أبرمت إثيوبيا في الأول من يناير الجاري (2024) اتفاقًا مبدئيًّا مع إقليم "أرض الصومال"، تتمتع أديس أبابا بموجبه بالوصول إلى البحر الأحمر تمهيدًا لإقامة قاعدة بحرية تجارية إثيوبية بالقرب من ميناء بربرة على مساحة 20 كيلومتر مربع لمدة 50 عامًا بحسب الاتفاق، مقابل اعتراف الحكومة الإثيوبية بـ"أرض الصومال" كدولة مستقلة، وحصول "أرض الصومال" على حصة قدرها 20% من الخطوط الجوية الإثيوبية التي بلغت إيراداتها نحو 6.9 مليار دولار وفقًا لإحصاءات عام 2022[1].
ويمثل هذا الاتفاق جزءًا من لعبة جيوسياسية إقليمية تديرها بعض الأطراف الإقليمية عبر وكيلها آبي أحمد في القرن الأفريقي، والتي تستهدف وضع قواعد جديدة للعبة الإقليمية وإعادة هندسة المنطقة، بما يجعلنا أمام مناورة متعددة الأهداف؛ فمن ناحية تحقق إثيوبيا طموحها القديم لحماية مصالحها الحيوية، وإيجاد موطئ قدم استراتيجي لها في المياه الدافئة، وفي الوقت نفسه، حماية مصالح هذه الأطراف الإقليمية، بما يثير المزيد من التساؤلات حول دورها الحقيقي في تشكيل سياسة آبي أحمد الخارجية خلال السنوات الأخيرة منذ صعوده للسلطة في عام 2018.
ومع ذلك، تشكل هذه الخطوة فصلًا جديدًا في سلسلة الأزمات الإقليمية المعقدة التي تشهدها المنطقة على مدار السنوات الماضية، في ظل المخاوف من تنامي التوترات السياسية بين دول المنطقة لا سيما الصومال وإثيوبيا، وانقسام دول المنطقة حول الموقف من الاتفاق الأخير الذي ربما يدفع نحو سيناريو "بلقنة" القرن الأفريقي وما يعنيه ذلك من تقسيم دول المنطقة إلى دويلات متنازعة تعصف باستقرار المنطقة، وتهدد المصالح الدولية والإقليمية هناك.
ملاحظات أوّلية حول الاتفاق
قد يبدو أن توقيت الإعلان عن الاتفاق قد جاء مفاجئًا، في ضوء قصر الفترة الزمنية بين تصريحات آبي أحمد في أكتوبر 2023 حول ضرورة إيجاد موطئ قدم لبلاده في البحر الأحمر، والتي انطوت على تحذيرات بإمكانية استخدام القوة في حالة فشل التفاوض مع دول المنطقة[2]. وقد تركز الاهتمام وقتها نحو إريتريا التي رفضت بدورها التهديدات الإثيوبية، ليسهم ذلك في تفاقم التوتر المكتوم بين زعيمي البلدين. ويعزز هذا الطرح إعلان "أرض الصومال" في عام 2022 إلغاء حصة إثيوبيا (19%) التي تضمنها الاتفاق الثلاثي الذي أُبرم في عام 2017 لتطوير ميناء بربرة بين إثيوبيا، و"أرض الصومال"، وشركة موانئ دبي العالمية، بسبب تحديات لوجستية قد واجهت أديس أبابا لتكملة المشروعات التي تربط الميناء بالداخل الإثيوبي[3]، وهو ما يثير الشكوك حول مصدر تمويل هذه الصفقة، لا سيما أن إثيوبيا تعاني من أزمات اقتصادية هيكلية ومالية انتهت بإعلانها عن عدم قدرتها على سداد جزء من الديون المستحقة عليها، ما يعني أنها لا تمتلك القدرة المالية على تكلفة استئجار قاعدة عسكرية وتأسيس البنية التحتية الخاصة بها.
يعني ذلك أن الاتفاق المبرم مؤخرًا يتجاوز طرفيْه ليضم أطرافًا إقليمية وربما دولية أخرى تختفي عن المشهد، لكنها تديره برمته لتحقيق أهداف استراتيجية خاصة بها. ولا يمكن إغفال أيضًا الأطراف التي ستتأثر بتداعيات هذا الاتفاق مثل الصومال ودول القرن الأفريقي التي تنظر إلى الاعتراف الإثيوبي بـ"أرض الصومال" كسابقة قد تعزز عدم الاستقرار الإقليمي في المنطقة خلال السنوات المقبلة.
كذلك، يمثل الاتفاق تحديًّا دبلوماسيًّا في القرن الأفريقي، في ضوء المنافسات الإقليمية والدولية على المنطقة من أجل حماية مصالحها الاستراتيجية هناك، فهناك تنافس تاريخي بين إثيوبيا وبعض القوى الإقليمية الأخرى، مثل مصر، إلى جانب وجود العديد من القوى الفاعلة التي تمتلك استثمارات ضخمة في المنطقة مثل الصين وتركيا كمستثمرين رئيسيين في مجال الموانئ البحرية والبنى التحتية، الأمر الذي يسهم في تعقيد المشهد الإقليمي خلال الفترة المقبلة في ضوء تضارب المصالح الإقليمية والدولية إزاء توقيع الاتفاق الإثيوبي مع "أرض الصومال".
ورغم تحفظ إثيوبيا في عهد ميلس زيناوي على منح "أرض الصومال" الاعتراف الرسمي بها، حتى أن زيناوي كان قد صرح أن أديس أبابا لن تتحرك في هذا الملف إلا بضوء أخضر غربي، بمعنى آخر، عقب الاعتراف الغربي والأمريكي بـ"أرض الصومال"[4]، إلا أن آبي أحمد قد تجاوز ذلك ليبرم الاتفاق الأخير في مقابل الاعتراف الإثيوبي بـ"أرض الصومال"، وربما كان مضطرًا لذلك لدرجة أنه قدَّم تنازلات بحسب التقارير الإثيوبية، كونه قد فشل خلال السنوات الست الأخيرة في إقناع دول المنطقة بالسماح له بتأسيس قاعدة عسكرية إثيوبية ومنفذ بحري للبحر الأحمر عبر أراضيها، في الوقت الذي يجد موسى بيهي عبدي، رئيس إقليم "أرض الصومال"، في هذا الاتفاق فرصة كبيرة لانتزاع اعتراف إثيوبي قد يبني عليه خلال السنوات المقبلة في ملف الاعتراف الدولي بهارجيسا نظرًا لأهمية إثيوبيا الاستراتيجية في القرن الأفريقي والقارة ككل.
وقد يعكس توقيت إبرام هذا الاتفاق مناورة من جانب كل من آبي أحمد وموسى عبدي لاستغلال فرصة انشغال المجتمع الدولي بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في الشرق الأوسط وتبعاتها في المحيط الإقليمي بما في ذلك التوترات المتنامية في إقليم البحر الأحمر من قبل جماعة الحوثي اليمنية إلى جانب الاشتباكات العسكرية الإسرائيلية مع حزب الله في الجنوب اللبناني، وذلك بهدف تمرير اتفاقهما وتعزيز أجندتهما الإقليمية في القرن الأفريقي. ومع ذلك، تظل هذه الخطوة مناورة محفوفة بالمخاطر نظرًا لما قد يترتب عليها من تداعيات سلبية على الصعيد الإقليمي في المنطقة.
إلا أن آبي أحمد ربما لا يفكر في تداعيات خطوته الأخيرة، كون أن الأمر مرتبط بالإدراك الإثيوبي لأهمية البحر الأحمر بالنسبة للدولة الإثيوبية، التي تعتبره يمثل حدودها الطبيعية، وتنظر إليه باعتباره مسألة حياة أو موت وقضية وجود بالنسبة لها، لا سيما أنها تعاني من كونها دولة حبيسة منذ تسعينيات القرن الماضي، وهو ما انعكس سلبًا على اقتصاد إثيوبيا وتجارتها الخارجية، وعلى نفوذها الإقليمي، الأمر الذي دفعها إلى تبني سياسات إقليمية من شأنها تعزيز ارتباطها بالموانئ البحرية في المنطقة، خاصة أن تطوير الممرات التجارية بالنسبة لها هو أمر حاسم لوجودها وازدهارها مستقبلًا.
حسابات الأطراف المعنية
يمكن الإشارة إلى رؤية الأطراف المعنية في المنطقة حول الاتفاق الأخير بين إثيوبيا و"أرض الصومال" على النحو التالي:
1- حسابات إثيوبيا
شكل التحول إلى دولة تمتلك منفذًا بحريًّا دائمًا على البحر الأحمر هاجسًا مستمرًا بالنسبة لإثيوبيا منذ استقلال إريتريا في عام 1993، والذي ارتبط بتصديرها رواية للمجتمع الدولي تتعلق بالمظالم التاريخية الواقعة عليها جراء كونها دولة حبيسة لا تمتلك منفذًا بحريًّا والضرورات الاقتصادية لذلك، واعتبارات الاستقرار الإقليمي في حالة استمرار حرمانها من الحصول على منفذ بحري في البحر الأحمر.
ورغم اعتمادها بشكل أساسي على ميناء جيبوتي خلال السنوات الماضية في تمرير أكثر من 95% من تجارتها الخارجية[5]، إلا أنها ظلت متخوفة من تقلبات الأوضاع في المنطقة، بما تطلب ضرورة توسيع دائرة بدائلها الاستراتيجية من الموانئ البحرية في دول المنطقة، وذلك في الوقت الذي تتزايد فيه مخاوف دول المنطقة من الأطماع التوسعية الإثيوبية في السيطرة على الموانئ البحرية بالمنطقة، بما جعلها تتردد في منح إثيوبيا امتياز تأسيس ميناء بحري وقاعدة عسكرية خلال السنوات الأخيرة، إلى أن أبرمت حكومة آبي أحمد اتفاقًا مثيرًا للجدل مع "أرض الصومال" للحصول على منفذ بحري إثيوبي دائم في البحر الأحمر.
هذا الاتفاق ربما تسهم في تعزيز شعبية آبي أحمد، وتحسين صورته لدى الرأي العام الإثيوبي في إطار سياق داخلي مضطرب أمنيًّا وسياسيًّا. بالإضافة إلى تهدئة الداخل الإثيوبي الذي يتسم بمزيد من التعقيد في ظل استمرارية النزاعات والصراعات العرقية والسياسية لا سيما في إقليم أمهرة. ومن شأن هذا الاتفاق -حال تنفيذه- أن يسهم في تقليل اعتماد إثيوبيا على ميناء جيبوتي، وما يعنيه من تخفيف الأعباء الاقتصادية بما في ذلك أعباء الرسوم التي وصلت إلى ملياري دولار سنويًّا والتي شكلت عبئًا على ميزانية الدولة الإثيوبية التي تبلغ حوالي 14.7 مليار دولار، وتحدّ من نمو حجم التجارة الدولية لإثيوبيا. كما تشير تقارير إلى خسارة إثيوبيا نحو 150 مليون دولار شهريًّا بسبب حرمانها من منفذ بحري على البحر الأحمر[6].
في الوقت الذي تشير فيه دراسة للأمم المتحدة بأن حصول إثيوبيا على منفذ بحري يعني زيادة بنحو 25%-30% للناتج المحلي الإجمالي للبلاد،[7] لا سيما مع تزايد عدد السكان في البلاد ليتجاوز 120 مليون نسمة، وسط توقعات بأن يصل إلى 150 مليون نسمة بحلول عام 2039، و200 مليون بحلول عام 2050[8]، وما يشكله ذلك من ضغوط اقتصادية هائلة على كاهل الدولة الإثيوبية، ما يضاعف رغبتها في ضمانات لوصولها إلى المياه الدافئة وتنويع بدائلها في الموانئ البحرية الإقليمية بالمنطقة.
وتدرك إثيوبيا أن حصولها على منفذ بحري من شأنه استعادة نفوذها في البحر الأحمر، ويفتح المجال لها للانخراط بقوة في المعادلة الإقليمية الأمنية هناك، بما يعني إعادة تشكيل العلاقات الإقليمية في القرن الأفريقي. وهو ما يعزز الدور الإثيوبي الإقليمي خلال الفترة المقبلة. لا سيما أن إثيوبيا تروج بأن الاستخدام المشترك للبحر الأحمر من شأنه تعزيز السلام والوحدة الإقليمية، كما أن استخدامها لموانئ المنطقة يسهم في الدفع نحو التكامل الاقتصادي الإقليمي في المنطقة، وذلك رغم أن واقع السلوك الإثيوبي في المنطقة لا يدعم هذه الرواية الإثيوبية.
2- حسابات "أرض الصومال"
تبحث حكومة إقليم "أرض الصومال" منذ سنوات عن مقايضة استراتيجية بمنح امتيازات على ساحل البحر الأحمر تشمل إقامة قاعدة عسكرية على أراضيها، في مقابل نيل الاعتراف الدولي بها، لتحفز المجتمع الدولي تجاه قضيتها الممتدة منذ استقلالها من جانب واحد في عام 1991 عقب سقوط نظام سياد بري في الصومال[9]. وقد استغلت في هذا الإطار حاجة إثيوبيا لمنفذ بحري، في خطوة تعتبرها هارجيسا هي الأخرى بمثابة نجاح دبلوماسي لها على الصعيد الإقليمي، ربما تشكل دافعًا للمضي قدمًا نحو إقناع أطراف إقليمية ودولية أخرى بتبني نفس الموقف الإثيوبي تجاهها خلال الفترة المقبلة.
وتنظر "أرض الصومال" للاتفاق باعتباره يضمن الحماية للإقليم من أي تهديدات إقليمية قد يتعرض لها، لا سيما من جانب الحكومة الصومالية المركزية، كما يمكن لهارجيسا تقديم نفسها كقوة استقرار إقليمي في المنطقة من خلال إطلاق إمكانياتها وإعادة تحديد دورها هناك، وذلك بدعم ومساندة إثيوبية. كما أن الاتفاق يحمل فوائد اقتصادية محتملة بما في ذلك حصة محتملة في الخطوط الجوية الإثيوبية، والاستثمار في البنية التحتية وتطوير الطرق والموانئ البحرية، إضافة إلى تعزيز صناعة السياحة في "أرض الصومال" اعتمادًا على الخطوط الجوية الإثيوبية.
3- حسابات دولة الصومال
تتمسك الصومال بوحدة أراضيها بما في ذلك إقليم "أرض الصومال" الذي أعلن انفصاله عن البلاد من طرف واحد في عام 1991. ويظل مبدأ الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة الصومالية أولوية لجميع الحكومات المتعاقبة في البلاد، لا سيما الرئيس الحالي للصومال حسن شيخ محمود الذي تعهد عقب وصوله للسلطة في مايو 2022 بالحفاظ على وحدة الأراضي الصومالية، والتفاوض مع "أرض الصومال" للانخراط مجددًا في النظام الفيدرالي الصومالي[10]. وبرغم الانفراجة في العلاقة بين مقديشو وهارجيسا بعدما تم الاتفاق قبل أيام بوساطة جيبوتية على استئناف المفاوضات بين الطرفين لتسوية الخلافات بينهما والتي توقفت في عام 2020، إلا أن توقيع الاتفاق الأخير بين إثيوبيا و"أرض الصومال" قد يعرقل إقامة هذا الحوار، في ظل الموقف الصومالي المتشدد ضد طرفي الاتفاق.
في هذا السياق، تبنت مقديشو موقفًا صارمًا ضد الاتفاق واعتبرته عملًا عدوانيًّا، وانتهاكًا صارخًا للسيادة الوطنية الصومالية باستيلاء إثيوبيا على جزء من مياه الصومال. وأكدت على تمسكها بأراضيها، ودعت إلى حشد الشعب الصومالي للدفاع عن وحدة البلاد والسيادة الوطنية.
ويشير موقف مقديشو إلى تحول العلاقات مع أديس أبابا لتدخل مرحلة جديدة من التوتر والاضطراب بعد سنوات من الاستقرار خلال فترتي الرئيس السابق فرماجو ومنذ تولي الرئيس حسن شيخ محمود السلطة في البلاد، والذي اتهم أديس أبابا بالتورط في تعزيز الأفكار المتطرفة مثلما كان تدخل ميلس زيناوي، رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق، عسكريًّا في الصومال، الذي أنتج حركة الشباب المجاهدين. وذلك في إشارة إلى تورط إثيوبيا في زعزعة استقرار الصومال منذ سنوات، ما ينذر بتصعيد صومالي ربما يتطور إلى قطيعة مع الحكومة الإثيوبية خلال الفترة المقبلة.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها تشير إلى التوافق بين الحكومة الفيدرالية الصومالية وحركة الشباب المجاهدين، فقد تبنت الحركة نفس الموقف الحكومي المتشدد برفض الاتفاق الأخير بين أديس أبابا وهارجيسا، حيث أشارت الحركة إلى بطلان الاتفاق، واعتبرته بمثابة عملية نهب وسرقة لثروات الصومال، وأنها لن تقبل باستيلاء إثيوبيا على جزء من الأراضي الصومالية، كما أنها دعت الشعب الصومالي لحمل السلاح لمحاربة الإثيوبيين للدفاع عن بلادهم[11]. وربما تُصعّد الحركة هجماتها الانتقامية في العمق الإثيوبي والتمدد نحو الداخل في "أرض الصومال" مستقبلًا.
مستقبل ضبابي وغامض
يضفي الاتفاق المبرم بين إثيوبيا و"أرض الصومال" المزيد من التعقيد على سياق التفاعلات الإقليمية في المشهد الإقليمي بالقرن الأفريقي، وسط حالة من الضبابية حول تداعيات تلك الخطوة على جميع الأطراف في المنطقة وخارجها. ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك التداعيات المحتملة على النحو التالي:
1- إثيوبيا
يضمن الاتفاق -في حالة تنفيذه- لحكومة آبي أحمد وصول إثيوبيا لساحل البحر الأحمر، بما يعنيه من انخراط إثيوبي في ديناميكيات التفاعلات الإقليمية في البحر الأحمر، وانعكاسات ذلك على تنامي الدور الإثيوبي الإقليمي في القرن الأفريقي. كما يتوقع أن يسهم ذلك في حدوث نقلة اقتصادية لإثيوبيا قد تنقذ حالة الاقتصاد الوطني المتردي خلال السنوات الأخيرة.
لكن هذا لا ينفي أن الاتفاق قد يرتب بعض التحديات على الصعيد الإقليمي؛ فمن المرجح أن تواجه أديس أبابا موجة من التوترات الإقليمية، سواء على صعيد علاقتها مع الحكومة الصومالية، وبعض دول المنطقة لا سيما جيبوتي التي تعتمد بشكل أساسي على التجارة الإثيوبية عبر مينائها، إضافة إلى أنها تنظر لميناء بربرة باعتباره منافسًا استراتيجيًّا لها، وربما يتطور الأمر إلى شبه عزلة إقليمية لنظام آبي أحمد في المنطقة، خاصة في ضوء المخاوف من زعزعة استقرار المنطقة بتشجيع بعض القوميات والحركات الانفصالية لمحاكاة نموذج "أرض الصومال".
وفي السياق نفسه، ربما تتعرض العلاقات الإثيوبية لمرحلة فتور مع بعض القوى الدولية الفاعلة في القرن الأفريقي مثل الصين التي تشهد علاقاتها مع "أرض الصومال" توترًا بسبب اعترافها بتايوان، في الوقت الذي ترتكز فيه السياسة الصينية بأفريقيا على حشد التأييد الأفريقي لمبدأ "صين واحدة". وربما تتعرض إثيوبيا لبعض الضغوط الدولية من أجل سحب الاعتراف الإثيوبي بـ"أرض الصومال"، في ظل المخاوف من بروز حركات انفصالية جديدة قد تسهم في بلقنة القرن الأفريقي. إلا أن إثيوبيا قد تراهن على لعبة المواءمات مع تلك القوى من أجل تخفيف هذه الضغوط الدولية عليها خلال الفترة المقبلة.
2- "أرض الصومال"
يعد المكسب الرئيسي لـ"أرض الصومال" في هذا الاتفاق هو انتزاعها اعترافًا إثيوبيًّا بها كدولة مستقلة، وهو أمر كان بعيد المنال، نظرًا لأن السلوك الإثيوبي على مدار العقود الثلاثة الماضية كان واضحًا في مسألة عدم الاعتراف بـ"أرض الصومال"، وبرغم ذلك، لا يمانع في إقامة علاقات متطورة مع الإقليم. وهو ما يمثل تحولًا جوهريًّا في مسار قضية "أرض الصومال" التي تسعى للاعتراف الدولي بها، وهي خطوة قد يتم البناء عليها خلال السنوات المقبلة لاستقطاب العديد من الدول الأخرى في القارة وخارجها لتكرار نفس الخطوة الإثيوبية.
ومع ذلك، يخلق هذا الاتفاق مخاطر محتملة لـ"أرض الصومال"، سواء على الصعيد الداخلي في ضوء استياء جماعات المعارضة الرافضة لهذا الاتفاق باعتباره انتقاصًا للسيادة الوطنية لـ"أرض الصومال"، وقد يسهم في فقدان السيطرة على ميناء بربرة مستقبلًا، بما يعني خسارة الأصول الاستراتيجية للإقليم، ما قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات السياسية الداخلية. وربما تتعرض "أرض الصومال" لهجمات إرهابية من حركة الشباب المجاهدين التي اتهمت قادة الإقليم بالتواطؤ مع إثيوبيا، الأمر الذي قد يزيد من تعقيد الاستقرار الإقليمي في القرن الأفريقي.
أما على الصعيد الإقليمي، فقد يدفع هذا الاتفاق نحو استعداء الصومال الذي سيحاول تعطيل هذا الاتفاق وإجبار إثيوبيا على سحب اعترافها بـ"أرض الصومال"، التي قد توقع عددا من اتفاقيات الدفاع مع بعض الأطراف الإقليمية بما في ذلك إثيوبيا لضمان حمايتها من أي عدوان محتمل في المستقبل وبخاصة من جانب الحكومة الفيدرالية الصومالية.
وربما تواجه "أرض الصومال" المزيد من التحفظات الدولية على الخطوة الأخيرة، بسبب تخوف الغرب من تحول القرن الأفريقي إلى يوغسلافيا جديدة، بما يعزز حالة عدم الاستقرار في المنطقة المثقلة بالتوترات والاضطرابات والأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والإنسانية.
3- الصومال
من المرجح أن تبدأ الحكومة الصومالية حربًا دبلوماسية ضد إثيوبيا، تتحصن فيها بحشد إقليمي واسع من أجل الضغط عليها للتراجع عن الاتفاق الأخير واعترافها بـ"أرض الصومال"، لا سيما بعدما أعلنت كل من كينيا وجيبوتي عن تحفظاتهما بشأن شرعية الاتفاق وأعربتا عن قلقهما من تقويض سيادة دولة الصومال. وقد يتبنى الرئيس حسن شيخ محمود سياسة اللعب على المتناقضات الإقليمية بالتقارب مع بعض الأطراف الإقليمية التي تعتبرها أديس أبابا مناوئة لها في القرن الأفريقي، في رسالة لإدارة آبي أحمد أن استمراره في الاتفاق من شأنه خسارة الصومال وتحولها من شريك إقليمي مهم إلى عامل رئيسي في زعزعة الاستقرار بالداخل الإثيوبي والمنطقة.
وقد تُصعّد مقديشو موقفها وصولًا إلى قطيعة دبلوماسية مع أديس أبابا، خاصة بعدما استدعت سفيرها لدى أديس أبابا مؤخرًا للتشاور، مع استبعاد خيار الحرب لصعوبته بالنسبة للصومال التي تشن حملة عسكرية شاملة ضد حركة الشباب في الداخل منذ أغسطس 2022. وربما يصاحب ذلك مطالبة الحكومة الصومالية بمغادرة القوات الإثيوبية المنخرطة في بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومال (أتميص)، وكذلك القوات الأخرى غير المنخرطة في البعثة الأفريقية والمنتشرة في أجزاء من البلاد. وإن كان ذلك قد يشكل عبئًا أمنيًّا على القوات الصومالية داخل الصومال.
4- منطقة القرن الأفريقي
لدى دول القرن الأفريقي تخوف من تكرار نموذج "أرض الصومال" في المنطقة، وصعود النزعات الانفصالية التي ربما تدفع نحو المزيد من التفتيت، وتفاقم التدهور الأمني الإقليمي هناك، على غرار ما شهدته التجربتان السابقتان في المنطقة، وهما إريتريا التي استقلت عن إثيوبيا في عام 1993 وأسهمت ممارسات نظام الرئيس أفورقي في زعزعة الاستقرار الإقليمي هناك، وجنوب السودان التي استقلت عن السودان في عام 2011، وانخرطت في حرب أهلية منذ ديسمبر 2013، لا تزال تداعياته مستمرة حتى الآن. وهو ما يجعل دول المنطقة تتحفظ على منح الاعتراف الدولي لـ"أرض الصومال"، بما يسهم في تفكيك وحدة وتماسك الدولة الصومالية، وما قد ينعكس سلبًا على المنطقة ككل جراء هذه الخطوة.
إجمالًا، يمثل الاتفاق الإثيوبي مع "أرض الصومال" جزء من مجموعة من الصفقات التي يحاول أن يبرمها آبي أحمد، من أجل توسيع شبكة الموانئ التي يستهدف تدشينها بهدف ضمان وجود أكثر من بديل استراتيجي، لكي يعزز اتصاله بالعالم الخارجي عبر البحر الأحمر. ومن المرجح أن يواجه آبي أحمد سياقًا إقليميًّا متوترًا فيما يتعلق بعلاقاته مع بعض دول المنطقة مثل الصومال وجيبوتي، بما قد يعزز عزلته الإقليمية، ما لم يستعن ببعض الأطراف الإقليمية لتسكين تلك الخلافات مستقبلًا. ومن المتوقع أن يرتب الاتفاق آثارها سلبية على الأمن الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي.
[1]. Mohamed Muse, OP-ED: Abiy’s Actions in Somalia and the Specter of Foreign Influence, Shabelle Media Network, 3 January 2024, accessible at: http://tinyurl.com/yc2y9r72
[2]. The National, Somaliland and Ethiopia port agreement sparks warning from Somali government, 2 January 2024, accessible at: http://tinyurl.com/844dvuvx
[3]. Abdi Latif Dahir, Why a Port Deal Has the Horn of Africa on Edge?, The New York Times, 2 January 2024, accessible at: http://tinyurl.com/2ej8udhu
[4]. Harun Maruf, Ethiopia 'Secures' Access to Sea After Deal with Somaliland, Voice of America, 1 January 2024, accessible at: http://tinyurl.com/3njmepjz
[5]. Jerry Chifamba, Ethiopia: Somalia Rejects Ethiopia-Somaliland Deal as 'Aggression', All Africa, 3 January 2024, accessible at: http://tinyurl.com/2t4mnuzf
[7]. Suleiman Walhad, The Horn Of Africa States: A Historic Opportunity For Zeila And Harar – OpEd, Eurasia Review, 9 November 2023, accessible at: http://tinyurl.com/572ysr4n
[9]. Somtribune, Can Leasing Zeila Port to Ethiopia Be A Case of Unlocking Somaliland’s Investment Potential?, 24 October 2023, accessible at: http://tinyurl.com/yx6by8z2