سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

منذ بداية حرب غزة في 7 أكتوبر 2023، اعتبرت إسرائيل أن الوصول إلى يحيى السنوار واعتقاله أو قتله، سيكون أحد أكبر مظاهر انتصارها على حماس، وهو ما استقر أيضاً في أوساط الرأي العام الإسرائيلي، وبالتالي شكل عجز إسرائيل حتى هذه اللحظة عن اعتقال السنوار أو قتله، أو حتى تحديد مكان اختبائه، حرجاً بالغاً لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وقادة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وإحباطاً متزايداً لدى الجمهور الإسرائيلي الذي صدق مزاعم قادته.

يمكن ملاحظة أن تصريحات نتنياهو ووزير الدفاع يؤاف جالانت كانت قد أوحت منذ ديسمبر 2023 بأن إسرائيل تعرف مكان السنوار وتقترب بالفعل من الوصول إليه. وعندما طال أمد الفشل في إثبات صحة هذه المزاعم، بدأت الرواية الإسرائيلية في التحول مؤخراً نحو ادعاء مغاير؛ بأن السنوار هرب من خلال أحد الأنفاق في جنوب غزة إلى خارج القطاع.

في إطار تلك المعطيات يحاول هذا المقال الإجابة على سؤالين:

الأول: ما هي حقيقة ودوافع الروايات الإسرائيلية التي تدعي معرفة مكان اختباء السنوار، أو التي تزعم أنه تمكن من الهرب إلى خارج القطاع؟

الثاني: بافتراض مقتل السنوار أو اختفائه وانقطاع الاتصال بينه وبين الجناح السياسي في حركة حماس الذي يرأسه إسماعيل هنية، ما هو تأثير ذلك على مسار الحرب، ومن قبلها مصير المفاوضات التي ما تزال مستمرة بوساطة مصرية وقطرية وأمريكية لعقد صفقة تبادل المحتجزين والسجناء بين إسرائيل وحماس؟

حقيقة ودوافع المزاعم الإسرائيلية حول مصير السنوار

منذ بداية التصريحات الإسرائيلية عن معرفة مكان السنوار، كان من الواضح أن هذه التصريحات لا تستند إلى معلومات مؤكدة، وأنها تأتي في إطار حرب نفسية تشنها إسرائيل على حماس، من جانب، ومحاولة لرفع الروح المعنوية لدى الشارع الإسرائيلي من جانب آخر. وما يؤكد على صحة هذا التفسير أن العبارات التي وردت على لسان القادة الإسرائيليين حول تلك القضية كانت تتسم بالعمومية ولا تحوي أية معلومات محددة، بل كانت مجرد ادعاءات ووعود بالنجاح في المهمة، حيث بدأ نتنياهو في إطلاق هذه المزاعم بنفسه.

ففي 10 نوفمبر 2023، قال نتنياهو لقناة "فوكس نيوز" الأمريكية: "إن قادة حماس، ومن بينهم يحيى السنوار، ما زالوا في مدينة غزة أو في أنفاق تحتها، وسوف نصل إليهم". وفي 6 ديسمبر، قال: "إن القوات الإسرائيلية طوّقت منزل زعيم حركة حماس يحيى السنوار في غزة، وقد قلت أمس إن قواتنا يمكن أن تصل إلى أي مكان في قطاع غزة، واليوم تحاصر منزل السنوار... قد لا يكون متحصناً في منزله ويمكنه الهروب، لكن الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن نُمسِك به". وقد كذّبت هيئة البث الإسرائيلية (المسئولة عن البيانات الإعلامية الرسمية) ما قاله نتنياهو بعدها بدقائق بقولها: "قواتنا لم تحاصر منزل السنوار بعد". وفي 22 ديسمبر، عاود نتنياهو إطلاق ادعاءاته نفسها بقوله: "الجيش الإسرائيلي يحاصر مكان السنوار".

وقد تسببت هذه التصريحات التي لم يتحقق مضمونها على أرض الواقع في تحول الحرب من حرب نفسية ضد حماس، إلى مصدر للسخرية والتشكيك في قدرات الجيش والاستخبارات من جانب الرأي العام الإسرائيلي. وبدا ذلك أمراً منطقياً، ليس فقط في كون هذه المزاعم لم تتحقق، بل أيضاً لأنها لا تتسق مع الفشل الكبير لأجهزة الاستخبارات في اكتشاف استعدادات حماس لشن هجومها في 7 أكتوبر 2023. كما أشار بعض المحللين الإسرائيليين إلى أن ما يقوله قادة الجيش عن الاقتراب من السنوار هو مجرد "تفكير بالتمني" wishful thinking، مشيرين إلى أنها تصريحات تتسم بالبلاغة اللغوية، ولا تحمل معلومات محددة، مثل تلك التي صدرت عن وزير الدفاع "يوآف جالانت" في اليوم نفسه (22 ديسمبر) بقوله: "السنوار يسمع الآن أصوات آليات وجرافات الجيش الإسرائيلي من فوقه، وقنابل سلاح الجو، وسوف يلتقي فوهات بنادقنا قريباً".

في مواجهة هذا الفشل والحرج أمام الرأي العام الإسرائيلي، بدأت الرواية الإسرائيلية في التحول نحو محاولة تبرير هذا الفشل، وليس الاعتراف به كأمر واقع؛ ففي 9 يناير 2024، نشر موقع قناة "الحرة" تقريراً أورد فيه أن مراسل جريدة "إسرائيل هايوم" في واشنطن، ذكر أن الجيش الإسرائيلي ربما يعرف موقع السنوار لكنه تجنب حتى الآن استهدافه لأنه أحاط نفسه (أي السنوار) بالعديد من الرهائن الإسرائيليين الذين استخدمهم دروعاً بشرية.

وبدوره، كان هذا التبرير غير كافٍ لمحو القناعة المستقرة لدى الرأي العام الإسرائيلي بعجز حكومته عن حماية أمنه. وقد عبر أحد المعلقين الإسرائيليين عن مدى الإحباط من حقيقة هذا العجز، فكتب "ميكا هيلبرون"، المحلل في جريدة "جيروزاليم بوست"، مقالاً في 14 فبراير 2024 تحت عنوان "حرب إسرائيل في غزة تتوقف بالكامل على يحيى السنوار"، قال فيه: "بقاءه السنوار سيعطي دفعة لمقاتلي حماس لمواصلة قتالهم، لأنه إذا تمكن قائدهم من البقاء على قيد الحياة، فسيمكنهم كذلك البقاء ومواصلة القتال". ويوضح هيلبرون أهمية الوصول للسنوار، بقوله: "إن قتل السنوار أو اعتقاله لا يعني مجرد قطع رأس ثعبان حماس، بل يعني انفراط عقدها، إذ أنه لا يمكن لأي شخص آخر داخل قطاع غزة أن يحل محله، وأؤلئك الذين يقيمون خارج القطاع لا يتمتعون بالمصداقية، لأنهم لا يملكون الجاذبية اللازمة لتحفيز رجالهم على مواصلة الحرب".

واتساقاً مع محاولات أقطاب الصهيونية الدينية من أمثال وزير الأمن القومي "ايتمار بن غفير" تبرير الفشل الإسرائيلي والتخفيف من وقعه على الرأي العام، باتهام "مصر بأنها تساعد حماس"، قامت صحيفة "إسرائيل هايوم" بنشر تقرير في 20 فبراير الجاري، نسبته إلى رواية في موقع "ايلاف" عن هروب السنوار وشقيقه إلى سيناء واصطحابه عدداً من الأسرى الإسرائيليين، لاستخدامهم كدروع بشرية. ولكن في اليوم التالي مباشرة (21 فبراير)، نشر موقع Times of Israel تكذيباً على لسان الجيش الإسرائيلي لهذا التقرير ولزعم "بن غافير".

وتوضح تطورات الروايات الإسرائيلية عن السنوار أن أجهزة الأمن هناك ليس لديها أية معلومات دقيقة عن وضعه الصحي أو مكانه، ولذلك بدأت في اعتباره غير ذي صلة بقرارات الحرب، تحت دعوى أن اتصالاته برفاقه في القيادتين العسكرية والسياسية للحركة، وكذلك اتصالاته بالوسطاء في مفاوضات الرهائن، منقطعة منذ 10 فبراير!! وأن الحركة بدأت بالفعل في البحث عمن سيخلفه في القيادة. وذكر تقرير لهيئة البث الإسرائيلية أن روحي مشتهي، الشخصية الأكثر قرباً من السنوار، يمكن أن يكون البديل المحتمل له، على أساس علاقتهما الطويلة منذ أن كانا سجينين في نفس الزنزانة في إسرائيل حتى الإفراج عنهما معاً في صفقة جلعاد شاليط عام 2011. ويؤكد التقرير نفسه أن مشتهي هو رجل الاتصالات مع قيادات حماس في الخارج في الفترة الأخيرة. وكما هو واضح، ليس هناك أساس قوي لأيٍ من هذه التقارير للزعم بإمكانية البناء عليها في تحديد مصير السنوار، ورغم ذلك يمكن طرح سؤال افتراضي عن تأثير غيابه (أي السنوار) على القضايا المختلفة المطروحة على الطاولة حالياً.

ما هو تأثير غياب السنوار؟

فرضية انقطاع صلة السنوار بمجريات الحرب، وبعملية التفاوض حول تبادل الأسرى، سواء تضمنت احتمال مقتله أو هروبه أو اختفائه، لا تلغي أهمية البحث في المسألتين معاً: من يدير الحرب؟ ومصير المفاوضات حول الهدنة والمحتجزين.

فيما يتعلق بالحرب ومن يقوم بإدارتها حالياً، من المفترض أن العمليات العسكرية التي تتطلب قدراً كبيراً من التخطيط والتنسيق بين أفرع قوات حماس، هي عمليات إطلاق الصواريخ نحو المدن الإسرائيلية، وبالتالي فإن قياس حجم تلك الضربات ومعدلاتها يبين إلى حد كبير الدور الذي تلعبه القيادات العليا في حماس، وعلى رأسهم السنوار، في اتخاذ قرارات الحرب، أما الاشتباكات التي تقع من خلال  كمائن تنصبها أعداد محدودة من مقاتلي حماس للجنود الإسرائيليين داخل القطاع، فإنها لا تستلزم سوى اتخاذ قرارات من جانب قيادات وسطى أو قيادات الصف الأدنى. ووفقاً للبيانات الإسرائيلية، فإنه في الشهر الأول من الحرب تلقت إسرائيل 9500 صاروخ، مقابل 1500 صاروخ فقط في الشهر الثاني، ومع احتلال القوات الإسرائيلية لأنحاء واسعة من القطاع وتشديدها الحصار حول خان يونس ورفح الفلسطينية في الجنوب، هبط معدل إطلاق الصواريخ نحو إسرائيل بشكل حاد، حتى باتت بيانات حماس والجهاد تقتصر على وصف هذه العمليات بمسمى "رشقة" ولا تذكر أعداداً محددة للصواريخ التي تتضمنها هذه "الرشقة"، ولم يشهد شهر فبراير 2024 أي بيانات تشير إلى إطلاق الصواريخ من غزة، وهو ما يعني أن حماس باتت تعتمد على العمليات النوعية من نوع: زرع الألغام قرب تمركزات الجيش الإسرائيلي، أو اشتباك مجموعات صغيرة من المقاتلين التابعين لها مع القوات الإسرائيلية من مسافات قريبة، وكذلك إطلاق قذائف صوب الدبابات والمدرعات الإسرائيلية من حين إلى آخر. ولا تحتاج مثل هذه العمليات إلى تخطيط وسيطرة من جانب القيادات العليا في حماس، وهو ما يعني أنه كلما قل دور الجناح العسكري في الحرب الدائرة، فإن الجناح السياسي سيقوى على حسابه في عملية اتخاذ القرار بشأن صفقة الهدنة والمحتجزين.

ملاحظات ختامية

رغم الضغوط الكبيرة التي تحاصر إسرائيل من جانب مصر والمجتمع الدولي لعدم شن عملية برية في رفح، إلا أن التوقعات الإسرائيلية  بنشوب انقسام بين الجناحين العسكري والسياسي في حماس على خلفية غموض مصير السنوار، قد تشجع نتنياهو على الاستمرار في التجهيز للمعركة في رفح، ليس بهدف تنفيذها بالضرورة ولكن لاستخدامها كوسيلة ضغط على حماس لإنهاء الحرب في وقت مبكر نسبياً وفقاً للافتراضات التالية:

1- حتى بافتراض قبول الجناح السياسي في حركة حماس عقد صفقة تبادل للأسرى مقابل مجموعة من الهدن الإنسانية فقط، فمن المشكوك فيه أن يوافق الجناح العسكري على تلك الصفقة، لميله إلى  تحويل المعارك من حرب لها أهداف، إلى انتحار، أو "استشهاد" بالمعنى الديني والأيديولوجي. وتحتاج إسرائيل لبعض الوقت لضمان نشوب النزاع بين الجناحين وظهوره للعلن لتحقيق مزيد من الشعور بالإحباط بين الفلسطينيين في غزة.

2- يحتاج نتنياهو، في ظل قناعة متزايدة في أوساط الرأي العام الإسرائيلي بأنه يظهر اهتماماً زائفاً بمصير الأسرى، أن يبدو أنه حاول حتى اللحظة الأخيرة تحريرهم، وإثبات أن حماس هي التي أفشلت المحاولة، بما يوسع في النهاية من حجم التأييد الشعبي في إسرائيل لعملية استكمال الحرب ولو بطرق أخرى.  

3- رغم عدم إيلاء نتنياهو اعتباراً للقانون والمجتمع الدوليين، إلا أنه بدأ بالفعل في نقل أعداد كبيرة من الفلسطينيين بعيداً عن رفح، للإيحاء بأنه جاد في تنفيذ عملية برية هناك في أي لحظة، بما يصب في النهاية في صالح سياسة ممارسة أقصى الضغوط على حماس لإجبارها على تقديم تنازلات كبيرة، أو إجبار المجتمع الدولي على أن يتولى قيادة عملية نزع سلاح غزة بدلاً من الإسرائيليين.

وفي كل الأحوال، ستسعى إسرائيل للبقاء في القطاع وعدم السماح بمعالجة أوضاع السكان المتضررين من آثار الحرب (عودتهم إلى مدنهم وقراهم، والبدء في إعادة الإعمار)، إلا بعد تحقيق مطالبها وعلى رأسها فصل مسألة تحديد مستقبل القطاع غداة الحرب،عن قضية معالجة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على أساس حل الدولتين.