د. أميرة محمد عبد الحليم

خبيرة الشئون الأفريقية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

حمل الظهور الأخير لإياد أغ غالي قائد تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين (أحد فروع تنظيم القاعدة فى الساحل) فى شريط مصور بعد سبع سنوات من الاختفاء الكثير من الدلالات التى تصف طبيعة المرحلة التى تعيشها منطقة الساحل والصحراء، بعد أن تحولت إلى مركز للتنظيمات الإرهابية، وبعد تصاعد حدة المنافسة بين التنظيمات المنتمية للقاعدة وتنظيم داعش لتعزيز السيطرة المكانية وتنفيذ الأهداف.      

فعلى الرغم من أن غالبية التنظيمات الإرهابية الرئيسية فى أفريقيا ظلت لسنوات تؤكد على انتمائها إلى تنظيم القاعدة ورفضها التحول إلى مبايعة ما يعرف بتنظيم داعش، بل وحاربت المنشقين عنها والذين سارعوا بمبايعة قيادة داعش، إلا أن السنوات العشر الأخيرة شهدت تزايداً كبيراً فى التنظيمات الإرهابية التابعة لداعش فى أفريقيا، وخاصة فى ظل اهتمام قيادة داعش المركزية منذ عام 2013 بالتمدد فى القارة، حيث لم تكن الأخيرة خياراً بديلاً لداعش بل أصبحت هدفاً موضوعياً للتنظيم يعود تاريخه قبل خسارة أراضيه فى بلاد الشام.     

إلا أن نمو ظاهرة الإرهاب فى القارة الأفريقية لم تتوقف عند تزايد فروع تنظيمى القاعدة وداعش بين ربوع القارة بل انخرط عدد من هذه  الفروع فى صراع للسيطرة المكانية مما أشاع مزيداً من الفوضى فى مناطق مختلفة فى القارة الأفريقية وكان لمنطقة الساحل والصحراء نصيب معتبر من هذا الصراع، وزادت الأزمات التى تتعرض لها هذه المساحة الجغرافية من القارة وخاصة فى أبعادها الأمنية والسياسية والإنسانية، بالتوازي مع سلسلة الانقلابات العسكرية التى شهدتها ثلاثة دول مركزية، وخروج القوات الدولية التي كانت تشارك في مهمة مكافحة الإرهاب من المنطقة، على نحو وفر فرصاً للتنظيمات الإرهابية من أجل السيطرة على أجزاء من دول المنطقة وتدعيم حضورها وجهودها لهزيمة التنظيمات المناوئة لها وتحقيق أهدافها.

 وعبّر الحديث الذى أدلى به إياد أغ غالى مؤخراً، والذى نشرته مؤسسة "الزلاقة"- الذراع الإعلامية لتنظيم القاعدة- عن تطور المشهد الإرهابى فى منطقة الساحل وخاصة خلال الأشهر الأخيرة، حيث جاء ظهوره بعد خروج القوات الفرنسية التى كانت تعتبر أحد أهدافها القضاء عليه، مع استبدال دول الساحل وتحديداً مالى والنيجر وبوكينافاسو، فرنسا بحليف آخر تمثل فى قوات فاجنر الروسية، وقيام الدول الثلاثة بتوقيع اتفاقية للدفاع المشترك وتكوين حلف عسكرى لمحاربة الإرهاب فى سبتمبر 2023، هذا فضلاً عن تمكن الجيش المالى (ووفق بعض المصادر) وبمساعدة جيوش الدولتين الأخيرتين من استعادة السيطرة على مدينة كيدال معقل الطوارق فى شمال مالى.  

وقد أثار هذا الحديث إلى جانب الصراع المتصاعد بين التنظيمات الإرهابية فى الساحل العديد من التساؤلات حول أهداف هذه التنظيمات فى المرحلة الراهنة، فهل تتطلع إلى الوصول إلى السلطة على غرار ما تمكنت من تحقيقه حركة طالبان فى أفغانستان فى أغسطس 2021؟، وهل تمتلك بعض هذه التنظيمات برامج سياسية للحكم؟، أم أن هذه التنظيمات تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى تنظيمات "مقاتلة" أو ما يشبه المرتزقة، تدخل فى معارك لتنتصر على الأعداء سواء كانوا جيوشاً وقوات أمن وطنية أو تنظيمات تتصارع معها للسيطرة على أراضى أو ثروات، دون أن يكون لها أهداف حقيقية لتغير مجتمعاتها أو الوصول إلى السلطة لتطبيق مفهومها للحكم الإسلامى.     

فهل ستنجح إحداها فى القفز على السلطة؟، أم أن استمرار الصراع بين التنظيمات الإرهابية سيؤدى إلى إضعاف الكثير منها والقضاء عليها؟، مع احتمالات اتجاه بعض التنظيمات لتكوين تحالفات مع نظيرتها لتدعيم قدراتها.

واقع الإرهاب فى الساحل حتى منتصف عام 2023

فى صيف عام 2022، خص تنظيم داعش مرة أخرى، في صحيفته الإخبارية "النبأ"، أفريقيا باعتبارها المنطقة التي من المرجح أن ينجح فيها في إعادة تأسيس "الخلافة الإقليمية". وفي افتتاحية نشرتها النشرة الإخبارية الإرهابية الأسبوعية باللغة العربية في يونيو 2022، نصح تنظيم داعش أتباعه الذين لم يهاجروا إلى العراق أو سوريا أو أي مكان آخر في الماضي بالسعي إلى "إعادة التوطين" مع "إخوانهم" بأرض أفريقية، التى تحولت إلى موطن للهجرة والجهاد. وبذلك يكون تنظيم داعش قد أكد أن أفريقيا أصبحت الآن مركزاً لـ"الخلافة".

كما أشادت افتتاحية هذه الصحيفة الإرهابية في أوائل مايو 2023 بـ"الجهاد الإسلامي اليوم في موزمبيق". وعلى وجه الخصوص، فقد أوضحت نقطة مفادها أن الحكام غير المسلمين و"الحكام المرتدين" أصبحوا الآن يدركون أخيراً أنهم في "عصر جديد كانوا يخشونه، ولكن الآن حان الوقت". وكان هذا الحديث، في المقام الأول، عن الحكام الأفارقة[1].

وأكد مؤشر الإرهاب العالمى الذى يصدر عن معهد الاقتصاد والسلام لعام 2023، على أن منطقة الساحل في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى باتت الآن مركزاً للإرهاب، حيث سجلت منطقة الساحل عدداً أكبر من الوفيات بسبب الإرهاب في عام 2022، وشكلت الوفيات في منطقة الساحل 43% من الإجمالي العالمي في عام 2022، مقارنة بنسبة 1% فقط في عام 2007. ومما يثير القلق بشكل خاص أن كلاً من بوركينافاسو ومالي شكلتا 73% من الوفيات الناجمة عن الإرهاب في منطقة الساحل في عام 2022، و52% من مجموع الوفيات الناجمة عن الإرهاب في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وسجلت كلتا الدولتين زيادات كبيرة في الإرهاب، مع زيادة الوفيات في بوركينافاسو بنسبة 50% إلى 1135 وفي مالي بنسبة 56% إلى 944. وتُنسب معظم الهجمات في هذه البلدان إلى إرهابيين مجهولين، على الرغم من أن كلاً من تنظيم داعش وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين يعملان في هذه البلدان. وامتد تصاعد العنف في بوركينافاسو أيضاً إلى البلدان المجاورة، حيث سجلت توجو وبنين أسوأ درجاتهما على الإطلاق في مؤشر الإرهاب الدولى GTI [2].

وكانت التنظيمات الإرهابية الأكثر دموية في العالم في عام 2022 هي تنظيم داعش والجماعات التابعة له، تليه حركة الشباب، وجيش تحرير بلوشستان (BLA)، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM). وظل تنظيم داعش هو الجماعة الإرهابية الأكثر فتكاً على مستوى العالم للعام الثامن على التوالي، حيث سجل أكبر عدد من الهجمات والوفيات مقارنة بأي جماعة أخرى في عام 2022.

وعلى الرغم من الانخفاض الكبير في حالات عنف التنظيمات المتشددة الإسلامية في شمال أفريقيا وشمال موزمبيق خلال العام الماضى، إلا أن منطقة الساحل اكتسبت شهرة بأنها أكبر مسرح للهجمات على المدنيين خلال السنوات الثلاث الماضية. ففي عام 2023، كان هناك أكثر من ١١٠٠ حالة هجوم على المدنيين من قبل التنظيمات الإسلامية المتشددة في منطقة الساحل، مما أدى إلى مصرع أكثر من 2080شخصاً، أي 59% من جميع الهجمات على المدنيين من قبل التنظيمات الإسلامية المتشددة في أفريقيا، و68% من أحداث القتل المتورطين فيها. وارتفعت الوفيات المرتبطة بالإرهاب في منطقة الساحل بنسبة 2000% بين عامي 2007 و2022، وفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي لعام 2023[3].

وكانت النيجر الأقل تأثراً بالمتطرفين العنيفين عن جارتيها مالي وبوركينافاسو، حيث كانت الدولة الوحيدة من بين الدول الثلاث التي شهدت انخفاضاً في العنف عام 2022، وفقاً لمشروع بيانات مواقع النزاعات المسلحة وأحداثها (ACLED).

وارتبطت معظم العمليات الإرهابية وعدد القتلى فى الساحل الأفريقى بجماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) التى تتمركز فى شمال مالي، وكذلك تنظيم داعش فى الصحراء الكبرى (ISGS) أو الساحل (IS-Sahel)، وتزايدت العمليات مع رحيل القوات الفرنسية والقوات الأممية "مينوسما"، حيث شهدت مدينة موبتي فى مالى زيادة بنسبة 37% في حوادث القتل. كما شهدت مدينة جاو- مسرح الصراع على السيطرة الدائر بين جماعة نصرة الإسلام والمسلمين والدولة الإسلامية في الساحل- زيادةً بنسبة 40%.

شكل بيانى رقم (1)

المصدر: عدد القتلى على يد الجماعات الإسلامية المتشددة الأفريقية يصل أعلى مستوياته على الإطلاق، 11 سبتمبر 2023، https://africacenter.org/ar/spotlight/africa-militant-islamist-group-linked-fatalities-at-all-time-high/

شكل بيانى رقم (2)

المصدر: عدد القتلى على يد الجماعات الإسلامية المتشددة الأفريقية يصل أعلى مستوياته على الإطلاق، المرجع السابق.

 

تطور اتجاهات التنظيمات الإرهابية فى الساحل

يرى بعض الباحثين أن التنظيمات الإرهابية فى أفريقيا ليست بالضرورة قوية في حد ذاتها. بل  هذه التنظيمات تحرص على الانتشار في الدول التي تواجه أزمات على مستويات مختلفة. وبالتالي كلما ضعفت الدولة زاد احتمال وجود هذه التنظيمات، وبرزت خلال السنوات الأربع الأخيرة مجموعة من الاتجاهات التى أصبحت تميز التنظيمات الإرهابية فى الساحل الأفريقى أهمها:

1- احتدام الصراع بين التنظيمين: حالت الصراعات بين فروع القاعدة وداعش دون استنساخ النموذج الأفغانى من ناحية، ومن ناحية أخرى، أدى الانقسام والقتال بين تنظيم داعش في الساحل وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين في نهاية المطاف إلى إضعاف التنظيمات، حيث تتنافس الجماعات بشكل متقطع على النفوذ والأراضي فيما بينها بدلاً من خصومها المشتركين سابقاً. وقد أدى ذلك إلى إهدار الموارد البشرية، وتعرض التنظيمات للمراقبة والغارات الجوية. ومنذ المناوشات الأولى في عام 2019 حتى الوقت الحاضر، اشتبكت المجموعتان 125 مرة على الأقل، مما أدى إلى مقتل ما يقدر بنحو 731 مقاتلاً من الجانبين[4]. كما ظهرت انشقاقات فى التنظيمين، حيث انشق فصيل من كتائب ماسينا التى تعد جزءاً من جماعة نصرة الاسلام والمسلمين فى عام 2020 وانضم إلى تنظيم داعش فى الساحل.  

2- الاستغراق فى المحلية: فى السنوات الأخيرة، أصبحت اتجاهات تنظيم القاعدة لامركزية بشكل ملحوظ، فقد افتقدت العديد من فروع القاعدة التواصل مع القيادة المركزية، وفى أحيان أخرى انحرفت فروع القاعدة فى أفريقيا عن أهداف التنظيم العالمية، فقد تحولت إلى مجموعات محلية لا تعطى أولوية للهجمات على المصالح الغربية (استراتيجية العدو القريب)، مما قلل من اهتمام الغرب والولايات المتحدة بمكافحتها، فقد تجاهلت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين مطالب أيمن الظواهرى بمهاجمة الأهداف الأمريكية بدلاً من القوات المحلية، كما لم تستطع الجماعة التواصل مع الظواهرى لمدة ثلاث سنوات بين عامى 2013-2016. وربما يعود الانفصال بين مركز التنظيم الإرهابى ومحيطه إلى النجاحات التى تحققت فى مكافحة الإرهاب، إلا أن بعض الباحثين يرون فى الانفصال بين القيادة المركزية والفروع فى تنظيم القاعدة تداعيات ساعدت على استمرار التنظيمات الفرعية[5].

كما أدت هذه السمة إلى اتجاه العديد من القبائل وقادة المجتمعات المحلية فى مالى ودول الساحل إلى اعتبار الأزمة مع تنظيم القاعدة هى أزمة داخلية وخاصة أن أغلب المقاتلين فى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين من منطقة الساحل، بعكس ما يشهده تنظيم داعش أو ولاية الساحل من تزايد فى أعداد الأجانب فى التنظيم.   

3- استغلال الأزمات السياسية: مع التطورات السياسية المتلاحقة التى شهدها الساحل الأفريقى، كانت التنظيمات الإرهابية تحاول انتهاز الفرص، فقد تعرضت الثلاث دول المركزية فى محاربة الإرهاب فى الساحل (مالى، وبوكينافاسو، والنيجر) لانقلابات عسكرية متتالية، ما أدى إلى خروج القوات الفرنسية من الدول الثلاثة، وكذلك خروج قوات الأمم المتحدة من مالى، مما أفسح المجال أمام التنظيمات الإرهابية لتنفيذ مزيد من الهجمات لهزيمة القوات الوطنية فى هذه الدول، فعقب انقلاب النيجر تبنت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المسئولية عن هجوم ضد الجيش النيجرى فى 9 أغسطس 2023، في ولاية "تيلابير" في المثلث الحدودي الملتهب بين النيجر وبوركينا فاسو ومالي، أسفر عن مقتل 6 أفراد من الجيش النيجيري وإصابة 4. كما عاد الإرهابي طلحة الأزوادي، أمير "سرية القدس" في جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" للظهور برسالة دعائية يستعرض فيها خطط الجماعة في منطقة الأزواد شمال مالي.

4- الهيمنة على المدن: منحت الانقلابات العسكرية الأخيرة فرصاً لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم داعش لتنفيذ مخططات تتناسب مع المرحلة الراهنة على رأسها حصار المدن، فقد تمكن تنظيم داعش فى الساحل أو ولاية الساحل فى أبريل 2023 من السيطرة على قرية تيدرمين في الشمال الشرقى من مالي، مما زاد من عزلة العاصمة الإقليمية ميناكا حيث تشهد ولاية ميناكا وولاية جاو الواقعة إلى الغرب منذ أوائل عام 2022 معارك ضارية بين تنظيم داعش وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين. كما تمكن تنظيم داعش من السيطرة فى نوفمبر 2023 على قاعدة للجيش المالى على أطراف مدينة لابيزينغا، وهى قاعدة أنشأها الجيش الفرنسى عام 2020،  حيث ينظر البعض إلى أن التنظيمات الإرهابية ملئت الفراغ الذي خلفته القوات الفرنسية العام الماضي، كما أشارت الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان إلى أن تنظيم داعش قام بهجمات عقابية ضد المجتمعات التي يتهمونها بمساعدة الدولة أو رفض الانضمام إلى صفوفه[6].

كما أعلنت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين فى 24 أغسطس 2023 عزمها محاصرة مدينة تمبكتو التاريخية فى شمال مالى مما تسبب فى أزمة إنسانية خطيرة يعيشها سكان المدينة، حيث يرى بعض الباحثين أن هذه الجماعة تسعى إلى قيام نظام حكم إسلامى على غرار ما شهدته بعض مدن مالى قبل التدخل الفرنسى فى يناير 2013 وتستلهم نموذج طالبان وخاصة فى ظل ارتباك القوات الأمنية الوطنية وفقدان الدعم الأمريكى والغربى للأمن فى هذه الدول على غرار ما حدث فى أفغانستان قبل وصول طالبان للسلطة.

إذ تمثل "استراتيجية الهيمنة" على المدن الحيوية فى الساحل الأفريقى مخالفة لما اتبعه تنظيما القاعدة وداعش فى الماضى، حيث كانت أهدافهما تنصب على مهاجمة منطقة ما للاستيلاء على الأسلحة والمؤن وإحداث بعض الضجيج الإعلامى دون تكبد خسائر كبيرة فى الأرواح والعودة سريعاً إلى نقطة الانطلاق، وحرصت التنظيمات الإرهابية على التمركز فى الغابات وشن هجمات خاطفة على المدن دون السيطرة عليها. كذلك حرصت على التواجد فى المناطق الغنية بالثروات كمناجم الذهب ومناطق مرور خطوط أنابيب النفط والغاز ومناطق مرور قوافل الماشية المنتشرة فى أراضى وسط الساحل.    

 5- محاولة كسب حاضنة شعبية: على الرغم من العداء بين جماعة نصرة الإسلام والمسلمين والحركات الأزوادية، تعمل الأولى على الدفاع عن المواطنين فى مواجهة داعش فى مناطق فى شمال مالى. وفى يناير 2023 أجرى زعيم نصرة الإسلام محادثات مع مجموعات مختلفة من السكان لتوفير الحماية لها كبديل عن الحكومة.  كما نجح بعض قادة المجتمع المحلى فى الاتفاق مع تنظيمات إرهابية مقابل امتيازات أمنية فى ظل غياب أو عجز مؤسسات الدولة عن حمايتهم، وتمكن تنظيم داعش فى الساحل من استغلال المظالم وإهمال الحكومات والمنافسات بين المجتمعات الرعوية فى مثلث الحدود بين الدول الثلاثة (ليبتاكو-غورما).

كما أكد إياد أغ غالى فى حديثه الأخير على أهمية حماية المدنيين، وطالب الشعوب المسلمة بمساندة مقاتليه وهم يواجهون حكومات الدول الثلاثة، وأشار إلى أن الجيش المالى ارتكب مذابح فى طريق سيطرته على مدينة كيدال، كما اتهم أنظمة الحكم فى مالى والنيجر وبوركينافاسو بالخيانة لتعاونها مع روسيا وتوعدها بالهزيمة على غرار ما حدث لفرنسا وقواتها.

عوامل استمرار التهديدات الإرهابية فى الساحل الأفريقى

مع تعدد التنظيمات الإرهابية فى منطقة الساحل والصحراء، وعلى الرغم من الانقسامات والانشقاقات التى تشهدها بعض هذه التنظيمات، إلا أن أهداف التنظيمين الرئيسيين فى المنطقة (نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم داعش فى الساحل أو ولاية الساحل) تتسم بالوضوح وتؤكدها عمليات التنظيمين الإرهابية، حيث تضم المنطقة  43% من حالات الوفاة الناجمة عن الإرهاب في العالم وفق مؤشر الإرهاب العالمى لعام 2023 مع توقع تزايد هذه النسبة وتجاوزها من حيث عدد الضحايا مناطق جنوب آسيا، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مجتمعة، كما كشف المؤشر أن مالي وبوركينافاسو، من بين دول العالم الخمس الأكثر تضرراً من الوفيات الناجمة عن الإرهاب، وأن بوركينافاسو أكبر دولة تشهد وفيات إرهاب سنوية مقارنة بأي دولة أخرى.   

ومن المتوقع أن يستمر التنظيمان فى محاولة تحقيق أهدافهما وربما ينجح أحدهما فى ترسيخ حكم على غرار نموذج طالبان، وخاصة فى ظل وجود العديد من العوامل التى تسمح بزيادة التهديدات الارهابية ومن أهمها:  

1- قيود على مكافحة الإرهاب: على الرغم من أن ضعف التنظيمات الإرهابية الناتج عن تصاعد الصراعات فيما بينها، يفتح طريق أمام الحكومات التى تمتلك قدرات لتنفيذ برامجها فى مكافحة الإرهاب، إلا أن الاستغراق فى المحلية يضعف الدعم الدولى لمكافحة الإرهاب، هذا فضلاً عن تراجع برامج مكافحة الإرهاب كنتيجة للأزمات السياسية فى دول المنطقة وفى مقدمتها الانقلابات العسكرية.

2- مداخل متجددة للتمويل والتجنيد: من النادر أن تكون المنظمات الإرهابية عشوائية ولا معنى لهجماتها، حيث اختيار الهدف والرسالة والجمهور المستهدف. فتنظيم القاعدة وتنظيم داعش في أفريقيا يتبعان سياسة "القلوب والعقول" التي تنطوي على السيطرة على منطقة ما، والعمل كدولة بحكم الأمر الواقع، وتوفير الخدمات اللوجستية للسكان المحليين. والرسالة المقصودة إلى المسلمين المحليين هي أن الجماعة الإرهابية ستضمن أمنهم في المجتمع. فعلى سبيل المثال، تستهدف جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة وتنظيم داعش في الصحراء الكبرى في منطقة الساحل وتنظيم داعش في غرب أفريقيا في نيجيريا بشكل استراتيجي مؤسسات الدولة والجماعات المسيحية وتمتنع عن استهداف المسلمين المحليين. ويرى المسلمون المحليون بدورهم أن الجماعات التابعة لها أقوى من مسئولي الدولة في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات. وفي رؤية اتجاهات عديدة، فإن الجهود المبذولة لكسب قلوب وعقول المسلمين المحليين تولد التعاطف مع الجماعات وتخلق فرصاً للحصول على أموال التشغيل وتجنيد أعضاء جدد[7].

وفي فبراير2023، خلصت مراجعة أصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، إلى أن "الحاجة الماسة للعمل، والشعور بالخذلان من الحكومات المتعاقبة، كانا من بين أهم الأسباب التي تدفع الشباب في أفريقيا؛ لاسيما منطقة الساحل، للالتحاق بشبكات التطرف". وأظهر التقرير الأممي حينها أن "25% من المجندين المتطوعين في مثل هذه الجماعات، ذكروا أن فرص العمل كانت سببهم الرئيسي للالتحاق بها"، بينما سجل التقرير انخفاضاً بنسبة 57% في عدد الأشخاص الذين ينضمون إلى الجماعات المتطرفة لأسباب دينية[8].

كما تشهد بعض مدن منطقة الساحل سيطرة مكانية وأيديولوجية من قبل التنظيمين الإرهابيين، حيث حاولت نصرة الإسلام والمسلمين فى أعقاب انسحاب القوات الفرنسية عام 2022 فرض سيطرتها على مدن فى شمال وحاصرت مدينة تمبكتو التاريخية فى مالى، كما نجح تنظيم داعش فى الساحل في فرض سيطرته على مدن فى ولاية ميناكا التى تقع في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، وتعد من أبرز نقاط تهريب المسلحين والسلاح والمخدرات والوقود والمهاجرين غير الشرعيين، وهي أنشطة إجرامية تغدق أموالاً ضخمة على تنظيم داعش.

أخيراً، تشير المعطيات السابقة إلى أن التنظيمات الإرهابية فى منطقة الساحل الأفريقى تتزايد قوتها فى ظل عوامل الضعف المختلفة التى تعاني منها دول المنطقة، مع عدم وجود مبادرات جادة لمعالجة الأزمات التى تساهم فى تدعيم التنظيمات الإرهابية مع تراجع الاهتمام الدولى بمواجهة الإرهاب فى هذه المنطقة، مما يدفع بسيناريوهات خطيرة على الأمن والاستقرار فى الساحل الأفريقى، ويطرح تكهنات حول إمكانية تكرار السيناريو الأفغانى ووصول أحد التنظيمات الإرهابية إلى السلطة.

ومن دون شك، فإن هذا السيناريو لن تقتصر تداعياته السلبية على دول الساحل وامتداداتها فى الغرب الأفريقى، بل ستمتد آثاره إلى كافة الدول التى لديها مصالح حيوية فى هذه المنطقة وفى مقدمتها الدول الغربية، وهو ما يجعل من الأهمية أن تعمل الدول الغربية على الدفع بمبادرات عملية للتنمية فى هذه المنطقة التى تعانى من العديد من الأزمات الاقتصادية والإنسانية الحادة.


[2]  Global Terrorism Index 2023, 14 Mar 2023, https://reliefweb.int/report/world/global-terrorism-index-2023

[3] Analysts Fear Niger Coup Will Embolden Terrorists, Supercharge Sahel Violence

[4] The Conflict Between Al-Qaeda and the Islamic State in the Sahel, A Year On, https://www.ispionline.it/en/publication/conflict-between-al-qaeda-and-islamic-state-sahel-year-29305

[5]  How al-Qaeda and Islamic State are digging into Africa ,DAKAR AND DUBAI,  https://www.economist.com/middle-east-and-africa/2022/08/11/how-al-qaeda-and-islamic-state-are-digging-into-africa

[6]  Islamic State terrorists extend control over northeastern Mali, 14/4/2023, https://www.africanews.com/2023/04/14/islamic-state-terrorists-extend-control-over-northeastern-mali/

[7] Mahmut Cengiz, ISIS and al-Qaeda on the Move in Africa, Intent on Spreading Their Influence and Jihadist Ideology, August 29, 2022, https://www.hstoday.us/featured/isis-and-al-qaeda-on-the-move-in-africa-intent-on-spreading-their-influence-and-jihadist-ideology/

[8] لماذا تتعثر جهود مكافحة "الإرهاب" في الساحل الأفريقي؟ عقب هجمات قتلت العشرات في بوركينافاسو، 21 مايو 2023 ، t.ly/Od4iU