نحو عالم أكثر إنسانية، قادر على مواجهة «مجتمع المخاطر» العالمى، تبدو معادلات الأمن وروافده المتعددة غير قادرة على توفير الأمان وتقليل المخاوف بشأن مستقبل الإنسان. بل تبدو تلك المقابلة معبرة عن إشكالية القرن الحادي والعشرين، فمع تطور الحياة ومعيشة الناس، والتنامى الاقتصادي، والتقدم التكنولوجي الكبير، تراجعت القيم الإنسانية، ودمرت البيئة، وزاد الاغتراب الاجتماعى، وتحول كل شئ إلى سلعة حتى الإنسان.
فحالة الصراع واختلال موازين القوى وهيمنة السوق والسلطة، فرضت قوانينها ومعادلاتها فتراجعت قيم العدالة والحرية والكرامة والمساواة، على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول، بل والعالم الذى تحكمه مفاهيم الحداثة وما بعدها وأيديولوجية السوق، كمنهاج للتنمية ولعلاقة الإنسان بواقعه. لتتجسد معضلة الأمان وعلاقتها بالأمن وما يرتبط بها من جدل حول مفهوم الأمن وتعدد روافده واختلاف النظر إليه، سواء على مستوى العلاقات الدولية أو على مستوى المجتمعات والأفراد، فى تلك المقابلة بين منظومتين أحدهما تعبر عن مستويات متعددة ومتشابكة من التهديدات والمخاطر الطبيعية والبشرية التي تحيط بالدولة والمجتمع والمواطن، وبين منظومة ثانية تتمحور حول القيم الإنسانية وتمثل مرآة لمدى تطور وتحضر الإنسان وقدرته على صياغة منظومة عالمية للقيم والأخلاق، وما بين المنظومتين تتقاطع الكثير من المساحات العاكسة لحالة اللا أمن واللايقين حول مستقبل الإنسانية وقيمها.
ونحن هنا لا نتحدث عن المدينة الفاضلة أو عقد اجتماعى عالمى، ولكن نتحدث عن موقع الإنسان في معادلة المستقبل والأفق المتاح له كفاعل أساسى، وما هى متطلبات الأمن المطلوبة لتجاوز سياق يغلب عليه المخاطر والتهديد المتعلقة بالوجود الذاتي لكثير من مناطق العالم بما تحتويه من طبيعة وبشر؟
لذا يبقى الأمن الإنساني بمفهومه الواسع البعيد عن التوظيف الدولى له هو الهدف والغاية، وما تفرع عنه من مكونات هو تعبير عن تعدد المخاطر التي أنتجتها صراعات القوى والأيديولوجيات والبنى الفكرية الاستعلائية التي أنتجها الغرب من خلاله نموذج الحداثة وما بعدها وتوحش الرأسمالية العالمية.
لنصبح أمام عالم محاصر بمنظومات وسياسات أمنية تسعى للحد من التداعيات والتأثيرات التي أوجدتها السياسات الصراعية والتنافسية، وهو ما يتجلى بوضوح في لغة الخطابات العالمية التي تتناول قضايا التنمية والتعاون والتعايش السلمى عبر الحديث عن الأمن وأهمية تفعيل مقوماته، لمواجهة خريطة التهديدات العالمية التي تهدد كوكب الأرض، لنصنع سلسلة من حلقات الأمن التي تشمل: الأمن الاجتماعى، والقومى والطاقة، والبيئة، والصحى، والثقافى، والسيبرانى، وغيره من الأنماط والمستويات المعبرة عن تعدد المخاطر وتعقد مفهوم الأمن وإمكانية تحقيق وصولنا للأمان.وهنا يمكن التأكيد على عدد من النقاط التالية:
1ـ الخلاف حول الأمن كمفهوم ونسبيته، واتساع مفاهيم الأمن وتحديدها بأنماط تتوافق مع مسارات التهديد، ليست بالأمر الجديد، ولكن الجديد يرتبط بما اكتسبه من أبعاد جديدة وتفعيل عدد من المتغيرات المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة، وما يحكمها من أفكار تتعلق بفلسفة الحياة وموقع الإنسان والعيش على الأرض، وتلك الموازنة بين الإنسان والآلة والسعى نحو محاكاة الإنسان، ومن ثم فالحديث عن أنماط عديدة للأمن، مثل: أمن الطاقة والغذاء والماء والبيئة والاجتماع وغيرها. تلخص إشكالية الأمن الإنسانى بمفهومه الواسع المرتبط بالحياة وإمكانية الحياة بعيدا عن حياة الغابة التى عانى منها منذ الخلق، رغم التطور وادعاء القدرة على السيطرة على الطبيعة. فالتقدم التكنولوجى لم يساعد على تحسين المعيشة والارتقاء بمستويات الرفاهة للعديد من المجتمعات، ولكنه أيضا زاد من عناصر التهديد والمخاطر بحيث لم يستطع توفير الأمان أو المساواة.
2ـ الأمن في القرن الحادى والعشرين، يشير بوضوح إلى أهمية الأمن الفكرى وكونه العمود الفقرى الحاكم لفروع وامتدادات بقية منظومة الأمن، فنحن أمام ثورة تكنولوجية لا ترتبط فقط بتحسين حياة البشر، ولا بالاقتصاد، ولا بسيطرة أصحاب التكنولوجية على براءات اختراع وتحقيق مكاسب مالية، بل إننا أمام تحولات كبرى تتعلق بموازين القوى التي تديرها العائلات الاقتصادية والشركات الكبرى وليس الدول، وأمام أفكار أيديولوجية وقيم تسعى تلك القوى لفرضها على العالم، وتغيير أنماط العلاقة بين الإنسان بذاته وعالمه، فالحديث عن أنسنة الآلة، وميكنة الإنسان، وبناء علاقات أكثر توازنا بين التقنيات الحديثة والبشر، بعد أن شهدت المرحلة السابقة الكثير من المخاوف المتعلقة بتجاوز الحدود بين العوالم المادية والرقمية والبيولوجية، وانعكاساتها السلبية على الأعراف والقيم الاجتماعية والمشكلات الأخلاقية، وسيطرة النموذج الغربى وثقافته، واتساع الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية، وبالتالي تبدو مكاسب الثورة الرابعة والخامسة المتوقعة مرتبطة بمن يمتلك تكنولوجيتها، وليس بمستهلكيها الذين يستأثرون بقوة بالتداعيات الفكرية والثقافية والاجتماعية، لتتسع الفجوة بين المنتجين والمستهلكين بدرجة تفوق ما تحقق في الثورات الصناعية السابقة، فالتقنية الحديثة وما سوف ينتج عنها من إنتاج يرتهن بأفكار ومتغيرات تشمل حركة الإنسان نفسه وأسلوب حياته ومسارات توجيه الفكرية والمعيشية. وبالتالي تتجلى أهمية امتلاك مستوى متقدم من التكنولوجيا وعدم احتكارها بين الدول المتقدمة في الغرب أو الشرق، فالدول الواقعة بين هذين النموذجين سوف تعانى بشدة من الاستقطاب الفكرى والثقافى والقيمى، ومن ثم ضعف قدرة المجتمع على التصدي للاتجاهات الفكرية التي من شأنها أن تؤثر سلبا على نظرته لمشكلاته ورؤية أسبابها وجذورها، ومن ثم تقرير حلولها. من هنا يأتي تحدى الأمن الفكرى الممثل في توافر القدرة على العيش في دول وأوطان استنادًا لخصوصيتها والمحافظة على المنظور الحضارى الذاتي والقيمى والثقافى والفكرى لمواطنى هذه الدول.
3ـ إشكالية الأمن ترتبط بالحارس والمسئول عن تحقيقه وهو الدولة، التي توافق على كونها الوحدة المكونة للنظام الدولى، ولكن مع تغير هذه البنية وتعدد الفواعل من غير الدول، وتنامى تداعيات العولمة على الدول والمجتمع والحديث عن المواطن العولمى وارتباطه بالثقافة العولمية، تغيرت هندسة الأمن والمنظور العالمى لها، وهو ما أكدته موجات «الفوضى الخلاقة» الأمريكية، وعبرت عنها جائحة كورونا والحرب الأوكرانية الروسية، وعكستها سلسلة الاضطرابات والحروب التي فخخت العديد من المجتمعات من الداخل، وحولت العديد من دول منطقتنا إلى ساحة صراع وتنافس دولى على أراضيها، وبالتالي أسهمت في مزيد من التفكيك والصراع في بنية المجتمعات لتعلى من وتيرة الخوف وعدم الأمان.
هذه الحالة التي تفرض نفسها على العديد من مناطق العالم وفى مقدمتها منطقتنا العربية ، تشير بوضوح إلى معضلة ضعف الدول وحرص العديد من القوى على مزيد من الإضعاف، كمدخل لمزيد من إضعاف المجتمعات، وبالتالي فالقضية هنا ليست فيما نرصده من تهديدات تحيط بمجتمعاتنا تتعلق بالتنمية والأمان الاجتماعى والقبول بالتنوع والتعددية والديمقراطية، ولكن أيضا وربما قبل ذلك مرتبطة بمحاولات إعادة هندسة هذه المنطقة ومناطق أخرى وفقا لموازين القوى والسلطة والمصالح العالمية، التي تعكسها بنية النظام العالمى وما تشهده من تغير، وما يشهده قطاع غزة من تصفية عرقية ومذابح إنسانية ودعم غربى لسلطة الاحتلال الإسرائيلى، خير شاهد على حالة اللا أمن التي تفرضها مصالح القوى الدولية.
4- تطور بنية النظام العالمى والثورة التكنولوجية ترافق معها تطور أدوات الحروب وتوظيف مقتضيات الذكاء الاصطناعى، الأمر الذى انعكس فى تعدد أنماط الحروب الجديدة المسماة "بحروب الجيل الرابع والخامس والسادس" حيث تم المزج بين وسائل التكنولوجيا والإعلام والشائعات كسبيل لاختراق المجتمعات ثقافيا وقيميا، وتهيئة مسرح العمليات من خلال تفكيك البنى الاجتماعية للمجتمعات الهشة وإضعاف كيانات الدول.
لذا فقد تعددت أدوات التهديد والاختراق التى تمارسها تلك القوى الدولية الكبرى، بالقدر الذى يحتم أهمية وأولوية توفير الأمن الإنسانى كمدخل لتقرير الأمن القومى للدول من ناحية، وبناء الوعى الذاتى للمواطنين كركيزة لتعزيز التماسك المجتمعى وتحقيق الأمان الاجتماعى والأمن الوطنى من ناحية ثانية.
النقاط السابقة، تشير إلى المنظور اللا إنسانى الذى يحكم الكثير من دعاوى تحقيق الأمن، وتشير أيضا لتأثير معايير التقدم والتطور على القيم والمبادئ الإنسانية، الأمر الذى يضعنا أمام تحدٍّ لا يتعلق بترسيخ الأمن والوصول إلى درجات عالية من الأمان الإنسانى والاجتماعى، ولكن يضعنا أيضًا أمام تحدٍّ آخر يتعلق بفهمنا للإنسانية وقيمها، وحدود إعلائها فى مواجهة الكثير من التحديات التى تطل علينا، والمتغيرات التى أخذت سبيلها لتشكيل الحياة فى القرن الحادى والعشرين.