قد تنظر بعض الأطراف الفاعلة، سواء داخل السودان أو خارجه، إلى إعلان أديس أبابا، الموقع في 2 يناير 2024 بين "تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية"(تقدم) بزعامة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، وقوات الدعم السريع بزعامة محمد حمدان دقلو، بحسبانها خطوة مهمة نحو إنهاء الصراع في السودان وإرساء مسار التحول الديمقراطي. ومع ذلك، فإن تصريحات مالك عقار- نائب رئيس مجلس السيادة- تؤكد أن الجيش، وهو الطرف الآخر في الصراع العنيف الذي يشهده السودان منذ أكثر من ثمانية أشهر، قد تم تهميشه أو تحجيم دوره. وقد دفع ذلك مالك عقار إلى اتهام "تقدم" بأنها تمثل حاضنة مدنية لقوات الدعم السريع، أي أنها شريك لها، وليست وسيطاً.
ويحاول هذا المقال تحليل إعلان أديس أبابا، والسياقات التي ارتبطت بلقاء كل من حمدوك وحمديتي، والرحلات المكوكية لكل منهما في عدد من دول الجوار، وتحدد الديباجة الخاصة بالإعلان السياق من خلال الاعتراف بفشل المحاولات السابقة لعكس مسار ثورة ديسمبر والأثر المدمر لحرب 15 أبريل على الشعب السوداني. ويؤكد الإعلان على ضرورة وجود "مشروع نهضة وطني" لتوحيد الأمة ومواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
نقاط خمس أساسية
يتضمن إعلان أديس أبابا خمسة نقاط أساسية، نناقشها فيما يلي:
1- وقف الحرب ومعالجة المخاوف الإنسانية
تعترف ديباجة الإعلان بالتكلفة البشرية للصراع، وتعترف بالانتهاكات الجسيمة المرتكبة ضد المدنيين. كما عبرت قوات الدعم السريع عن استعدادها بوقف الأعمال العدائية، وإطلاق سراح أسرى الحرب، وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، بما يؤكد تفهم الحاجة الفورية إلى تخفيف معاناة الشعب السوداني. والأهم من ذلك، هو الاتفاق على أن إنشاء ممرات آمنة للمساعدات وتشكيل إدارات مدنية في المناطق المتضررة من الحرب يظهر التزاماً ليس فقط بإنهاء الأعمال العدائية، ولكن أيضاً بإعادة بناء المجتمعات وتسهيل عودة المواطنين النازحين. وقد وافقت قوات الدعم السريع بناءً على طلب من "تقدم"، و كبادرة حسن نية، على إطلاق سراح عدد 451 من أسرى الحرب والمحتجزين وذلك عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وربما كان من الأجدى الاتفاق على ذلك مع وفد القوات المسلحة السودانية عبر منبر جدة أو منبر الإيغاد (الهيئة الحكومية للتنمية).
2- إعادة بناء الدولة السودانية
تركز المبادئ الأساسية للإعلان على إعادة بناء الدولة السودانية على أساس الوحدة، والمواطنة المتساوية، والحكم الديمقراطي. كما ينص الإعلان على أن الالتزام بحكومة اتحادية ومدنية وديمقراطية منتخبة من خلال انتخابات حرة ونزيهة يشير إلى الابتعاد عن ما وصفة بـ"الأنظمة الاستبدادية السابقة". وحسب الإعلان فإن التركيز على البرامج الشاملة لإعادة بناء قطاع الأمن، بما في ذلك تشكيل جيش وطني محترف واحد تحت سلطة مدنية، يعالج جانباً حاسماً من عملية بناء الدولة. ومن خلال تفكيك بقايا نظام 30 يونيو، يعترف الإعلان بالحاجة إلى الانفصال التام عن هياكل الحكم القمعية السابقة.
3- العدالة الانتقالية والمساءلة
يُعد إدراج عملية عدالة انتقالية شاملة جانباً جديراً بالملاحظة في إعلان أديس أبابا. وتهدف هذه العملية إلى الكشف عن الجرائم، وتقديم التعويضات، ومحاسبة الجناة، مما يشير إلى الالتزام بإنهاء الإفلات من العقاب. ويذهب الإعلان أبعد من ذلك إلى تناول أهمية مكافحة خطاب الكراهية، والمساهمة في التعافي الوطني، وتعزيز بيئة المصالحة. إن التركيز على كشف الحقيقة من خلال بعثة تقصي الحقائق التابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وإنشاء لجان لرصد الانتهاكات، والتحقيق في أصول الحرب، يضيف جوانب مهمة من المساءلة والشفافية. ومن المثير للاستغراب أن العديد من الجهات الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة، قد اتهمت قوات الدعم السريع بارتكاب انتهاكات فظيعة بحق المدنيين. وبالفعل تم فرض عقوبات أمريكية على الرجل الثاني في قيادة الدعم عبدالرحيم دقلو.
4- آليات التنفيذ
إحدى السمات المميزة لإعلان أديس أبابا تكمن في تأكيده على آليات التنفيذ. واعترافاً بأن الالتزامات المكتوبة على الورق يجب أن تترجم إلى إجراءات ملموسة، يحدد الإعلان أربعة لجان محددة، هي: 1-اللجنة الوطنية لحماية المدنيين، وتتولى مهام متابعة عودة وضمان عودة المواطنين لمنازلهم، وتأمين تشغيل الأسواق والمستشفيات والمرافق الخدمية، وتحديد مسارات عبور المساعدات الإنسانية وضمان وصولها. 2- اللجنة المشتركة للوصول لوقف وإنهاء الحرب وبناء السلام المستدام ومتابعة تنفيذ ما اتفق عليه في هذا الإعلان. 3- اللجنة الوطنية الدولية للتحقيق حول من الذي أشعل الحرب. 4- اللجنة الوطنية المستقلة لرصد كافة الانتهاكات في جميع أنحاء السودان وتحديد المسئولين عن ارتكابها، وذلك بما يضمن محاسبتهم. ومن الواضح أن تلك مبادئ عامة تفتقد إلى الرؤية والوضوح ولاسيما فيما يتعلق بالتشكيل والتوجيه والتمويل.
5- إشراك المدنيين
يركز الإعلان بشكل كبير على القيادة المدنية في العملية السياسية. ومن خلال استبعاد حزب المؤتمر الوطني/الحركة الإسلامية وإشراك المدنيين في الاجتماعات الدبلوماسية الحاسمة، مثل اجتماع جيبوتي الذي نظمته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية بين قادة قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، يهدف الإعلان إلى ضمان مشاركة الشعب السوداني بنشاط في تشكيل مستقبل بلاده.
السياقات والدلالات
على الرغم من أن إعلان أديس أبابا قد يعتبره البعض خارطة طريق شاملة لا تعالج المخاوف الإنسانية المباشرة وتحدد مبادئ إعادة بناء الدولة السودانية فحسب، بل تؤكد أيضاً على المساءلة والعدالة والمشاركة النشطة للمدنيين، فإنه يطرح أيضاً العديد من التساؤلات والمخاوف. ذلك أن الوضع في السودان بالغ التعقيد والتشابك، حيث يوجد به أكبر عدد من النازحين والمشردين على مستوى العالم. كما يحتاج أكثر من نصف عدد السكان- أي نحو 24,7 مليون نسمة- إلى مساعدات إنسانية. كما يعاني نحو 3 مليون طفل من سوء التغذية. ومن بين 7 مليون أُجبروا على مغادرة منازلهم تمكن نحو 1.5 مليون من الفرار إلى دول الجوار. وفي ظل توجه الأنظار إلى الحرب في كل من أوكرانيا وغزة باتت السودان وكأنها حرب منسية. ولفهم دلالة وسياقات لقاء حميدتي وحمدوك وقيمة إعلان أديس أبابا نطرح عدداً من التساؤلات العامة على النحو التالي:
1- هل "تقدم" هي الوجه الآخر لـ"قحت" (قوى إعلان الحرية والتغيير)؟
ثمة اعتقاد راسخ لدى المتابعين للشأن السوداني بأن "تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية" (تقدم) تمثل القيادات الفوقية التي تمتلك علاقات وارتباطات دولية، ولاسيما رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك. ومن ثم، نجد أن المكونات الرئيسية للتنسيقية تتمثل في قوى الحرية والتغيير (قحت)، والشخصيات والكوادر الوطنية المرتبطة بحمدوك، والجماعات العسكرية، وبعض ممثلي المجتمع المدني. ولا شك أن عقد الاجتماع التحضيري للتنسيقية في أديس أبابا في أكتوبر 2022 يطرح أكثر من علامة استفهام حول إمكانية ارتباط منصة "تقدم" بمصالح قوى إقليمية ودولية معينة. وعلى الرغم من أهلية رئيس الوزراء السابق وعلاقاته الدولية وحجم التأييد الشعبي الذي تمتع به خلال توليه رئاسة الحكومة في الفترة الانتقالية، إلا أن مواقفه التي حاد عنها سابقاً من خلال السياسات المهادنة للمكون العسكري تحتاج إلى قدر من النقد الذاتي أمام الجماهير السودانية.
2- لماذا ظهر حميدتي بعد معركة الجزيرة؟
من الواضح أن زعيم قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو لا يبحث عن السلام في حقيقة الأمر، وإنما يقدم نفسه لدول الإيغاد تحديداً، وللمجتمع الدولي بشكل عام، باعتباره "رجل دولة". وقد ظهر ذلك واضحاً من خلال استقباله بحفاوة بالغة في كل من أوغندة واثيوبيا وجيبوتي وكينيا. لقد كان سقوط "ودمدني"، عاصمة ولاية الجزيرة، أمراً محورياً في الاستراتيجية العسكرية للدعم السريع. ربما يكون الهدف هو التوجه نحو ولاية سنار بمحاذاة الحدود الإثيوبية، وفي هذه الحالة تستطيع قوات الدعم السريع فتح خطوط إمداد قريبة من الجبهة الإثيوبية بدلاً من الاعتماد على قواعدها الخلفية في غرب السودان. وفي هذه الحالة ستبدو إريتريا أكثر توجساً من اقتراب القتال نحو حدودها، وهي أكثر ميلاً لدعم الجيش السوداني بسبب عدم ثقتها في حلفاء حميدتي الإقليميين، ولاسيما إثيوبيا بسبب القتال في إقليم أمهرة. ومن ثم، فإن التدخل الإريتري قد يؤدي إلى عسكرة شرق السودان.
3- الإيغاد ومنبر جدة وتحدي الأفروعربية؟
من الواضح تماماً أنه منذ اندلاع الحرب في غزة خفت صوت منبر جدة التفاوضي، وهو ما أدى إلى حراك جديد في منبر الايغاد، حيث تمت دعوة كل من البرهان وحميدتي لعقد لقاء مباشر في جيبوتي. وعلى الرغم من موافقة الطرفين، إلا أن زعيم الدعم السريع اعتذر لأسباب لوجستية، وهو ما أدى إلى تأجيل اللقاء. ومن المثير للتساؤل أن الجنرال حميدتي قام في نفس الوقت بجولة مكوكية في دول الإيغاد. ويبدو أن منبر الإيغاد لا يهتم بالتنسيق والإعداد المسبق استناداً إلى مفاهيم دبلوماسية الطريق الثالث. وربما يكون من المفيد الإشارة إلى التوتر الحاصل اليوم في منطقة القرن الأفريقي بين الصومال وإثيوبيا في أعقاب منح صوماليلاند الحكومة الإثيوبية منفذاً وقاعدة بحرية، وهو ما يخل بمعادلة القوى في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر ويطرح مرة أخرى مسألة الأفروعربية في المنطقة.
4- البحث عن وسيط والمآلات
من الواضح أن منبر الإيغاد قد لا يستطيع إحداث تحول فارق دون مساعدة أطراف دولية فاعلة مثل مصر والولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي. ومن جهة أخرى، ثمة مشكلات تتعلق بحيادية وكفاءة اللجنة الرباعية المؤلفة من كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان والصومال والتي تهدف إلى التعاون مع الاتحاد الأفريقي للمساعدة في تحقيق السلام في السودان؛ إذ يشعر السودان أنه ينبغي توجيه اللوم إلى قوات الدعم السريع بقيادة محمد دقلو "حميدتي" لمحاولة "الانقلاب" والسيطرة على السلطة في الخرطوم بطريقة غير دستورية. كما تكمن مشكلة السودان مع الرئاسة الكينية في حقيقة أنها، ومن خلال ارتباطات الرئيس وليم روتو، تبدو أكثر انحيازاً لقوات الدعم السريع. ولا يخفى أن تجدد القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في الخرطوم وأم درمان والجزيرة يؤكد هيمنة عقلية المباراة الصفرية لدى الطرفين؛ فكل منهما يريد أن يفوز بالضربة القاضية على الآخر. كما أن الجنرال دقلو قد حصل من دول الجوار أكثر مما أعطى. بل إنه في الواقع لم يُعطْ شيئاً مذكوراً. فقد ظهر بوعوده المرتبطة بالاستعداد لوقف القتال في حين أن قواته المتفلتة بطبيعتها غير النظامية تحتل منازل المواطنين وتنتهك حرماتهم وتستبيح ممتلكاتهم.
وفي ظل سيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة الشهر الماضي (ديسمبر ٢٠٢٣)، تحول التركيز في ولاية النيل الأبيض والولايات المجاورة نحو تعزيز الدفاعات المحلية، بدلاً من تعبئة القوات لإرسالها إلى منطقة العاصمة المثلثة. وعلى الرغم من أن غزو ولاية النيل الأبيض أو المدن المجاورة ليس بالضرورة وشيكاً، فإن عدم قدرة الجيش الظاهرة على شن عمليات هجومية يعني أن الدفاع هو الموقف المفضل. وتسيطر قوات الدعم السريع بالفعل على بعض القرى الشمالية بالولاية على ضفتي النهر. ومن الجدير بالذكر أن المدن الرئيسية في الولاية، مثل كوستي، لم يصلها القتال حتى الآن، لكنها تؤوي العديد من النازحين من أماكن أخرى في السودان وجنوب السودان. ولعل تسليح المدنيين والاعتماد على قوى المقاومة الشعبية يزيد من احتمالات انزلاق السودان إلى متاهة الحرب الأهلية.
ختامًا، فإن لقاء حمدوك وحميدتي مثل محاولة لإضفاءالشرعية على قوات الدعم السريع وقيادتها التي حاولت التدثر برداء "القوى المحبة للسلام" في حين أنها في الواقع تتمدد وتسيطر على مزيد من المناطق. ومن ثم، بدون خروج قوات الدعم السريع من المدن والمناطق الحضرية، وتمركز قوات الجيش في ثكناتها وتسليم قوات الشرطة والأمن مهام حماية المؤسسات والمنشآت ذات الأهمية الاستراتيجية، يصبح الحديث عن اجتماعات ولقاءات مجرد علاقات عامة لا تقدم ولا تؤخر. ومن جانب آخر، لا بد من وجود وساطة دولية وإقليمية فاعلة وضاغطة تستطيع أن تؤثر على طرفي الصراع وتدفعهما للجلوس على مائدة التفاوض. ولعل البديل – كما ذكرنا في هذا الموضع – هو تكرار السيناريو الليبي أو مواجهة شبح الحرب الأهلية التي تجسد حالة حرب الكل ضد الكل كما وصفها توماس هوبز.