د. محمد عز العرب

رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

شهدت السياسات الخارجية لعدد من دول الإقليم، خلال الأعوام الثلاث الماضية، استدارة ملحوظة نحو تعزيز التقارب مع دول كانت تمثل خصوماً لها، فوق جغرافيا متحركة، على نحو ما عبرت عنه مؤشرات مختلفة منها إجراء اتصالات والقيام بزيارات وعقد محادثات بين وفود رسمية، معلنة وغير معلنة، في توقيتات متزامنة، وتشكيل لجان للمتابعة، للنقاش بشأن القضايا العالقة أو المسائل الخلافية في العلاقات الثنائية أو التحديات الضاغطة على الأمن الوطني والاستقرار الإقليمي، بل تم التوصل لتفاهمات سياسية والتوقيع على اتفاقيات اقتصادية وزيادة منسوب العلاقات التجارية والتدفقات الاستثمارية، وتجاوز "المقاربات الصفرية"، الأمر الذي يشير إلى مقاربة مختلفة قد تؤدي إلى أوضاع استراتيجية جديدة في الشرق الأوسط في عام 2024.

أولاً: مؤشرات دالة

صار أحد الملامح الرئيسية لتفاعلات الشرق الأوسط هو إجراء العديد من القوى الإقليمية الرئيسية، مثل مصر والسعودية والإمارات وتركيا، مراجعة لسياستها الخارجية بما يخالف ما كان قائماً منذ سنوات، وهو ما عبرت عنه مؤشرات عدة منها:

1- قيام القيادات السياسية بزيارات رسمية: وهو ما برز جلياً في زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمصر في 14 فبراير الجاري (2024)، وهو ما يمثل تراكماً للتهدئة التي جرت بين القاهرة وأنقرة بعد سنوات من التوتر الحاد في أعقاب إسقاط نظام حكم الإخوان بعد ثورة 30 يونيو. كما زار رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد تركيا في نوفمبر 2021، وتم التوقيع على جملة من الاتفاقيات، وإعلان الإمارات عن تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات في تركيا، وأعقبها زيارة أردوغان للإمارات في فبراير 2022. كما زار الرئيس السوري بشار الأسد المملكة العربية السعودية في 19 مايو 2023، لحضور فاعليات القمة العربية لينهي مرحلة التوتر مع المملكة على مدى يتجاوز العقد من الزمن. ولعل تلك الزيارات على مستوى القيادات السياسية تعبر عن تحول سياسي متدرج في الإقليم.

2- التوقيع على اتفاقيات سياسية تنهي حالة الخصومة: ولعل أبرزها اتفاق دول الرباعية العربية وقطر على تجاوز إرث سنوات المقاطعة، والتوقيع على بنود اتفاق العلا في قمة مجلس التعاون الخليجي في 5 يناير 2021، على نحو أدى إلى طي صفحة الأزمة مع دولة قطر، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك عدداً من القضايا العالقة بين دول الرباعية وقطر، والتي تبحثها اللجان المشتركة، بما يؤدي في النهاية إلى غياب الشكوى التي كانت مثارة من جانب دول الرباعي العربي بشأن تدخلات قطر في الشئون الداخلية لبعض الدول العربية والاستقواء عبر علاقتها بما أطلق عليه البعض "الذئاب الإقليمية".

3- تدشين أطر مؤسسية مشتركة: تعمل بعض دول الإقليم على التهدئة من خلال إنشاء أطر مؤسسية، حيث وقع وزير الخارجية السعودي بالنيابة، مساعد بن محمد العيبان، في 26 أغسطس 2021، مع نائب رئيس مجلس الوزراء وزير خارجية قطر، الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثان، في مدينة نيوم، على البروتوكول المعدل لإنشاء مجلس التنسيق السعودي-القطري، الذي يترأسه من الجانب السعودي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ويترأسه من الجانب القطري الأمير تميم بن حمد. وهنا تجدر الإشارة إلى أن السعودية تنتهج في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز سياسة تدشين مجلس تنسيق ثنائي مع عدد من الدول الخليجية والعربية، وهو ما يأتي في سياق منظومة إقليمية تفرض ذلك، على نحو يؤدي إلى تنسيق سياسات البلدين في مجالات مختلفة بحيث تبدو متكاملة.

4- إجراء المحادثات الاستكشافية لتجاوز القضايا الخلافية: على نحو ما حدث بين وفدي مصر وتركيا، مرتين في عام 2021. فضلاً عن التصريحات التي عبر عنها عدد من المسئولين الأتراك، بمن فيهم الرئيس رجب طيب أردوغان، التي كانت تشير إلى لهجة مختلفة تجاه مصر. إذ قال خلال مقابلة تلفزيونية له مع قناة TRT بتاريخ 2 يونيو 2021: "مصر ليست دولة عادية بالنسبة إلينا، فعلاقاتنا ممتدة عبر التاريخ، وحالياً تجري اجتماعات بيننا ونشترك في وجهات النظر حول ملفات عدة، ونعمل على التوصل إلى تفاهمات تحقق مصلحة الدولتين والشعبين". وأكد الرئيس التركي في المقابلة على أن بلاده "لديها فرص تعاون جاد مع مصر في منطقة واسعة من شرق البحر المتوسط ​​إلى ليبيا"، وتكرر ذلك في تصريح بتاريخ 29 نوفمبر 2021 بأن المحادثات مع الإمارات سوف تمتد إلى مصر. ويمثل ذلك تحولاً في توجه الرئيس التركي وسياسته الخارجية تجاه دولة كانت تصنف بأنها من أشد خصومه في الإقليم.

يُضاف إلى ذلك المحادثات الاستكشافية بين السعودية وإيران، التي أُجريت ست جولات منها في العراق، وهو ما اعترف به وزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان في حواره له مع صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية في 4 أكتوبر 2021، والتي قادت في نهاية المطاف إلى الاتفاق الثنائي برعاية بكين في 10 مارس 2023. وكذلك أُجريت المحادثات الاستكشافية بين تركيا واليونان في 6 أكتوبر 2021، رغم أجواء التوتر التي تحيط علاقات البلدين لاسيما بعد صفقة الغواصات الفرنسية لليونان، الأمر الذي يشير إلى توجه للتهدئة ليس في الشرق الأوسط وإنما في شرق المتوسط أيضاً.

5- الاتجاه لبدء محادثات سياسية بين الخصوم: وهو ما ينطبق على احتمال بدء المحادثات الدبلوماسية بين تركيا ونظام الأسد في سوريا، لاسيما بعد فترة من المحادثات على مستوى أجهزة المخابرات. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو بتاريخ 10 نوفمبر 2022 إن "بلاده قد تدرس رفع مستوى الاتصالات مع دمشق من مستوى أجهزة المخابرات إلى المستوى الدبلوماسي عندما تتهيأ الفكرة". وهنا تجدر الإشارة إلى أن جاويش أوغلو كشف في 11 أغسطس 2022 عن محادثة قصيرة أجراها مع وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في أكتوبر 2021، ودعا إلى مصالحة بين النظام والمعارضة بهدف التوصل إلى حل للأزمة السورية.

ثانياً: سياقات محفزة

يمكن القول إن هناك مجموعة من العوامل المفسرة لتزايد التوجه نحو التهدئة وصولاً إلى المصالحة بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، على النحو التالي:

1- التأثيرات المتصاعدة للصراعات الداخلية العربية: والتي صار لها أبعاد إقليمية واضحة؛ فالصراعات التي تشهدها كل من ليبيا واليمن ليست بين أطراف محلية، وهو ما يفسر أن تهدئتها أو تسويتها مرهونة في المقام الأول بتوافقات إقليمية، لاسيما إن أي طرف لم يستطع حسم الصراع لصالحه على مدى السنوات الماضية. ومن ثم، لا يتوقع تهدئة الصراع اليمني إلا عبر توافق سعودي-إيراني، كما أنه لا يمكن تهدئة الصراع الليبي إلا بتوافق مصري-تركي. وهنا، قال إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئاسة التركية لوكالة "رويترز" للأنباء بتاريخ 26 إبريل 2021: "يمكن أن تُسفر المحادثات التي تجرى بين تركيا ومصر عن تعاون متجدد بين القوتين الإقليميتين المتباعدتين، وتساعد في الجهود المبذولة لإنهاء الحرب في ليبيا".

2- الرغبة في إنهاء الاستقطابات الحادة بين المحاور الإقليمية: والتي كان يمثلها المحور المصري-الخليجي في مواجهة المحور القطري-التركي، خاصة بعد تحولات الحراك الثوري في عام 2011، وكذلك المحور السعودي-البحريني في مواجهة المحور الإيراني ووكلائه من الميلشيات المسلحة في الإقليم مثل الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان والمليشيات الشيعية في سوريا والحشد الشعبي في العراق. وتشير خبرة السنوات العشر الماضية إلى أن تنافس المحاور أسهم في المزيد من مضاعفات عدم الاستقرار الإقليمي. وقد تبين أن الجمود أصاب بعض تلك المحاور لاسيما في ظل عدم تحقيقها لأي من مصالح أطرافها، بل ظهرت خلافات داخل دول المحور الواحد لتصبح هناك إدارة لخلاف الحلفاء مثلما هو الحال لإدارة العلاقة بين الخصوم.

3- التوجهات الأمريكية للانسحاب العسكري من الشرق الأوسط: خاصة بعد الانسحاب الأمريكي فعلياً من أفغانستان في أغسطس 2021، وما يثار بشأن جدولة الانسحاب الأمريكي ضمن قوات التحالف الدولي من العراق بعد امتداد تأثيرات حرب غزة الخامسة إلى داخل سوريا والعراق، حيث يتم استهداف القواعد والمصالح الأمريكية داخل الدول المشار إليها من قبل المليشيات الشيعية المدعومة من إيران، وهو ما يمثل ترجمة لما أعلنته إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من أنها تتبنى توجهات مخالفة لإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عبر الحرص على تهدئة التوترات في الإقليم، ودعم فرص التوصل إلى تسويات للصراعات بها، سواء في ليبيا أو اليمن أو سوريا.

4- التداعيات الضاغطة لحرب أوكرانيا على النظم السياسية: إذ نتج عنها تأثيرات طالت اقتصادات أغلب دول المنطقة، سواء التي تتمتع بعجز أو فائض مالي، وهو ما يدفع دول الإقليم إلى ضرورة وضع "فرامل" على تحركاتها المعادية إلى الدول الخصوم، خاصة أن مواجهة كورونا تطلبت التعاون والتنسيق بين دول الإقليم والعالم، الأمر الذي يفسر ظهور نمط "دبلوماسية الصحة" في التفاعلات الإقليمية من ناحية، وتزايد محورية الاقتصاد في التفاعلات البينية الإقليمية، من ناحية أخرى. وما أن أخذت دول الإقليم تستعيد عافيتها نسبياً بعد مرور أربعة أعوام على انتشار جائحة كورونا حتى تزايدت التأثيرات الناتجة عن الحرب الروسية-الأوكرانية، سواء من ناحية عودة أجواء الاستقطاب الدولي على الصعيد السياسي، أو من ناحية التأثيرات على صعيدي سلاسل إمداد الغذاء وتوافر مصادر الطاقة.

5- الاستفادة من الفرص الاقتصادية بعد التهدئة الإقليمية: تؤدي المفاوضات بين القوى المتخاصمة في الشرق الأوسط، وما يمكن أن ينتج عنها من اتفاق محتمل بينها، إلى تهدئة إقليمية ربما تكون إيجابية لمصالحها، حيث أنه ليس من مصلحتها الاستمرار في تصاعد الأحداث في المنطقة والوصول إلى مواجهة عسكرية مباشرة أو بالوكالة، لأن مثل هذه المواجهة ستكون لها تداعيات سلبية على كل الأطراف ويعرض اقتصاداتها للخطر. وقد تزايدت عوائق التدفق بعد بروز تهديدات للملاحة الدولية والتجارة العالمية في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن في أعقاب حرب غزة الخامسة.

ثالثاً: الأجندة التفاوضية بين أطراف التهدئة في الشرق الأوسط

هناك تساؤل جوهري مفاده: على ماذا تتفاوض أطراف التهدئة والمصالحة في الإقليم؟ وتتعدد جوانب الإجابة على هذا السؤال، على نحو يمكن تناوله في التالي:

1- وقف التدخل الخارجي في الشئون الداخلية للدول العربية: وذلك عبر الامتثال للقواعد التي تم التوافق عليها في المواثيق الدولية مثل ميثاق الأمم المتحدة، بعد أن زاد هذا التدخل في أعقاب ما عُرف بـ"الربيع العربي"، ولا يمكن للأمن الإقليمي أن يتحقق إلا في ظل وضع هذه القواعد في الاعتبار. ويُعد هذا المحدد العنصر الرئيسي في عملية المصالحات بين الدول المتخاصمة، مثلما هو الوضع بين مصر وقطر، ومصر وتركيا، والإمارات وقطر وغيرها، والذي تحاول لجان المتابعة التي تشكلت في بعض الحالات تحديد أبعاد التطور فيها.

2- تهدئة وتهيئة الأجواء لتسوية سلمية للصراعات الداخلية المسلحة: إن أحد الدوافع الرئيسية الحاكمة للتوصل إلى تفاهمات أولية وصولاً إلى توافقات مشتركة بين الأطراف الإقليمية في الشرق الأوسط هو وضع نهاية لمروحة الصراعات المشتعلة في الإقليم، على مدى عقد كامل، والتي تؤثر على دول الإقليم، عبر تدفق الإرهابين واللاجئين والنازحين والتي وصلت إلى دول عربية وغربية؛ فعلى الرغم من عدم توصل الأطراف المحلية في بؤر الصراعات للحظة الإنضاج إلا أنها تبلورت لدى بعض الفاعلين الإقليميين مثل مصر وتركيا والسعودية.

3- تقاسم الفرص والأعباء فيما يخص ترتيبات "اليوم التالي" لوقف إطلاق النار: ويأتي في مقدمتها إعادة الإعمار للبنية التحتية المدمرة في العديد من دول الصراعات العربية من ناحية، وبدء مرحلة جديدة من البناء والتنمية والمصالحة من ناحية أخرى، وهو ما ينطبق على مصر وتركيا في رؤيتيهما لمرحلة ما بعد سكوت المدافع في ليبيا، بل وربما قبله حيث تسعى الدولتان إلى التفاهم المشترك فيما يتعلق بعقود الإعمار والشركات التي تنخرط في مشروعات إعادة الإعمار في مناطق مختلفة بليبيا، وبما يخدم الأمن والتنمية في ليبيا.

4- حل القضايا العالقة بين الأطراف العربية والقوى الشرق أوسطية: فبعد الانسحاب المتدرج لواشنطن من الانخراط في تفاعلات الإقليم، لم يعد هناك خيار للدول العربية إلا الحوار المباشر مع القوى الإقليمية غير العربية؛ إيران وتركيا، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان خلال مؤتمر صحفي بالرياض في 3 أكتوبر 2021 رداً على مدى جدية الجانب الإيراني خلال الجولات السابقة من المشاورات، حيث أعرب فرحان عن أمله في أن "تضع المحادثات أساساً لمعالجة المواضيع العالقة بين البلدين، وسوف نسعى ونعمل على تحقيق ذلك".

خلاصة القول، إن المعطيات القائمة تعزز من خيار التهدئة بين الأطراف المتخاصمة لفترة من الوقت؛ إذ أن النسق العقيدي لعدد من القيادات السياسية بدأ يتغير وصار المحدد الإدراكي مفاده أن تكلفة السلام أقل من تكلفة الحرب، وأن تسوية القضايا الخلافية يمكن أن تكون مكسباً لمختلف الأطراف، وهو ما عكسته خبرة الصراعات المسلحة التي شهدتها دول الإقليم خلال العشرية الماضية. لكن من الملاحظ أن تلك التهدئة قد لا تقود بالضرورة إلى مصالحة كاملة، حيث أن فجوة الثقة لازالت قائمة بين بعض تلك الأطراف، وهو ما يتطلب إجراءات محددة للتحول من "انهيار الثقة" إلى "استعادة وبناء الثقة"، وصولاً إلى "تمتين الثقة". فضلاً عن تعدد القضايا الخلافية التي قد تشهد توافقاً في بعضها وخلافاً في بعضها الآخر، مما يؤثر أيضاً في مسار المصالحة. علاوة على تعدد الأطراف المؤثرة في صنع القرار داخل عدد من دول الإقليم، مما يؤدي إلى تباينات في الرؤى تساهم في تعثر الجهود التصالحية. فقد أصبح من الممكن رؤية تغير متدرج بالعين المجردة في الشرق الأوسط، إلا أن المرحلة المقبلة تتطلب مراقبة السلوكيات التي تراعي قواعد أو مصالح "عرب" الشرق الأوسط للتأكد من جدية خيار التهدئة.