في ظل فشل إسرائيل وعدم قدرتها على حسم الحرب لصالحها، حيث لم تتمكن حتى الآن –والحرب تدخل شهرها الرابع – من تحقيق أي من أهدافها، سواء ارتبط ذلك بالقضاء على حركة حماس وبنيتها التحتية من أنفاق، أو تحرير الأسرى، يبدو أن تل أبيب قد أخضعت بعض سياساتها للمراجعة خاصة في ظل تحولات السياق الراهن، من ناحية تبدل مواقف الدعم الغربي إلى مواقف ضغط للتعجيل بإنهاء هذه الحرب والتي راح ضحيتها الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، مما تسبب في موجات غضب جماهيري لشعوب تلك الدول تجاه حكوماتها الداعمة لهذه الحرب وسياسات العقاب الجماعي التي تتبعها إسرائيل في فرض الضغط على حركات المقاومة الفلسطينية داخل القطاع عبر منع دخول المساعدات الإنسانية لمواطني القطاع وكذلك عمليات التهجير القسري لهم، وتدمير كامل البنية التحتية المدنية التي تجعل الحياة معها تستحيل داخل القطاع، في محاولة لدفع حركات المقاومة للاستسلام.
ومع فشل هذه الآلية لممارسة الضغط خاصة في ظل عدم قدرة إسرائيل على حسم المعارك العسكرية في الميدان لصالحها، فإنها قد انتقلت خلال الأيام الماضية إلى ممارسة سياسة ضغط جديدة تستهدف بها هيكل القيادة داخل حركة حماس عبر تفعيل بروتوكول "الاغتيالات" في إطار عملية تسمى "نيلي" (اختصار لعبارة توراتية بالعبرية تعني "إسرائيل الأبدية لن تكذب")، والتي كانت أفادت بها بعض التقارير نقلاً عن مسئولين إسرائيليين[1].
هذه الدراسة تتناول مؤشرات وملامح التحول في السياسة العملياتية الإسرائيلية ودوافعها، وكذلك السيناريوهات والتداعيات المحتملة فيما يتعلق بمجريات الحرب، واتجاهات التصعيد على الساحة الإقليمية.
مؤشرات السياسة الجديدة ودوافعها
كشفت عملية اغتيال القيادي بحركة حماس، ونائب الأمين العام للحركة، صالح العاروري، الذي تم استهدافه بالضاحية الجنوبية ببيروت في 2 يناير 2024، ومعه إثنين من القادة العسكريين بكتائب عز الدين القسام (سمير فندي، وعزام الأقرع)[2]، عن ملامح التحول في السياسة الإسرائيلية التي استهدفت للمرة الأولى أحد القيادات الوازنة في الحركة المقيمة بالخارج، حيث يعد العاروري أحد جهات الاتصال الأساسية والأكثر فعالية للحركة مع كل من حزب الله وإيران[3].
ويأتي هذا التحول تنفيذًا لما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 22 نوفمبر 2023، بأنه أمر الموساد بالعمل ضد قادة حماس، بما في ذلك خارج غزة[4]. وكانت بعض التقارير قد أفادت نقلاً عن مسئولين إسرائيليين، إطلاق عملية "نيلي" لاستهداف كبار قادة حماس[5]. هذا فضلاً عن كشف تسجيل مسرب عن رونين بار، رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي "شين بيت"، في أوائل ديسمبر 2023، وهو يقول للبرلمانيين الإسرائيليين إن قادة حماس سيُقتلون "في غزة، في الضفة الغربية، في لبنان، في تركيا، في قطر، في كل مكان... سيستغرق الأمر بضع سنوات، لكننا سنكون هناك من أجل القيام بذلك"[6].
ومن ثم، تكشف هذه العملية التي تأتي في توقيت تتواتر فيه التقارير بشأن احتمالية التوصل لهدنة مؤقتة وصفقة جديدة لتبادل الأسرى بين الجانب الإسرائيلي وحركة حماس، في إطار بعض المبادرات التي تطرحها في اللحظة الراهنة الأطراف الإقليمية الفاعلة، عن عدة دلالات مهمة ودوافع يُمكن من خلالها تفسير هذا التحول الحادث في السياسة الإسرائيلية ارتباطًا بالمتغير الزماني والمكاني لعملية اغتيال العاروري. ويُمكن إجمال أهم هذه الدلالات والدوافع فيما يلي:
1- عرقلة جهود التوصل لاتفاق هدنة طويلة يقود لوقف دائم لإطلاق النار: قد تسعى الحكومة الإسرائيلية من وراء عملية الاغتيال إلى إفشال أية مبادرات من شأنها أن تقود لوقف دائم لإطلاق النار خاصة وأنها لم تحقق حتى الآن انتصارًا عسكريًا يمكن أن تروج له داخليًا وإقليميًا على نحو يساعدها في استعادة وترميم معادلة الردع التي اهتزت في أعقاب عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر. وقد يعزز هذا التوجه الإسرائيلي القبول الأمريكي لمثل هذه المبادرات، وهو ما قد تجد الحكومة الإسرائيلية صعوبة في مواجهته عبر الرفض، خاصة في ظل درجة التوتر الناشئة في اللحظة الراهنة بين الجانبين بشأن تباين الرؤى حول سيناريوهات اليوم التالي للحرب في غزة، وبالتالي ستساعد مثل هذه العمليات في رفع الحرج عن الحكومة الإسرائيلية بأن يأتي الرفض وتعليق المفاوضات من الجانب الفلسطيني، وهو ما حدث بالفعل حيث قررت الحركة، وفقًا لمصادر فلسطينية، تجميد أي محادثات مع الوسطاء حول وقف إطلاق النار في غزة والتوصل إلى صفقة تبادل أسرى مع إسرائيل[7].
2- الهروب للأمام وتسخين الجبهات: ربما يجد أعضاء الائتلاف الحكومي المتطرف داخل إسرائيل، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في توسيع التصعيد العسكري على نطاق إقليمي أوسع فرصة للبقاء في المشهد السياسي أطول وقت ممكن للتخفيف من وطأة أزماتهم الداخلية، وذلك من خلال فرض الضغط الأقصى على أذرع المقاومة الإيرانية لتوسيع التصعيد العسكري على نطاق إقليمي أوسع، خاصة وأن عملية الاغتيال قد تمت في معقل ومركز نشاط وسيطرة حزب الله اللبناني بالضاحية الجنوبية، وبالتالي قد يقود هذا التصعيد إذا ما حدث إلى توريط الولايات المتحدة بالتدخل، ومن ثم، إطالة أمد الصراع والحرب التي تضغط واشنطن في اللحظة الراهنة من أجل وقفها أو على الأقل تغيير طبيعة العمليات العسكرية الجارية داخل قطاع غزة، وهو ما ترفضه الحكومة الإسرائيلية التي لم تتمكن حتى الآن من تحقيق انتصار عسكري يضمن لها إن لم يكن البقاء في المشهد السياسي فعلى الأقل تخفيف وطأة الانتقادات بالفشل الموجهة لهم من جانب قاعدة ناخبيهم من اليمين المتطرف.
3- تحقيق انتصار لدفع مسارات التسوية: لا يمكن استبعاد أن تكون هذه العملية قد تمت بمباركة أمريكية بهدف تحقيق انتصار يمكن للحكومة الإسرائيلية الترويج له داخليًا وإقليميًا كتمهيد لدفع مسار تفاوضي جديد لإبرام صفقة لتبادل الأسرى يتم بموجبها وقف مؤقت لإطلاق النار. كما أن اغتيال شخصية بهذا الوزن بالنسبة للتنظيم– حيث كان العاروري يلعب دورًا حاسمًا كواحد من جهات الاتصال الأساسية والأكثر فعالية للحركة مع كل من حزب الله وإيران[8]– تعكس رسالة بالردع تستهدف بها تل أبيب باقي القيادات[9]، وتؤكد مصداقية ما أعلنه نتنياهو بالعمل ضد قادة حماس، بما في ذلك خارج غزة.
أيضًا تجدر الإشارة إلى أن تل أبيب تستهدف من هذه العمليات في اللحظة الحالية تعزيز موقفها التفاوضي بحيث لا تخضع لإملاءات حماس، وخاصة عناصرها القيادية بالخارج التي تتفاوض مع الأطراف الدولية والإقليمية، وتعزز موقفها في فرض شروطها، في ظل عدم قدرة إسرائيل على تحقيق انتصار عسكري في القطاع يحسم الحرب لصالحها. وبالتالي، تعوّل تل أبيب على أن يكون توفير الحصانة لقيادات الخارج وعدم إشمالهم ضمن نطاق عمليات الاغتيال المحتملة، أحد الأثمان التي ستقدمها وستضمنها واشنطن من أجل الوصول إلى اتفاق لتبادل الأسرى المحتجزين لدى حركات المقاومة.
4- الإضرار بجهود المصالحة الفلسطينية: في ظل الجهود والمساعي التي تحاول الفصائل الفلسطينية، بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية وكذلك بعض الأطراف الإقليمية الفاعلة للملمة الداخل الفلسطيني وإعادة توحيد الصف، تمهيدًا لمرحلة ما بعد الحرب والتعامل مع ما يسمى سيناريو اليوم التالي، فإن هذه العملية قد تستهدف تل أبيب من وراءها إفشال هذه الجهود، خاصة وأن العاروري كان يُوصِف بأنه من أبرز المدافعين عن المصالحة بين الفصائل الفلسطينية المتنافسة، ويتمتع بعلاقة جيدة مع حركة فتح[10]. وكانت بعض التقارير قد تداولت الأنباء خلال الأيام الماضية عن اجتماع العاروري بأعضاء من حركة فتح والسلطة الفلسطينية لبحث إمكانية دمج حماس في الهيكل السياسي للسلطة[11]، وهو ما انعكس في بيانات الإدانة لعملية الاغتيال التي أصدرتها غالبية قيادات حركة فتح والسلطة الفلسطينية ومن أبرزهم: رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتية، وأمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح جبريل الرجوب[12].
5- تعزيز الردع الإقليمي لـ"محور المقاومة": قد تستهدف إسرائيل من عملية الاغتيال، خاصة وأنها تأتي تزامنًا مع وقوع عمليات أخرى منها على سبيل المثال حدوث تفجير في 3 يناير 2024 استهدف زائري مقبرة قاسم سليماني، قائد فيلق القدس السابق، خلال إحياء الذكرى الرابعة لمقتله، بمدينة كرمان في جنوبي شرق إيران[13]، وسبق ذلك بأيام عملية اغتيال رَضي موسوي، أحد كبار قادة ومستشاري الحرس الثوري في سوريا، وأحد المقربين لقاسم سليماني، في 25 ديسمبر 2023[14]. وعلى الرغم من تبني تنظيم داعش للعملية الأولى إلا أن قائد فيلق القدس، اسماعيل قاآني، أشار خلال كلمته لتعزية ضحايا العملية إلى "أن الذي نفذ تلك الجريمة هم عملاء الكيان الصهيوني وأمريكا" بحسب تعبيره[15]، خاصة وأن ذلك تزامن مع التصعيد الأمريكي الذي استهدف في 4 يناير 2024، مقر الدعم اللوجيستي للحشد الشعبي في بغداد، وهو ما أدى إلى مقتل آمر اللواء الثاني عشر في حركة النجباء المدعومة إيرانيًا، ونائب رئيس عملياتها في بغداد، مشتاق طالب السعيدي[16]، وبالتالي، يعكس تزامن هذه العمليات في وقت تصّعد فيه الجبهة الشمالية وكذلك الساحة اليمنية عبر جماعة الحوثي هجماتها ضد إسرائيل، سعي تل أبيب ومن ورائها واشنطن، لتعزيز الردع الإقليمي ضد ما يسمى بـ "محور المقاومة" خاصة على الجبهة الشمالية التي تشهد تصعيدًا عسكريًا منضبطًا وفقًا لقواعد الاشتباك المحددة من جانب حزب الله اللبناني.
السيناريوهات والتداعيات المحتملة
تدفع متغيرات السياق الراهن في ضوء الدوافع السابقة العاكسة للتغير في السياسة العملياتية الإسرائيلية في إدارتها للحرب خلال المرحلة القادمة، إلى عدد من السيناريوهات المحتملة، سواء على صعيد الحرب في قطاع غزة أو على الصعيد الإقليمي، وذلك على النحو التالي:
1- تجميد المحادثات بشأن صفقة جديدة لتبادل الأسرى: يتعزز هذا السيناريو في ضوء المعطيات الراهنة، حيث جاءت ردة الفعل الأولى من جانب حركة حماس باتخاذ قرار، وفقًا لمصادر فلسطينية، بتجميد أي محادثات مع الوسطاء حول وقف إطلاق النار في غزة والتوصل إلى صفقة تبادل أسرى مع إسرائيل[17]. كما أنه من المتوقع أن يؤثر اغتيال العاروري بشكل خاص على مسار المحادثات، حيث كان قد لعب دورًا في المحادثات التي توسطت فيها قطر، والتي أدت إلى إطلاق سراح بعض الرهائن، ووفقًا لبعض الخبراء الإسرائيليين، فإنه كان مسئولاً عن وضع قوائم بأسماء من سيتم إطلاق سراحهم من قبل الجانبين، مؤكدين أن دوره "لا غنى عنه"[18].
وفي هذا السياق، قد يتبع هذا الإجراء قيام عناصر المقاومة الفلسطينية التابعة لحماس بعمليات نوعية في ساحات المعارك الدائرة الآن في القطاع عبر استهداف قيادات ميدانية إسرائيلية ذات وزن عسكري، وهو ما تجلى عبر إعلان الجيش الإسرائيلي مقتل نائب قائد لواء التدريب في لواء الناحال في 6 يناير 2024[19]، وكذلك القيام بعمليات اطلاق صواريخ واستهداف من الساحة اللبنانية.
2- دفع مفاوضات صفقة تبادل الأسرى عبر الوسطاء الإقليميين: على الرغم من اتجاه حركة حماس إلى تجميد محادثات عقد صفقة لتبادل الأسرى، وهو ما كان يكتنفها بعض المعوقات لتطبيقها في ظل غياب مرونة الموقف الإسرائيلي للتجاوب مع مطالب حماس، وتمسك الأخيرة بشروطها التي طالبت فيها بوقف كامل لإطلاق النار قبل الانخراط في أية مفاوضات، بيد أنه من المحتمل أن يتغير جمود هذه المواقف خاصة الموقف الإسرائيلي عبر الضغط الأمريكي المحتمل الذي سيعتبر عملية اغتيال العاروري "انتصارًا" يُؤّمن للحكومة الإسرائيلية شرعية الانخراط في صفقة جديدة قد تكتنفها هدنة طويلة نسبية عن الهدنة السابقة التي تم التوصل إليها في شهر نوفمبر 2023. كما أنه يُمكن أن توظف واشنطن هذه الصفقة لتهدئة ساحات المقاومة المختلفة، وخاصة الساحة اليمنية التي تستهدف السفن التجارية بالبحر الأحمر.
ويعوّل في اللحظة الراهنة على أن تؤتي الجولة التي يقوم بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بالمنطقة، منذ 4 يناير وتستمر حتى 11 يناير 2024، والتي يزور خلالها عواصم الأطراف الإقليمية الفاعلة والراعية لأية وساطات مستقبلية، بثمارها في هذا الصدد، عبر حلحلة حالة الجمود في مسار التفاوض بين الجانبين.
وفيما يتعلق بالموقف الفلسطيني، فمن المتوقع أن يمارس الوسطاء الإقليميين دورًا في هذا الصدد للضغط على حركة حماس للعودة إلى مسار المفاوضات والقبول بصفقة لتبادل الأسرى وإبداء بعض المرونة فيما يتعلق بشروطها في مقابل أخذ ضمانات من جانب واشنطن لتأمين حياة قيادات الحركة الموجودة لديها من نشاط عمليات الاغتيال التي يقوم بها الجانب الإسرائيلي.
3- تفجر الأوضاع بالضفة الغربية: تشير بعض التقديرات إلى احتمالية تنشيط عملية اغتيال العاروري لمفهوم "وحدة الساحات" وزيادة فعاليته، عبر المساهمة في تفجر الأوضاع في الضفة الغربية، خاصة وأن العاروري كان قائد للحركة هناك، وتضم مسقط رأسه في بلدة عارورة، شمال غربي المدينة، كما أنه ظل منخرطًا بعمق في القضايا العملياتية لحماس، وخاصة فيما يتعلق بالضفة الغربية، وأعرب في 8 أكتوبر 2023، عن "أمله وثقته" في أن الفلسطينيين خارج غزة - وخاصة في الضفة الغربية - سينضمون إلى القتال ضد إسرائيل[20].
ويتجلى ذلك التصعيد في اللحظة الراهنة عبر خروج مظاهرات واسعة بمناطق عدة في الضفة الغربية، تندد باغتيال العاروري، وسط إضراب شامل أعلنته جميع الفصائل الفلسطينية، في 3 يناير 2024[21]، ويرجح أن تتصاعد هذه التظاهرات في الأيام القادمة.
4- الرد المنضبط من جانب إيران عبر وكلاءها الإقليميين: يبدو أن قراءة المسئولين الإيرانيين خاصة في الحرس الثوري، لتلك العمليات، تقوم على أنها محاولة من تل أبيب لتوسيع رقعة الصراع ليتحول إلى حرب إقليمية تتورط فيها الولايات المتحدة وتعيد للائتلاف الإسرائيلي الراهن الحياة من جديد والأمل في البقاء في المشهد السياسي، ولذلك ليس من المتوقع أن تقوم طهران برد عسكري متهور تحقق به أهداف تل أبيب، وستكتفي بالرد المنضبط عبر وكلاءها الإقليميين وخاصة في الجبهة الشمالية، وينعكس ذلك من خلال بيان الحرس الثوري الإيراني تعقيبًا على عملية اغتيال العاروري، بحسب وكالة تسنيم الإيرانية، الذي أكد على التزام المقاومة بخط التصعيد وفق مسارات منضبطة لا تجعلها تقع فيما أسماه البيان بـ"خطأ استراتيجي"، حيث جاء في البيان: "لن يتمكن الكيان الصهيوني الجاثي بارتكاب مثل هذه الممارسات من جعل حسابات المقاومة أن تقع في خطأ استراتيجي"، مضيفًا: "إن الصبر الاستراتيجي للمقاومة وحزب الله، لن يخرج عن إطار العقلانية والمنطق"[22].
أيضًا قد يعزز من نزوع إيران هذا المنحى المنضبط في التصعيد، تشابكاتها المصلحية مع واشنطن التي لن ترغب في أن تعكر صفوها هذه العمليات، وبما فيها عملية "طوفان الأقصى" التي كانت بمثابة اختبار لنوايا إيران بشأن التصعيد ضد إسرائيل والمصالح الأمريكية، وما إذا كانت جديرة بالحصول على اتفاق نووي يُقر لها بوضع "دولة عتبة نووية" في أعقاب انتهاء التصعيد الراهن، هذا فضلاً عن تمرير بعض الصفقات التي سمحت بموجبها واشنطن بالإفراج عن أموال إيرانية مجمدة لدى شركائها وكان آخرها الإفراج عن 6 مليارات دولار كانت مجمدة لدى كوريا الجنوبية[23]، وإن كان مر هذا الاتفاق ببعض العقبات خلال التصعيد حيث استهدفت واشنطن أن توظف الاتفاق كادأة للضغط ضد إيران لتقييد انخراط وكلائها في التصعيد ضد إسرائيل. وفي 29 نوفمبر 2023، مرر مجلس النواب الأمريكي إجراء من شأنه إعادة تجميد الأموال[24]، بيد أن البنك المركزي الإيراني نفى وجود أي قيود على الأموال الإيرانية التي نُقلت إلى البنوك القطرية[25].
وينعكس ذلك النهج المنضبط في إطار الرد المحدود لطهران الذي قامت به المجموعات المسلحة الموالية لها في العراق، حيث أعلنت "المقاومة الإسلامية في العراق"، في 7 يناير 2024، استهداف قاعدة "قسرك" الأمريكية بريف الحسكة السورية بالطيران المسيّر، وفي اليوم السابق لتلك العملية أعلنت أيضًا استهداف قاعدتي "التنف" و"الشدادي"[26].
5- تزايد وتيرة التصعيد العسكري على الجبهة الشمالية: عكس خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، في 3 يناير 2023، احتمالية تزايد وتيرة الأعمال العسكرية ضد إسرائيل، في إطار توعده بالرد على عملية اغتيال العاروري التي تمت في مركز سيطرته ونشاطه بالضاحية الجنوبية، حيث أكد أنها "جريمة خطرة لن تبقى من دون ردّ وعقاب"[27]، خاصة وأنه كان قد توعد في 28 أغسطس 2023 في خطاب له بأنه لن يسمح بأن تعود لبنان ساحة للاغتيالات، وأن أي عملية اغتيال لن يتم السكوت عنها[28]. بيد أنه من المتوقع أن يكون الرد منضبطًا بقواعد الاشتباك المحددة، إذ عكست مضامين خطاب حزب الله أن الالتزام بقواعد الاشتباك سيكون مقيدًا بحدود اعتداء إسرائيل على لبنان، حيث أكد نصر الله أنّ إسرائيل ستندم في حال شنّت حرب على لبنان لأنّ القتال سيكون "بلا ضوابط وبلا سقوف"[29]. ووفقًا لبيان للحزب في 3 يناير 2024، تم القيام بـ 11 عملية ضد إسرائيل[30]. كما أن هناك بعض التقديرات التي تدفع باحتمالية أن يكون هناك رد فعل غير عادي برعاية حزب الله، تقوم به بعض عناصر حماس في لبنان[31].
أيضًا تدفع بعض التقديرات الإسرائيلية بأن يتخلل هذا السيناريو في حالة الرد من جانب حزب الله، القيام بعمليات استهداف نوعية تشمل البنى التحتية الإسرائيلية سواء في مدينة حيفا، وخاصة المصافي ومصانع البتروكيماويات المحيطة بها[32]، إلا أن هذا الدفع تعد احتمالات لجوء الحزب إليه ضعيفة نظرًا لارتفاع الخسائر البشرية المحتملة جراء هذا الاستهداف، حيث سيكون على غرار تفجير "مرفأ لبنان"، على نحو قد يقود لحرب شاملة بين الجانبين، وهو ما لا يرغبه حزب الله على الأقل في المدى القريب والمتوسط، أو استهداف البنية التحتية الحيوية مثل حقل كاريش للغاز الطبيعي قبالة الساحل الشمالي لإسرائيل باستخدام صواريخ موجهة بدقة.
6-تصاعد عمليات الحوثيين ضد الأهداف التجارية الإسرائيلية في البحر الأحمر: من المتوقع أن تتصاعد عمليات ميليشيا الحوثي ضد الأهداف الإسرائيلية في البحر الأحمر، وذلك في إطار الرد على عملية اغتيال العاروري، وكذلك تفجيرات زوار قبر قاسم سليماني في إيران، خاصة وأنها قد أعلنت بالتزامن مع تلك العمليات، في 3 يناير 2024، أنها "استهدفت سفينة حاويات CMA CGM Tage متجهة إلى إسرائيل"، وذلك بعد يوم من إعلان القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) أن جماعة الحوثي أطلقت صاروخين باليستيين مضادين للسفن في جنوب البحر الأحمر[33].
ختامًا، تعكس متغيرات السياق الراهن على النحو المبين سلفًا، نزوع إسرائيل إلى تبني سياسة جديدة لإدارة الحرب خلال المرحلة القادمة، على النحو الذي يُمكّنها من استمرار فرض الضغط على الفصائل الفلسطينية، خاصة في ظل فشلها حتى الآن في حسم الأمر عسكريًا، ويعزز في الوقت ذاته موقفها التفاوضي، في حال لجأت إلى استئناف مسار التفاوض تحت تأثير الضغط الأمريكي الذي من المتوقع أن يكون مشمولًا ضمن أجندة مباحثات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في إطار جولته التي يجريها حاليًا في المنطقة، والتي تأتي في سياق متزامن مع قرب موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية، التي لا يرغب الرئيس الأمريكي بايدن أن تأتي في ظل هذه التوترات المتصاعدة، التي يمكن أن تتدهور في أي لحظة وتجر المنطقة نحو حرب إقليمية واسعة.
[5]What we know about a secret Israeli unit targeting Hamas terrorists, Ibid.
[7]روسيا اليوم، وسائل إعلام: حماس تجمّد أي نقاش حول وقف إطلاق النار بغزة عقب اغتيال العاروري في بيروت، روسيا اليوم، بتاريخ 2 يناير 2024. انظر:
https://ar.rt.com/wpsz
[8]A Hamas Leader Dies in Beirut, Ibid.
[12]نائلة خليل، الشهيد العاروري.. "الرجل الثاني" في حماس مسئول تسليح الضفة ومهندس "وحدة الساحات"، العربي الجديد، بتاريخ 5 يناير 2024. انظر:
https://shorturl.at/EFNV9
انظر ايضًا: رئاسة الوزراء الفلسطينية، أشتية يدين عملية اغتيال القيادي صالح العاروري ويعتبرها جريمة تحمل هوية مرتكبيها، بوابة رئاسة الوزراء الفلسطينية، بتاريخ 2 يناير 2024. انظر: https://shorturl.at/uBORT
[14]"رفيق درب قاسم سليماني"... من هو رضي موسوي الذي قتل في سوريا وكيف سترد إيران؟، وكالة سبوتنيك الروسية، بتاريخ 27 ديسمبر 2023. انظر:
https://shorturl.at/cnEQ0
[15]الجنرال قاآني: عملاء الكيان الصهيوني وأمريكا نفذوا الحادث الإرهابي في كرمان، وكالة تسنيم الدولية للأنباء، بتاريخ 3 يناير 2024. انظر: https://shorturl.at/jtJU8
[20]A Hamas Leader Dies in Beirut, Ibid.
[26]"المقاومة الإسلامية في العراق" تعلن استهداف قاعدة أمريكية في سوريا وهدف عسكري إسرائيلي في الجولان، روسيا اليوم، بتاريخ 7 يناير 2024. انظر: https://ar.rt.com/wqmh
[29]"اغتيال العاروري لن يمر".. نصرالله يحذر إسرائيل من الحرب الشاملة، مرجع سابق.
[30]المقاومة الإسلامية في لبنان تنفذ 11 عملية ضد العدو الإسرائيلي يوم الأربعاء، وكالة تسنيم الدولية للأنباء، بتاريخ 4 يناير 2023، https://shorturl.at/abxy0
[32]Yoav Itiel, After the assassination of the top official in Lebanon: Haifa's readiness for Hezbollah's response is questionable, walla, January 3, 2024. Retrieved From: https://news.walla.co.il/item/3633096