صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

وضعت تفاعلات المليشيات العراقية المسلحة مع سياقات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، الحكومة العراقية برئاسة شياع السودانى بين شقى الرحى الأمريكية-الإيرانية؛ لاسيما مع ارتفاع مستوى الاستهدافات العسكرية المتبادلة بين تلك المليشيات وبين القوات الأمريكية، والتى دخلت مرحلة نوعية بتوسيع الأولى نطاق ضرباتها العسكرية لتشمل القواعد الأمريكية خارج حدود العراق وسوريا باستهداف برج المراقبة العسكرية "تى 22" فى أقصى الشمال الشرقى للأردن يوم 28 يناير الجارى (2024).

 ويقع البرج بالقرب من قاعدة التحالف الدولى فى منطقة التنف السورية عند المثلث الحدودى العراقى-السورى-الأردنى، فيما يعد تطوراً نوعياً فى قواعد الاشتباك التى كانت سائدة على مدار الشهور الأربعة الماضية. كما تزامنت هذه الهجمات مع بدء فعاليات اللجنة العسكرية العليا الأمريكية-العراقية المعنية بمفاوضات "إنهاء مهام التحالف الدولى" والتى عقدت أولى جلساتها يوم 27 يناير الجارى، بعد تقديم السفيرة الأمريكية إلينا رومانسكى إلى ووزير الخارجية العراقى فؤاد حسين رسالة تفيد بموافقة واشنطن على بدء مسار تفاوضى لإنهاء مهام التحالف الدولى بشكلها الحالى (التدريب والتسليح والمشورة والاستخبارات)، واستبدالها بنمط محدد من العلاقات الثنائية يتم الاتفاق عليه من خلال المفاوضات.      

استهداف نوعى 

فى 28 يناير الجارى، استهدفت فصائل المقاومة الإسلامية فى العراق برج مراقبة عسكرياً يتبع القوات الأمريكية فى أقصى نقطة حدودية فى شمال شرق الأردن بالقرب من الحدود العراقية-الأردنية، ويقوم البرج انطلاقاً من تواجده فى الأراضى الأردنية بتوفير مهام الحماية والتأمين لقاعدة التنف التابعة للتحالف الدولى فى جنوب شرق سوريا، والتى تقع بالقرب من منطقة المثلث الحدودى بين العراق وسوريا والأردن.

وتختلف عملية الاستهداف تلك عن كل العمليات السابقة التى قامت بها المليشيات العراقية ضد القواعد الأمريكية فى العراق وسوريا (أكثر من 150 عملية استهداف) فى نطاقها الجغرافى؛ حيث وقعت داخل الأراضى الأردنية ما يعد تغييراً فى نطاق الاستهدافات الاعتيادية للمليشيات العراقية التى قصرت عملياتها على القواعد الأمريكية فى العراق وسوريا، كما أنه وللمرة الأولى تقع خسائر بشرية فى القوات الأمريكية – مقتل 3 جنود وإصابات صعبة لعدد 27 جندى – جراء هذه العملية مما يجعلها مختلفة بكافة المقاييس عن كافة عمليات الاستهداف السابقة، لاسيما وأن الرد الأمريكى المتوقع سيكون "نوعياً" بدوره ومختلفاً عن نمط الاستهدافات المتبادلة مع المليشيات العراقية على مدار الشهور الأربعة الماضية، الأمر الذى يؤشر إلى مرحلة جديدة من المواجهات قد تشهد تغيراً نوعياً فى قواعد الاشتباك بين الطرفين.

وقد تعددت الروايات التى تفسر استهداف المليشيات العراقية لقاعدة "تى 22"، كما أن البنتاجون الأمريكى نفسه صرح بأنه لا يزال بصدد جمع المعلومات الكافية عن الحادث، وإن كان تصريح الرئيس الأمريكى جو بايدن، فى أعقاب الحادث مباشرة، كان قد أشار إلى مسئولية "جماعات متطرفة" مدعومة من إيران؛ دون أن يوجه اتهاماً مباشراً للأخيرة، ما فسره البعض برغبة الولايات المتحدة بعدم تصعيد الصراع أو الدخول فى مواجهات مباشرة مع إيران فى الوقت الراهن، وهى رغبة إيرانية متبادلة أيضاً.

لكن السؤال الذى يُطرح هنا هو لماذا الأردن؟ والمنطقة التى يتواجد فيها "البرج 22" تحديداً؟. البعض رأى أنه ربما لم يكن المكان نفسه هو المستهدف وأن المسيرة أخطأت هدفها والمرجح له منطقة إيلات فى جنوب إسرائيل، لكن طبيعة المكان الحدودى الذى يقع فيه البرج – أقصى نقطة فى شمال شرق الأردن عند المثلث الحدودى العراقى-السورى-الأردنى- تفتح مجالاً واسعاً لقراءات مختلفة تقول بأن القاعدة تم التخطيط لاستهدافها من قبل المليشيات العراقية لعدة أسباب:

أولها، يتعلق بالموقع الجغرافى نفسه، وما يمثله البرج من مراقبة دائمة دعماً لقاعدة التحالف الدولى فى منطقة التنف السورية، بما يعيق عمليات تلك المليشيات تجاه القاعدة، حيث يقدم دعماً استخباراتياً لها.

وثانىها، يعود إلى الضربات العسكرية الجوية التى قامت بها الأردن داخل الحدود السورية، بهدف ملاحقة عمليات تهريب المخدرات والأسلحة، والتى رُوج لها بأنها ترتبط بجماعات على صلة بالمليشيات العراقية المسلحة العاملة فى سوريا، ومن ثم فإن استهداف المليشيات للقاعدة "تى 22" الأمريكية فى المنطقة الحدودية نفسها يأتى كرسالة رد على قيام القوات الأردنية باستهداف نشاط المليشيات المتعلقة بتهريب الأسلحة عبر الحدود.

وثالثها، يتمثل في أن نقطة البرج "تى 22" لعبت دوراً مهماً خلال السنوات الماضية فى تحييد نشاط قوات الحرس الثورى الإيرانى الموجودة فى سوريا – مقاتلى فيلق القدس – بالعمل فى مناطق الحدود السورية-الأردنية تحديداً، وهذه المنطقة تفرض على الأردن الكثير من التبعات الأمنية؛ حيث مواجهة عمليات انتقال عناصر المليشيات الإيرانية عبر حدوده تجاه الحدود مع إسرائيل سواء أكان ذلك أثناء الصراع السورى نفسه على مدار الإثنى عشرة عاماً الماضية، أو فى الوقت الراهن أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة على مدار الشهور الأربعة الماضية.

ورابعها، يتصل برغبة المليشيات العراقية، بدعم من إيران، في فرض مزيد من الضغوط على الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق عبر استهدافه فى مناطق أخرى لم تكن ضمن بنك أهداف تلك المليشيات، لكن حدوثها فى ظل سياقات بدء أعمال اللجنة العسكرية المشتركة قد يشير إلى هدف محدد، وهو رفض أى مخرجات جديدة لتلك اللجنة –عملها يستغرق شهوراً طويلة للتخطيط للانسحاب– تهدف إلى عقد "اتفاقات أمنية" تكون مجرد إعادة صياغة للوجود العسكرى الأمريكى فى العراق تحت مسميات جديدة.

الرد الأمريكى المتوقع

من المتوقع أن يأتى الرد الأمريكى على استهداف المليشيات العراقية للقاعدة الأمريكية "تى 22" فى الأردن نوعياً بدوره، وقد يتخذ عدة مسارات منها: استهداف قيادات فى فيلق القدس التابع للحرس الثورى الإيرانى فى مناطق تمركزاته العسكرية داخل الأراضى السورية. وكذلك توسيع نطاق استهداف قيادات عسكرية فى مليشيات الحشد الشعبى العراقية وتحديداً المليشيات الأكثر استهدافاً للقوات الأمريكية وهى حزب الله العراقى وحركة النجباء، ويلاحظ هنا أن ثمة تباينات بين المليشيات نفسها بشأن سبل إسنادها للمقاومة الفلسطينية فى حربها ضد إسرائيل؛ فمنها من يرى تركيز الاستهداف على إسرائيل مباشرة وهى المليشيات الأقل عدداً ونفوذاً داخل الحشد الشعبى، باستثناء عصائب أهل الحق والتى ترفض المشاركة فى سياقات الحرب الراهنة، حيث تفضل دعم الحكومة العراقية فى موقفها الرافض لتوريط العراق فى أى حرب إقليمية تؤثر على حالة الاستقرار النسبى الذى تعيشه العراق.

 ومن المحتمل أن يأتى الرد الامريكى "فائق النوعية" كأن يتجه لشن ضربات انتقائية داخل إيران نفسها بضرب مواقع استراتيجية كمؤسسات أمنية، ومنشآت ومطارات عسكرية، أو ضرب مخازن أسلحة، أو ضرب مواقع للنفط ومعامل التكرير. فى هذه الحالة، فإن قواعد الاشتباك ستشهد تغيراً فعلياً فى نمطها، وستتوسع مساحة الرد الإيرانى المقابل ضد المصالح الأمريكية فى المنطقة. وإن كان التصعيد ووفقاً لهذا الاحتمال سيكون موقوفاً على رغبة الطرفين: إيران والولايات المتحدة في عدم الدخول فى مواجهة شاملة.       

مفاوضات إنهاء مهام التحالف الدولى

بدأت اللجنة العسكرية العليا الأمريكية-العراقية المشتركة أعمالها فى 27 يناير الجارى، وهى لجنة تشكلت فى أغسطس 2023، هدفها وضع مسار لجدول زمنى يتم على أساسه إنهاء مهام التحالف الدولى فى العراق، وتوقفت أعمال هذه اللجنة لفترة ثم عادت للاجتماع بناءً على طلب الحكومة العراقية وموافقة الولايات المتحدة فى ظل ما فرضته الحرب الإسرائيلية على غزة من تأثيرات على العلاقات الأمريكية-العراقية مؤخراً؛ نتيجة تصاعد العمليات والهجمات على القواعد والمواقع التابعة للجيش الأمريكى وقوات التحالف الدولية فى العراق، والردود الأمريكية عليها والتى أسفرت عن استهداف قيادات فى حركة النجباء ومقرات عسكرية ومخازن أسلحة فى مناطق جرف الصخر جنوب بغداد وهى مناطق مأهولة بالسكان. هذه الاستهدافات المتبادلة بين المليشيات العراقية والقوات الأمريكية وضعت حكومة السودانى فى مأزق كبير يتلخص فى صعوبة الحفاظ على معادلة التوازن فى إدارة علاقات العراق بكل من الولايات المتحدة وإيران فى ظل المتغيرات الإقليمية المتسارعة وموقف الدولتين منها، والانعكاسات الناتجة عن ذلك على المشهد السياسى فى العراق.

فمن المعروف أن الحرب الإسرائيلية على غزة وتفاعلات مليشيات الحشد معها فرضت ضغوطاً كبيرة على السودانى، وأثرت مواقفه عبر "آلية المواءمة" بين مصالح الأمريكيين والإيرانيين فى انقسام قوى الإطار التنسيقى– الداعم الرئيسى له- بشأن تقدير سياساته الخارجية، لكن فى المجمل لم يحدث ذلك شرخاً كبيراً فى العلاقات بينه وبين قوى الإطار. وسيتوقف حجم التباين بين الطرفين ومدى قابليته للاتساع مع النتائج التى ستتمخض عنها فاعليات اللجنة العسكرية المشتركة الأمريكية-العراقية المشتركة؛ لاسيما بعد إعلان الحكومة العراقية أن "مهمة التحالف الدولى ستنتهى خلال دورة الحكومة الحالية" .      

فى الأخير، فإن مهام إنهاء التواجد الأمريكى فى العراق ربما تستغرق وقتاً طويلاً؛ نظراً لترتيب الملفات الأمريكية المرتبطة بشبكة المصالح الضخمة فى العراق، والتى تبدأ بالمصالح الأمنية والعسكرية، وتنتهى بالمصالح الاقتصادية وأبرزها سياسات الربط المالى بالدولار الأمريكى (لاسيما عوائد النفط العراقى). ويلاحظ أيضاً أن التحدى الأمنى الأكبر على ترتيبات ملفات إنهاء التحالف الدولى فى العراق ستكون تلك المتعلقة بمليشيات الحشد الشعبى والسلاح المنفلت خارج المؤسسة العسكرية الرسمية، وهو ما قد تضع بشأنه الولايات المتحدة - خلال المفاوضات البينية – العديد من الشروط وربما توقف انسحابها أو إعادة ترتيب نمط العلاقات مع العراق عليها ومنها "تفكيك المليشيات" أو صهرها فى بوتقة المؤسسة العسكرية وتفكيك بنيتها العسكرية والاستخباراتية، وهو تصور تكمن صعوبته فى ارتباطه بسياق العلاقات الأمريكية-الإيرانية وتفاعلاتها الإقليمية والدولية.