلام السياسي بعد الثورات في مواجهة محور رباعي عربي (مصر، السعودية الإمارات، البحرين)، وهو ما قاد إلى أزمة مقاطعة الدوحة في العام 2017، فضلاً عن تدهور العلاقات بين السعودية وتركيا إثر مقتل الصحفي جمال خاشقجي في العام 2018.
لم تحسم تلك المحاور المتنافسة معادلات القوة بل زادت اضطراب المنطقة؛ فالتحالف العربي لم يستطع هزيمة جماعة الحوثيين المدعومين من إيران ومن ثم ظلت اليمن منقسمة، كما لم تحمل التدخلات الخارجية نظام بشار الأسد على الاستجابة للإصلاحات أو التسوية، بل إنه عاد في الأخير إلى الجامعة العربية في مايو 2023 بعد عزلة دامت أكثر من عقد. أما ليبيا، فقد توزعت السلطة فيها بين حكومتين مدعومتين من قوى خارجية دون اختراق للتسوية.
مع استشعار تراجع الدور الأمريكي ومخاطر انتشار الصراعات، وصعود المشروع الإصلاحي في السعودية، برزت اتجاهات للتهدئة، تجلت في توسع التطبيع الإقليمي (اتفاقات إبراهام 2020)، المصالحة الخليجية مع قطر (قمة العلا في 2021) ثم تركيا، مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة والذي شاركت فيه إيران وتركيا (2021)، استئناف العلاقات بين إيران والإمارات (2022)، ثم بين السعودية وإيران بوساطة صينية (2023). لم يترتب على تلك التهدئة تسويات تعيد الاستقرار للمنطقة، بل تفجرت بؤر أخرى، كما في السودان في أبريل 2023، على خلفية النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والذي أظهر هو الآخر تلاقي الاختلالات الإقليمية والداخلية في المنطقة [12].
ثالثاً- الاختلال الدولي: مع ارتباط الشرق الأوسط بتنافس القوى الكبرى على النظام الدولي، نشأت اختلالات في رؤية تلك القوى لاستقرار المنطقة. فقد اعتمدت واشنطن في تعزيز مصالحها في المنطقة على أنظمة وقوى إقليمية إما تعاني تأزماً داخلياً أو اندفاعاً خارجياً. وبينما كان الضغط الأمريكي على تلك الأنظمة للإصلاح الداخلي لا يؤتي أكله بسبب طبيعة المصالح الأمنية، لم تستطع الحد من التدخلات الإقليمية في مناطق النزاعات في المنطقة، في ظل ميل أمريكي للتركيز أكثر على آسيا، حيث الصعود الصيني، ثم الروسي مع حرب أوكرانيا الأخيرة.
في المقابل، بدت الصين أكثر براجماتية في تعزيز نفوذها الاقتصادي في المنطقة دون التدخل في شئون دوله. فيما وجدت روسيا حالة الصراعات الأهلية فرصة للتدخل العسكري بما يكفل لها العودة للمياه الدافئة، كما برز في مساندة موسكو لنظام بشار الأسد في سوريا، ثم تدخل "فاجنر" في ليبيا. في مواجهة ذلك، تحركت القوى الإقليمية لبناء سياسات تحوط تلاءم تعددية مراكز القوى الدولية على نحو تجلى في حرب أوكرانيا، عندما صاغت مواقف متوازنة بين روسيا والقوى الغربية.
لم تعد الولايات المتحدة تهيمن بالكامل على أوراق اللعبة في المنطقة بسبب تغير توازنات القوى الدولية، ومن ثم باتت أميل لمنطق توظيف القوى الإقليمية لإحلال الاستقرار، بما يفسح لها التركيز على مجابهة روسيا والصين. تجلى ذلك في اتجاهين: الأول، دعم التطبيع الإقليمي مع إسرائيل، كما برز في اتفاقيات إبراهام ومن بعده محاولة ضم السعودية له. أما الاتجاه الأخر، فهو الضغط على الطموح النووي الإيراني من خلال العقوبات الاقتصادية دون اللجوء إلى المواجهة المباشرة. فعندما عاد بايدن للبيت الأبيض في العام 2021 لم يستطع إحياء الاتفاق النووي الذي انسحب منه ترامب في 2018، بل لجأ إلى تسويات مؤقتة مع طهران وفي الوقت نفسه ردع وكلائها عسكرياً كما برز في الرد الأمريكي على هجماتهم بعد حرب غزة الأخيرة.
أسهم هذا النهج الأمريكي في تقليص الثقة في إمكانية أن يطرح تسويات حقيقية لأزمات تؤدي إلى استقرار المنطقة. تعزز ذلك أكثر مع دعم واشنطن لإسرائيل في حربها الأخيرة ضد غزة وإعاقة وقف اطلاق النار في مجلس الأمن أكثر من مرة، ومن ثم لم تستطع واشنطن جذب أى من حلفائها بالمنطقة على الأقل علناً، عندما شكلت تحالفاً بحرياً (حارس الإزدهار) في ديسمبر 2023 لمواجهة هجمات الحوثيين على سفن الملاحة في البحر الأحمر[13].
الشرارات وعتبات التغيير.. المفاجأة والاعتياد
في ظل قابلية سياقات المنطقة للانكسار، يصبح نشوب شرارات متفجرة تسعى لبلوغ عتبة التغيير أمراً ممكناً طيلة الوقت، مثل، عملية طوفان الأقصى أو الثورات العربية. قد ينظر البعض لتلك الشرارات على أنها مفاجئة بالنظر إلى تعقد وغموض الأحداث في المنطقة، لكن آخرين يرون أنها قد تكون متوقعة، بوجه عام، دون تحديد متى وأين وكيف تحدث شرارة الانقطاع بالنظر للاختلالات الداخلية والخارجية السابق الإشارة لها، والتي تنتج محفزات الاضطراب على فترات زمنية متفاوتة.
على سبيل المثال، يمكن النظر لعملية "طوفان الأقصى" من زاويتين: الأولى، أنها شرارة مفاجئة انقطع معها مسار التهدئة لتنتج تأثيرات كبيرة، كإعادة القضية الفلسطينية لصدارة تفاعلات المنطقة، كما أنها نتجت عن عوامل ظرفية إقليمية، كاقتراب التطبيع الإسرائيلي- السعودي، والارتباطات الوثيقة بين حماس وإيران. أما الزاوية الأخرى، فتنظر للعملية على أنها شرارة متوقعة الحدوث بوجه عام، نظراً لعوامل هيكلية تحفز عليها، كتوسع سياسات الاستيطان، والحصار الإسرائيلي لغزة، وفشل مسار أوسلو والذي لم يؤسس سوى لسلطة فلسطينية محدودة دون اختراق قضايا الحل الدائم كاللاجئين والقدس والحدود وغيرها. مالت حركة حماس في تفسير "طوفان الاقصى" إلى هذه الزاوية، حيث بررت العملية بأنها محاولة التخلص من الاحتلال الإسرائيلي[14].
لا يمكن فصل الزاويتين عند النظر لـ"طوفان الأقصى" كعتبة تغيير تعبر عن عوامل متضافرة ظرفية وهيكلية، وهو منطق يعكس عوامل نشوء الانتقالات الحرجة بشكل عام في المنطقة. على سبيل المثال، فإن الثورة في تونس اشتعلت مع إحراق بائع متجول لنفسه، ما جر خلفه غضب المهمشين اقتصادياً واجتماعياً لتتحول إلى ثورة تسقط النظام، ثم تنتشر في المنطقة بفعل المناخات القابلة للكسر في ليبيا ومصر وسوريا واليمن في العام 2011، ثم في موجة أخرى في الجزائر والسودان في 2019.
هنا، يلزم شرارات الانقطاع كي تبلغ عتبة التغيير شرطين: الأول، وعي جماعي في وقت معين بأن تغيير المسار بات ملحاً ومتفقاً عليه إما بين عدد كافٍ من الناس (الكتلة الحرجة) أو بين الفاعلين القادرين على تغيير مسار دول المنطقة. والثاني، تعرض الأنظمة للانكشاف، أي تعجز عن احتواء الشرارات الساعية للتغيير، كما جرى في السودان وليبيا واليمن، على عكس الاحتواء المغربي لشرارة الانقطاع عبر الاستجابات الاصلاحية، ومن ثم منعها من بلوغ عتبة التغيير.
مع ذلك، ثمة نمط لافت في بعض دول المنطقة يعتمد على تكرار محاولات قطع المسار حتى وإن فشلت إلى أن تبلغ عتبة التغيير بعد فترة زمنية طويلة؛ فالاحتواء الجزائري لشرارات نشوب الثورات نجح لفترة زمنية بفعل عامل الموارد، ثم تعثر في الأخير على خلفية تمسك النخبة الحاكمة بترشيح بوتفليقة لعهدة خامسة، برغم مرضه. كذلك، فالأزمات المتتالية لنظام البشير السابق في السودان منذ انفصال الجنوب وتكرار الاحتجاجات والأزمات الاقتصادية والتمردات المناطقية والضغوطات الخارجية لم تؤد إلى إسقاط النظام، لكنها أسهمت تدريجياً في إضعاف قدرته على الاستجابة، حتى سقط في عام 2019، إثر احتجاجات على مضاعفة أسعار الخبز[15].
انكسار مرحلة اللاعودة.. عدم الثقة وفقدان الأمل
في أعقاب بلوغ عتبة التغيير، تظهر مرحلة اللاعودة في مسار نقاط التحول؛ فسقوط الأنظمة السياسية إثر غزو أو ثورة أو انقلاب كنقاط تحول حرجة يغير السياسات، خاصة مع صعود فاعلين جدد يسعون إلى شرعنة وجودهم عبر القطيعة مع الماضي. لكن المعضلة أن تلك المراحل، سواء طالت أم قصرت، تتعرض للانكسار مجدداً في المسار التاريخي للشرق الأوسط. فمثلاً، فإن السنوات الأولى للمراحل الانتقالية بعد ثورات 2011 تعثرت بفعل سياسات الاستقطاب بين الفاعلين في الداخل، بما عطل التعامل مع الاختلالات الهيكلية، ومن ثم ظلت المصادر المحفزة على كسر المسار قائمة، ما أنتج حروباً أهلية وتدخلات خارجية في دول المنطقة.
الأمر ذاته يمكن إدراكه في حالة "طوفان الأقصى"، فمن الصعب العودة لسياسات جمود السلام بعد حرب غزة التي قتل فيها أكثر من 30 ألف فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال. من ثم، تراوحت تصورات اليوم التالي للحرب بين عودة السلطة الفلسطينية أو تشكيل حكومة تكنوقراط أو سلطة محلية تسيطر عليها إسرائيل أو إعادة السيطرة الأمنية لإسرائيل على القطاع. وهي تصورات تستدمج فرضية قضاء إسرائيل على حركة حماس، وهو ما لم يحدث بعد مرور عدة أشهر على الحرب. مع ذلك، فإن تداعيات الحرب جعلت الولايات المتحدة تتحدث مجدداً عن مسار حل الدولتين، فيما ربطت السعودية أي تطبيع مع إسرائيل بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، كما رفضت مصر تصفية القضية الفلسطينية، وأي سيناريوهات لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء. لم تتبلور بعد سياسات اللاعودة في الحالة الفلسطينية، خاصة أنها سترتهن بطريقة انتهاء الحرب الراهنة وطبيعة توازنات القوى، فضلاً عن الداخل الإسرائيلي، فلا يزال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يرفض الدولة الفلسطينية[16].
أياً تكن طبيعة سياسات اللاعودة المطروحة، فما لم تستجب لما جرى من مأساة فلسطينية في الحرب عبر إقرار تسوية عادلة تسمح للفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة، فمن المحتمل أن يكون مصيرها هو الكسر وإعادة تفجر الأوضاع ليس فقط على الساحة الفلسطينية، وإنما في المنطقة التي عرفت تاريخياً ارتباطات بين تداعيات الحروب ونشأة ضغوطات دافعة لنشوب انتقالات حرجة، وذلك لعدة اعتبارات أساسية:
أولها، خلَّفت حرب غزة مخزوناً من الإحباط في الوعي الجماعي لدى بعض المجتمعات إثر عدم ردع إسرائيل أو تحجيم عدوانها، وهو ما قد يتحول إلى مصدر مستقبلي لتغذية التطرف العنيف أو الدفع بالتغيير السياسي.
ثانيها، إن فائض العنف الإقليمي الإسرائيلي قد لا يتوقف عند غزة، وإنما قد يطال مناطق أخرى في الإقليم، فمثلاً تتوقع بعض التحليلات تحول الاشتباكات المحسوبة بين إسرائيل وحزب الله في لبنان بعد 7 أكتوبر إلى حرب مفتوحة ما إن تهدأ حرب غزة،[17] خاصة مع استمرار الصراع بين إسرائيل وإيران، وحالة الشعور بفقدان الأمن لدى إسرائيل والتي قد يوظفها اليمين المتطرف في حروب قادمة.
ثالثها، فقدان الثقة في سياسات القوى الغربية المنحازة لإسرائيل، فليس من المتصور أن تلك القوى التي دعمت إسرائيل بالسلاح وعرقلت وقف اطلاق النار يمكن أن تكون وسيطاً نزيهاً يدفع بتسوية عادلة للفلسطينيين. تنسحب معضلة عدم الثقة أيضاً على مؤسسات النظام الدولي، كالأمم المتحدة والقانون الدولي وغيرها التي عجزت عن وقف المأساة الفلسطينية أو حتى إيصال المساعدات الإنسانية الكافية للفلسطينيين في غزة، ما يجعل البعض يرى أن حرب غزة أدت الي انهيار قواعد النظام الدولي[18].
رابعها: إذا أضيف لتلك الاعتبارات الثلاثة، المأزق الداخلي لدول المنطقة وغياب تسويات للصراعات الأهلية واستمرار التدخلات الخارجية، فيمكن عندها تصور كيف يمكن أن تتحول حالة فقدان الأمل إلى محفز مستدام لإنتاج نقاط تحول حرجة تعمق المسار المضطرب في الشرق الأوسط.
خلاصة القول، إن مسار الاضطرابات المزمنة على مدى تاريخ الشرق الأوسط هو نتاج ترابط وتشعب نقاط التحول الحرجة والتي تتوالد على فترات زمنية متفاوتة دون توقف بسبب عوامل هيكلية وظرفية متضافرة. وما لم تجد تلك العوامل علاجاً ناجعاً لها، ستظل أبواب الخروج من مأزق المنطقة موصدة، خاصة مع تكرار السياسات الراهنة لأخطاء الماضي، وكأنها تعاني فقداناً للذاكرة التاريخية.
[1] Manjana Milkoreit et al, Defining tipping points for social-ecological systems scholarship—an interdisciplinary literature review, Environmental Research Letters, Volume 13, Number 3 2018 DOI 10.1088/1748-9326/aaaa75
[2] P. J. Lamberson and Scott E.,Tipping Points , Quarterly Journal of Political Science: Vol. 7: No. 2,2012. http://dx.doi.org/10.1561/100.00011061
Nicolas Legewie, Ingrid Tucci, Conceptualizing Turning Points in Socio-economic Trajectories – A multi-dimensional approach. 2019. https://shs.hal.science/halshs-02427614
[4] نسيم طالب، البجعة السوداء تداعيات الأحداث غير المتوقعة ، ترجمة حليم نسيب نصر، الدار العربية للعلوم ، بيروت، 2009
Ulf Engel, Black Swan, Grey Swan?: Pandemic Scenarios and African Peace and Security Futures.” African Futures, edited by Clemens Greiner et al., Brill, 2022, http://www.jstor.org/stable/10.1163/j.ctv2kqwzjh.22
[5] مالكوم جلادويل، نقطة تحول: كيف يمكن للأشياء الصغيرة أن تحدث تغييراً كبيراً؟، الدار العربية للعلوم ، بيروت، 2006،
[6] استخدم هذا الكتاب نهج نقاط التحول الحرجة لفهم المأزق الشرق الأوسطي، بينما حاول هذا التحليل الجمع بين مجموعة من نقاط التحول التي تشكل موجة تحول مع تحديد طبيعة دورة نقاط التحول ومراحلها.
Nayef R. F. Al-Rodhan , Graeme P. Herd , Lisa Watanabe, Critical Turning Points In The Middle East: 1915 – 2015. London ,Palgrave Macmillan.2013.pp7-11
[7] الشرق الأوسط هو مفهوم غربي للمنطقة تعرض للتغيرات من حيث الضيق والاتساع وفقاً لمصالح القوى الغربية، إلا أنه يحوي بشكل عام العالم العربي والمناطق المجاورة له من العالم الإسلامي، معتمداً على عوامل دينية ولغوية وإثنية، للمزيد أنظر: الشرق الأوسط.. مصطلح أوروبي لكيان جغرافي يقع في قلب العالم، الجزيرة.نت، 19 نوفمبر 2023
https://www.ajnet.me/encyclopedia/2023/11/19/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%84%D8%AD-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D9%84%D9%83%D9%8A%D8%A7%D9%86
[8] أنظر مصادر لتطورات تلك الموجة: Nayef R. F. Al-Rodhan , Graeme P. Herd , Lisa Watanabe OP.CIT .pp10-25
ديبورا ج جيرنر، الشرق الأوسط المعاصر، محاولة للفهم، ترجمة، أحمد عبد الحميد أحمد، مراجعة رؤوف عباس، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2003 .
جيم موير، سايكس-بيكو: الخريطة التي ولدت 100 عام من الغضب، بي بي سي، 16 مايو 2016
https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2016/05/160516_sykes_picot_agreement
[9] أنظر مصادر لتطورات تلك الموجة:
Nayef R. F. Al-Rodhan , Graeme P. Herd , Lisa Watanabe ,OP.CIT .pp10-25
Haizam Amirah Fernández ,The Multiple Crises in the Middle East,iemed, sept. 2015, https://www.iemed.org/wp-content/uploads/2015/09/The-Multiple-Crises.pdf
Al Qaeda: Background, Current Status, and U.S. Policy May 6, 2022, https://crsreports.congress.gov/product/pdf/IF/IF11854
[13] Ashley L. Rhoades, and et al Great-Power Competition and Conflict in the Middle East , rand ,Jun 1, 2023 https://www.rand.org/pubs/research_reports/RRA969-3.html
Dalia Dassa Kaye and Sanam Vakil ,Only the Middle East Can Fix the Middle East The Path to a Post-American Regional Order, foreign affairs ,March/April 2024 https://www.foreignaffairs.com/middle-east/fix-middle-east-united-states
Jon Hoffman ,U.S. Middle East Policy Has Failed The region is on fire, and Washington is to blame. FORIEN POLICY, 11 JAN 2024
https://foreignpolicy.com/2024/01/11/israel-hamas-gaza-war-us-middle-east-policy-saudi-biden/.