د. خالد حنفي علي

باحث مصري، مؤسسة الأهرام

 

في سرد أدبي يكشف مدى تأثير الصراعات المسلحة في تفاعلات الأفراد في الحياة اليومية، يصور الكاتب الراحل خالد خليفة في روايته: "الموت.. عمل شاق"، رحلة ثلاثة أبناء لنقل جثمان أبيهم – الذي كان معارضاً للنظام السوري- من دمشق إلى العنابية قرب مدينة حلب شمال سوريا، التزاماً بوصيته بأن يُدفن بجوار أخته. تنقل الرحلة تفاصيل معاناة أولئك الأبناء وتعرضهم للقمع والإذلال اليومي أثناء المرور بالجثمان عبر الحواجز الأمنية للفرقاء المتنازعين في هذا البلد، حتى أنه انتفخ قبل أن يواري الثرى في الأخير.

تستدل الرواية بهذه الواقعة الإنسانية الجزئية لإظهار السياق المأساوي العام في الصراع السوري، حيث تتغلغل ظواهر الاستقطاب والفساد والطائفية والتطرف في بنية التفاعلات المجتمعية، لتلقي بظلالها الكثيفة على قدرة الأفراد على تلبية احتياجاتهم الاعتيادية، كدفن موتاهم بكرامة. وبرغم أنها نص أدبي متخيل وليست توثيقاً لأحداث حقيقية، لكن الرواية لا تبتعد كثيراً عن الواقع السوري أو حتى الصراعات المسلحة الأخرى في الشرق الأوسط، خاصة أن الأدب عندما يكتبه متضررو الصراعات، فإنه يصوغ سردية إنسانية يتلاقى فيها الخيال والواقع، والخاص والعام، والفردي والجماعي.

الأهم أن تلك السردية الأدبية تحول فهم الصراع السوري من أعلى، حيث التنازع على هياكل السلطة والثروة والهوية بين نظام بشار الأسد وحركات المعارضة، إلى أسفل أو قاعدة المجتمع، حيث التفاعلات اليومية بين الأفراد العاديين والسلطات المتنازعة على هذا البلد، والتي قد تشكل بقعة غير مرئية سواء لمن يراقبون الصراع من الخارج أو يسعون إلى تسويته أو التقليل من آثاره.

لقد بدت الحياة اليومية في مناطق النزاعات المسلحة مجالاً خصباً للروايات الأدبية في الشرق الأوسط أو العالم لما تكشفه من تغيرات قيمية وإنسانية لدى الأفراد سواء في علاقاتهم مع بعضهم بعضاً أو مع السلطة. ومع ذلك ظلت تلك الحياة بعيدة عن المجال السياسي، إما لأن المقاربات التقليدية تعتبرها خارج ما هو سياسي، حيث تفترض عدم امتلاكها القدرة على التأثير في علاقات القوة والسلطة، أو تنظر لها كفضاء اجتماعي ثقافي يخضع لهيمنة السلطة، ومؤسساتها وقدرتها على الضبط والتعبئة.

مع صعود الاتجاهات النقدية، بزغت مقاربة غير تقليدية تسعى إلى فهم الصراعات في قاعدة المجتمعات، عبر إيلاء أهمية لرؤية الناس العاديين لما يعنيه السلام والصراع لهم، في مقابل المقاربات التقليدية التي تركز على البنى المؤسسية والهيكلية للصراعات، كالحركات العسكرية والسياسية والقادة والنخب. لذا، تجادل أدبيات ودراسات عديدة بأهمية أدوار الخطابات والممارسات اليومية للأفراد والجماعات في تعميق ظاهرة الصراعات أو تخفيف حدتها، وليتبلور بذلك مفاهيم كالصراع اليومي، والسلام اليومي. وقد التقطت المنظمات غير الحكومية هذه المقاربة اليومية لتدمجها في برامج بناء السلام، وإن بقيت تساؤلات حول حدود تأثيرها في مسار الصراعات المسلحة.

المقاربة اليومية.. استعادة صوات الأفراد العاديين

تستهدف المقاربة اليومية (Everyday Approach) فهم أدوار الخطابات والممارسات الاجتماعية والثقافية للأفراد العاديين في الحياة اليومية في تفسير وإعادة تشكيل الظواهر السياسية والاجتماعية، وهي برزت بالأساس نتاجاً لمساعي الاتجاهات النقدية للخروج من هيمنة الطابع المؤسسي على فهم الظواهر الاجتماعية، والانتقال إلى التركيز على خبرات الأفراد والجماعات في الحياة اليومية، وعلاقاتهم بالنظم والمؤسسات الضابطة في المجتمعات [1].

لكن الاهتمام بما هو يومي في المجال السياسي تصاعد أكثر خلال العقدين الماضيين، في ظل النقد الموجه للسياسات والمؤسسات الرسمية في النظم الديمقراطية التي باتت تفقد قدرتها على تمثيل مصالح المجتمعات أو ما يسمى "التآكل الديمقراطي"، فضلاً عن بروز اتجاهات مناهضة لعولمة النموذج الاستهلاكي الرأسمالي الغربي، وفرضه على خيارات المواطنين وهوياتهم وأنماط حياتهم اليومية. أضف لذلك، تنامي ظاهرة الشعبوية على صعيد القادة السياسيين الساعين لتجاوز المؤسسات والتواصل المباشر مع المجتمعات، والتأكيد على الهويات القومية، كما برز مع نموذج رئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة أو "البريكست" في بريطانيا في العام 2016.

 بموازاة ذلك، تبلورت أشكال للمشاركة السياسية الشعبية في ظل انتشار ثورة الاتصالات والتكنولوجيا على نطاق واسع في العالم، فصار بمقدور الأفراد والجماعات ممارسة نوع من السياسة اليومية في الفضاء الافتراضي من خلال البوستات واللايكات والفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، بخلاف شن حملات ضغط، والتوقيع على العرائض الالكترونية لدعم موقف أو قضية ما. أيضاً، تغيرت النظرة العالمية لممارسة السياسة، حيث تمددت من فضاء المؤسسات والأحزاب السياسية إلى المجموعات الصغيرة التي تركز على قضايا بعينها (المناخ، الرياضة، الفن، قضايا الجندر والمرأة، وغيرها)، حيث يتشارك أفراد تلك المجموعات نمط حياة وقيماً مشتركة، ويدافعون عن استقلاليتها وولاءاتها، في مواجهة سياسات السلطة ومؤسساتها، ويبنون قوة مؤثرة في نطاقات محلية وجزئية عبر النهج الشبكي، وهو ما اعتبره عالم الاجتماع الفرنسي مافيزولي نمطاً من "القبلية الجديدة"[2]، في مرحلة ما بعد الحداثة.

مع هكذا سياقات تحفز على استعادة صوت الأفراد العاديين، جاء الاهتمام السياسي بالحياة اليومية، كمجال ينشأ فيه أشكال من الخطابات المقهورة والسياسات البديلة ومقاومة السلطة. لكن المعضلة أن المفهوم ذاته يحمل تأويلات عديدة، ويتداخل مع سلسلة متسعة من المفاهيم الأخرى، كالسياسة اليومية، والسياسة الفرعية، والسياسة غير الرسمية، وحركات نمط الحياة، وغيرها[3].

تصف هنا بعض الأدبيات الحياة اليومية بأنها تبادلات روتينية يومية (مادية أو معنوية) بين الأفراد والمجموعات في مختلف الفضاءات الاجتماعية والثقافية، كالشارع والأسواق والجيران ومجموعات الأصدقاء والأندية والمستشفيات والمدارس وغيرها. هذه التبادلات تتخذ طابعاً مألوفاً وروتينياً، لكنها تتحول بحكم الاعتياد إلى أنماط واتجاهات متراكمة قد تسهم في إعادة تشكيل علاقات القوة، وطرح آليات للتغيير السياسي والاجتماعي. في هذا الشأن، يحدد أكثر د. أحمد زايد الحياة اليومية بأنها عبارة عن وسط معيشي وثقافي يرتبط بوجود الإنسان، وهو وجود ظاهر وفوري لا تحده أطر نظامية أو مؤسسية، ولا تنعزل فيه خبرة الفرد عن الآخرين، فضلاً عن أن التبادلات اليومية قد تكون تلقائية ويشوبها قلة التنظيم، وتحوي طرقاً للتفكير والسلوك العقلاني وغير العقلاني[4].

اتصلت أكثر الحياة اليومية بما هو سياسي عبر علاقات التأثير والتأثر بالسلطة. فمع إنتاج الخطابات والممارسات اليومية لأشكال من القوة غير الرسمية في مواجهة السياسات الرسمية، بلورت الأدبيات مفهوم السياسة اليومية Everyday Politics، حيث يتبنى الأفراد والجماعات معايير وقواعد يمارسونها يومياً، ويسعون من خلالها إما إلى الخضوع للسلطة أو مقاومتها ورفض هيمنتها[5]. بدوره، ركز جيمس سكوت على المقاومة اليومية، كسلاح للضعفاء أو المهمشين، واعتبرها فعلاً أو أفعالاً من فرد أو جماعة يُقصد بها تخفيف أو رفض سياسات رسمية ومؤسسية. من أشكال المقاومة تلك، خطابات وسلوكيات للأفراد قد تنطوي على التسويف والسخرية وادعاء سوء الفهم أو عدم التعاون أو المقاطعة أو الرفض لقرارات أو سرديات رسمية بشأن قضية ما[6].

قد تأخذ تلك المقاومة اليومية سمات معلنة وأخرى سرية، وهي أقل جماعية مقارنة بالمقاومة المنظمة ذات الطابع المؤسسي، لكن أشكالها تختلف وفقاً لطبيعة الأنظمة السياسية، فيلجأ لها المحرومون والمهمشون في محاولة للحصول على الحقوق والموارد في سياقات الأنظمة التسلطية، بينما تتركز أكثر في الأنظمة الديمقراطية في الشمال الغني على مواجهة سياسات فرض نمط الحياة وخيارات الاستهلاك على الهويات الفردية والجماعية. قد تصبح المقاومة اليومية أكثر خصوصية في المجتمعات الواقعة تحت الاحتلال، فقد تبنت إحدى الدراسات مفهوم "الصمود"، كتكتيك واعٍ واستراتيجية متعمدة للمقاومة في الحياة اليومية الفلسطينية لبعث رسالة بالقدرة على البقاء والاستمرارية وصيانة الهوية في مواجهة المحتل الإسرائيلي[7].

على الجانب الآخر، بدت مواقع الاستهلاك اليومي في الأسواق والمولات وغيرها مجالاً تنشأ فيه أشكال من السياسة اليومية سواء عن قصد أو غير قصد. فالاستهلاك اليومي للأفراد لم يعد ينظر له، فحسب، على أنه تلبية للاحتياجات النفعية، وإنما يعبر عن الهوية الذاتية، ومن خلالها يمكن إبداء موقف سياسي تجاه قضية ما[8]، كحال حركات المقاطعة الشعبية لمنتجات الشركات الداعمة للمحتل الإسرائيلي احتجاجاً على ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية خلال حرب غزة الأخيرة.

إجمالاً، جعلت أهمية المقاربة اليومية للتبادلات الفردية والجماعية اليومية معنى أو مدلولاً سياسياً، حتى لو لم يكن ورائها أحياناً دوافع سياسية بشكل ظاهر، أو اقتصر أثرها على نطاق زماني ومكاني بعينه، أو ركزت على قضايا وأجندة محددة. فالسياسة اليومية، التي تصنعها التبادلات الروتينية للأفراد والجماعات، قد تتراكم وتنتشر لتؤثر في علاقات القوة، ومن ثم قد تغير تدريجياً وفي أمد زمني طويل مسار الظواهر السياسية والاجتماعية. هنا، استخدم أصف بيات تلك المقاربة لتفسير كيف يغير الناس العاديون الشرق الأوسط، عبر "الزحف الهادئ"، إذ أظهر الطرق اليومية التي يكافح بها الفقراء من أجل البقاء، وتحسين حياتهم، عبر جهد جماعي يحمل القليل من التنظيم والأيديولوجيا في مواجهة السلطة[9].

الارتباطات بين الحياة اليومية وظاهرة الصراعات

مع الاهتمام المتصاعد بأثر الحياة اليومية في تشكيل علاقات القوة في المجال السياسي، انتقل ذلك الاتجاه إلى مقاربة الصراع والسلام لاستدعاء المجتمع كفاعل مؤثر فيهما، وذلك على أساس اعتبارين: الأول، أن الصراع (تناقض حول القيم والمصالح بين أطراف متنازعة في مجتمع ما) والسلام (إدارة وتحويل سلمي لهذا التناقض من طابعه السلبي إلى الإيجابي)، ليسا فقط نتاجاً للبنى المؤسسية والقادة والنخب، وإنما يعبران أيضاً عن تفاعلات الأفراد والمجموعات في أسفل أو قاعدة المجتمع.

أما الاعتبار الثاني، فيتعلق بتغير واقع الصراعات الداخلية، إذ باتت ممتدة رأسياً داخل المجتمعات (تستدعي المظالم المحلية، كعدم المساواة والتهميش والإقصاء)، ومعقدة (ترتبط بعوامل متداخلة سياسية واقتصادية ومجتمعية وهوياتية)، وهجينة (تتشابك فيها فواعل الداخل والخارج، عبر أنماط من علاقات الوكالة)، وواسعة الأثر (تمتد تأثيراتها ومخاطرها إلى ما وراء الحدود). تجلت هذه السمات في صراعات أهلية في أفريقيا في تسعينيات القرن العشرين، ثم موجة صراعات الشرق الأوسط التي أعقبت الثورات العربية في العام 2011، مثل، سوريا وليبيا واليمن[10].

مع ذلك، هيمن نموذج السلام الليبرالي Liberal Peace على حل وتسوية النزاعات المسلحة في العالم، بفعل تبنيه من قبل القوى الغربية والأمم المتحدة وتمويله من المؤسسات الدولية المانحة. يرتبط هذا السلام بتأسيس مؤسسات ديمقراطية وتبني آليات السوق الحر، كجزء من عولمة النموذج السياسي الغربي في نظم الحكم، كسبيل متصور للاستقرار والرفاه. لذا، تدور عادة جهود تسوية الصراعات حول كيفية التوصل إلى نظام ديمقراطي وبناء مؤسسات للدولة ووظائفها المختلفة، بما يستوعب تناقضات المصالح في مجتمع ما.

تعثر هذا النموذج في بعض الحالات الصراعية في أفريقيا والشرق الأوسط، كما أن اتفاقات التسوية بين أطراف النزاع وإن صمدت فقد لا تمتد آثارها إلى قاعدة المجتمع، حيث تظل العلاقات العدائية قائمة (حالتا أيرلندا، لبنان)، وفسرت الأدبيات ذلك بأن السلام الليبرالي يعكس مصالح مؤسسية ونخبوية في إدارة السلطة والثروة أكثر من احتياجات مجتمعات الصراع، كالأمن والكرامة والهوية والمصالحة، مما يجعل السكان المحليين يقاومون هذا السلام، أضف لذلك أن السلام الليبرالي ذو مقاس واحد للجميع، بغض النظر عن خصوصياتهم. من هنا، برز اتجاه تكاملي لتسوية الصراعات من أعلى (تسويات رسمية) وأسفل (تدخلات غير رسمية للمجتمع المدني لبناء سلام مجتمعي)، مع ربطهما معاً، كي يتحول السلام الفوقي إلى واقع في قاعدة المجتمعات والعكس[11].

في هذا الإطار، برز الاهتمام بالحياة اليومية، كمجال يؤثر ويتأثر بظاهرتي الصراع والسلام. لكن كان السؤال المطروح: هل هنالك حياة يومية اعتيادية وطبيعية في مناطق النزاعات المسلحة على غرار نظيرتها في المجتمعات المستقرة؟ هنا، برز خلاف بين الأدبيات، فقد رأى البعض أن نشوب نزاع مسلح يعني تعطيل الحياة اليومية الروتينية لأن الفضاءات الاجتماعية والثقافية التي تجري فيها التبادلات بين الأفراد والجماعات قد تتعرض للاستهداف العسكري من المتنازعين، كالأسواق والمدارس والمستشفيات وغيرها، ناهيك عن أن النزاعات قد تخلق معايير استثنائية تعرقل التفاعلات الاعتيادية. فقد يصبح السلوك اليومي العنيف سواء أكان رمزياً أو مادياً مقبولاً ضد الآخر، تأثراً بدعم طرف على حساب آخر أو  نتاجاً لضعف سلطة إنفاذ القانون أو غيابها وقت الحروب في بعض المناطق.

في المقابل، اعتبر البعض الآخر من خلال المشاهدات الميدانية ومعايشة النزاعات المسلحة أن الحياة اليومية لا تتوقف عند نشوب الحروب، وإنما يُعاد تشكيل ملامحها لتتلاءم فيها تبادلات الأفراد والجماعات مع سياقات العنف. فصحيح أن تلك التبادلات تصبح استثنائية وطارئة في بداية النزاعات، لكن مع طول أمد الأخيرة فقد تتحول إلى اعتيادية، بفعل تكيف الأفراد مع الأخطار الممتدة، فضلاً عن احتياجهم الإنساني لسياق يومي يمارسون عبره علاقاتهم الاجتماعية. لذا، يقول لوبكيمان إن الحروب في أفريقيا لم تكن حدثاً يعطل الحياة اليومية، بل أصبحت السياق الطبيعي لتطور الحياة الاجتماعية[12].

بتكيف الحياة اليومية مع ظروف النزاعات المسلحة، بات الصراع الدائر حاضراً ومؤثراً على خطابات وممارسات الأفراد. فبعدما كانوا يتعاملون مع سلطة وطنية موحدة لها ممثلون في مناطق محلية قد يجدون أنفسهم إزاء سلطات موزعة تنتشر بينها القوة، كالحكومة، أو الحركات المسلحة، أو القوات الأجنبية على نحو يبرز في صراعات الشرق الأوسط، كسوريا وليبيا واليمن. من جانب آخر، تتغير أولويات الأفراد لتتركز على التأمين اليومي للمتطلبات الحياتية، كالأمن والغذاء والصحة، لكن مع مرور الوقت قد تتسع أكثر لمناحٍ اعتيادية، كالترفيه والمتعة والتزاور بين الجيران والأصدقاء وحضور المناسبات الاجتماعية إذا استشعروا بتوافر الحد الأدنى من الأمن اليومي.

تشير هنا إحدى الدراسات أن الحياة اليومية في مخيمات الروهينجا في ميانمار قد ينظر لها كمساحة للعيش الاستثنائي، لكن مع طول أمد بقاء اللاجئين تنشأ أنماط من التفاعلات الاعتيادية يظهر فيها التوتر والتعاون اليومي وعلاقات القوة وصراعات الهوية سواء بين الأفراد، أو العلاقة مع السلطة المشرفة على المخيمات[13]، وهو الأمر ذاته الذي يظهر في الحياة اليومية في مخيمات اللاجئين في أفريقيا والشرق الأوسط.

على الرغم من صعوبة إيجاد نمط عام للتبادلات اليومية للأفراد والجماعات بسبب اختلاف السياقات الثقافية والقيمية والاجتماعية في مناطق النزاعات المسلحة، مع ذلك، لاحظت الأدييات ارتباطات أساسية بين تفاعلات الحياة اليومية وظاهرة الصراعات، منها:

1- النافذة اليومية للسلام والصراع: عندما ينشب الصراع داخل الدول، فقد لا يكون شاملاً لكافة المستويات في المجتمع، حيث تظل هنالك نافذة أو ثغرة تعاونية أو صراعية في تفاعلات الحياة اليومية، ويتحدد حجمها ومساحتها، وفقاً لطبيعة رأس المال الاجتماعي المحلي، ومدى التأثر بسرديات الأطراف المتنازعة من منطقة إلى أخرى. فقد يبرم أطراف نزاع ما اتفاق تسوية سياسية، لكن تظهر مقاومة يومية له إذا استشعر الأفراد أنه ليس عادلاً أو لا يعبر عن احتياجاتهم المحلية، والعكس فقد ينشب صراع مسلح لكن يستمر بعض الأفراد المنتمين لأطراف متنازعة مختلفة في التبادلات التعاونية[14].

2- الوكالة اليومية في مناطق النزاع: أي أن هنالك جهات اجتماعية (أفراد أو مجموعات صغيرة) تتحول إلى قوى مؤثرة في تبادلات الحياة اليومية في مناطق النزاع، مثل، كبار السن أو التجار الأثرياء أو الشيوخ أو الموظفين السابقين وغيرهم. تلعب تلك الجهات أدواراً كوكلاء للسلام، حيث يشكلون قوة غير رسمية، من خلال تضامنهم مع الآخرين والعمل على مساعدتهم، عبر شبكات محلية، كما قد يتحولون إلى صناع قرار يومي للحد من الصراع، عبر ممارسة الوساطة بين السلطة والسكان المحليين. في سوريا، على سبيل المثال، لاحظ البعض أن الشيوخ والتجار والضباط المتقاعدين مارسوا أدواراً في تخفيف التوترات اليومية بين الدولة والسكان المحليين، بحكم الروابط العائلية وغير الرسمية مع السلطة، ثم مع انهيار هذا النمط إثر الثورة ضد نظام بشار الأسد بعد عام 2011، برز سياق من العنف المتبادل[15].

3- العلاقة بين الحياة اليومية وهياكل النزاع: على الرغم من أن تفاعلات الحياة اليومية تجري على المستوى الجزئي، إلا أنها قد تتأثر بهياكل النزاع العامة سواء أكانت الحكومة أو حركات التمرد المسلح أو قوات حفظ سلام. فقد يقع الأفراد في تفاعلاتهم اليومية تحت ضغوطات الفساد وسياسات الجبايات التي يمارسها المسلحون أو ممثلو الحكومة في المناطق المحلية، كما قد يتعرضون للاستيلاء على أراضيهم من المسلحين. أيضاً قد تفرض حركات مسلحة متطرفة قيماً وسلوكيات يومية معينة على الملبس والمأكل والعلاقات الاجتماعية اليومية، كما جرى في المناطق التي كانت قد خضعت لتنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا والعراق[16] وحركة طالبان في أفغانستان. قد يؤدي ذلك إما إلى امتثال السكان المحليين لتلافي عنف التنظيم المتطرف أو المقاومة الهادئة أو العنيفة.

على جانب آخر، قد تنشأ فجوة بين الناس العاديين في الحياة اليومية والسلطة الموكل لها السيطرة على منطقة محلية. تعتبر سيفيرن أوتيسير هذه الفجوة أحد أسباب تعثر أدوار قوات حفظ السلام الدولية في مساعدة المجتمعات في مناطق النزاع، فلا تولي تلك القوات أهمية أو فهماً لطبيعة الممارسات الاجتماعية والثقافية في الحياة اليومية للسكان المحليين قياساً بتركيزهم على الجهات المانحة الممولة، كما تخشى على أمنها أكثر من حل النزاع أو التواصل مع السكان المحليين[17].

الصراع والسلام اليومي.. عوامل محفزة لا هيكلية

يعتمد جوهر تأثير الحياة اليومية في النزاعات المسلحة على كونها عاملاً للتهيئة أو التحفيز للصراع أو السلام اليومي، ومن ثم خلق سياق عام داعم لاستمرار النزاع أو الحد منه. مع ذلك، لا تنظر الأدبيات لهذا التأثير على أنه قد يحدث تغييراً هيكلياً في مسار الصراع أو السلام. فالحياة اليومية بيئة حاضنة للصراع بين هياكل النزاع، إذ تخلق تفاعلاتها نوعاً من الصراع أو السلام اليومي الذي قد ينتشر عبر مواقع جزئية محلية عديدة في قاعدة المجتمع ليؤثر تدريجياً وتراكمياً وعلى مدى زمني طويل في المسار العام لمناطق النزاعات. في هذا الصدد، سعت الدراسات الاثنوجرافية إلى فهم أشكال الممارسات الاجتماعية والثقافية في مناطق النزاعات، والتي ترتبط بالصراع اليومي (everyday conflict) والسلام اليومي (everyday peace )، وذلك على النحو الآتي:

1- الصراع اليومي: يعني توتر التبادلات اليومية سواء بين الأفراد والجماعات أو مع السلطة في الفضاءات المشتركة في مناطق النزاع، بما يحفز أو يعزز الانقسام الاجتماعي. تضع بعض الدراسات مؤشرات لهذا الصراع اليومي من واقع الخطابات والسلوكيات اليومية في الفضاءات الاجتماعية والثقافية، والتي يتجه مضمونها إلى معاداة الآخر وشيطنته أو عزله مثل، أحاديث الأفراد في الحوارات اليومية عن مجموعتها المتنازعة مع الأخرى على أنها تملك الصواب المطلق، مقاطعة مواقع الاستهلاك للطرف الآخر (متاجر أو شركات أو أطباء ينتمون مثلاً إلى عرقية منافسة في الصراع)، إيقاف التبادلات الرمزية البسيطة، كإلقاء السلام والتحية على مواطن يدعم طرفاً منافساً، استخدام الملابس والشعارات والجداريات والصور لوصم وتجريس الآخر، الإصرار على التحدث بلغة لا يفهمها الآخر، أو الخوض في موضوعات مثيرة للجدل قد تؤدي للشقاق والتنازع اليومي بين الأفراد[18].

قد تختلف هذه المؤشرات من بيئة صراعية إلى أخرى، لكن بشكل عام يتأجج الصراع اليومي، عندما يقرر الأفراد التمترس خلف فريقهم وإدانة الآخرين وتوتير العلاقة معهم. قد ينشأ ذلك كاستجابة تلقائية للصراع العام بين أطراف النزاع الرئيسية أو تفجر إرث المظالم المحلية في أعقاب التحولات الكبرى التي تغير موازين القوى المجتمعية، فمع سقوط نظام القذافي في ليبيا في عام 2011، تمدد الصراع إلى التفاعلات اليومية بين الأفراد والقبائل المتنافسة خاصة مع انتشار المليشيات المسلحة وتعثر الانتقال السياسي واتفاقات التسوية بفعل التدخلات الخارجية والانقسام الحكومي والمناطقي.

إلا أن تأجيج الصراع اليومي قد يكون "تكتيكاً عمدياً" يفرضه أطراف النزاع على التفاعلات الاجتماعية، عبر ما يسمى حراس البوابات أو الحدود بين العرقيات والطوائف المختلفة، والذين يحذرون الأفراد من التواصل اليومي مع المنتمين لعرقية متنافسة بل ويحرضون على استهدافهم. مثل هكذا أجواء صراعية يومية برزت بجلاء في الحياة الرواندية قبل نشوب الإبادة الجماعية عام 1994، إذ لعبت مليشيات انتراهاموي (الهوتو) دوراً في بث خطابات الكراهية اليومية ضد التوتسي تمهيداً للمذابح ضدهم. مع ذلك، فقد تظهر مقاومة يومية لتلك التهيئة الصراعية، عبر عدم الامتثال. فقد يتم تجاهل حظر التعامل مع عرقية منافسة من قبل البعض في التعاملات الاجتماعية لدوافع براجماتية (جماعة منافسة يعمل لديها عمال من الطرف الآخر) أو دوافع إنسانية بسبب الإرث الاجتماعي والقيمي المشترك لعقود طويلة[19].

على العكس، قد تبرز مقاومة يومية لاتفاق تسوية أو أجواء السلام الرسمي، بما يجعل هنالك نمطاً من الصراع اليومي مع السلطة. فبرغم أنه يُنظر لرواندا، كنموذج للتعافي والمصالحة في مرحلة ما بعد الإبادة الجماعية، مع ذلك برزت فيها مقاومة يومية لفئات من الفلاحين في جنوب البلاد الذين يشعرون أنهم لم يجنون ثمار تلك المصالحة التي يتم فرضها من قبل السلطة على نحو يعقد حياتهم اليومية. ورصدت إحدى الدراسات الميدانية أشكالاً هادئة لتلك المقاومة اليومية مثل، التجنب أو الصمت أو الامتثال الشكلي لحضور المناسبات المحلية للمصالحة مع السخرية منها[20].

2- السلام اليومي: يشير إلى الخطابات والممارسات اليومية في مناطق النزاع التي تقلل من آثار العنف المباشر والهيكلي والثقافي، وتعزز العلاقات السلمية في المجتمعات. يتطلب هذا النمط من السلام إظهار روح التضامن والكياسة في الأقوال والأفعال بين المواطنين المنتمين لأطراف النزاع في التفاعلات اليومية بما يبعث رسائل الود للطرف الآخر[21].

على خلاف السلام الكبير، الذي يعتمد على المؤسسات والحركات السياسية والعسكرية، يرى ماك جينتي أن السلام اليومي (الصغير) يركز على تفاعلات الأسرة وشبكات الصداقة وزملاء الدراسة والجيران، ويضرب أمثلة لذلك بأن تكون هنالك كياسة ولطف في الخطاب بين صاحب متجر مسلم ومتسوق مسيحي في شمال نيجيريا أو أن مسلماً بوسنياً يوظف كرواتياً في عمله الخاص. بالتالي، فموارد هذا السلام الصغير قد تكون الخطابات الإقناعية والسلوكيات التعاونية التي ينتهجها الأفراد في حياتهم اليومية[22].

ينظر ريتشموند لأعمال التضامن اليومي (كعلاج جرحى مثلاً من طرف منافس) على أنها تنحي الخلافات وتقوض السرديات الرسمية لشيطنة الآخر، ومن ثم تخلق سردية سلام يومية، فيما يعتبر ماك جينتي ذلك التضامن مدخلاً لـ"تعطيل الصراع"، لأنه إذ كان ذلك الصراع معقداً ويصعب تسويته بسبب طبيعة هياكل السلطة والاقتصاد السياسي والهويات والتدخلات الخارجية، فيمكن تخفيف وطأته عبر خفض التوترات اليومية، مما قد يمهد إلى تحويل الصراع عبر دبلوماسية يومية (تقودها مجموعات من الجيران والأصدقاء وغيرها) للمصالحات وبناء السلام. على سبيل المثال، أسهمت ممارسات السلام اليومي في كمبوديا في توفير بيئة للمصالحة مع الأعضاء السابقين في حركة الخمير الحمر عبر استيعابهم في المناسبات الاجتماعية، وفعاليات إحياء الذكرى واستعادة العلاقات الأسرية وغيرها[23].

في هذا الإطار، طرحت بعض الدراسات الميدانية أشكالاً من الممارسات الاجتماعية للسلام اليومي، مثل، تجنب الموضوعات المثيرة للجدل في الأحاديث اليومية، الميل أكثر للموضوعات المشتركة، تجنب الكشف عن المعتقدات أو إظهار الهوية للدلالة على مجموعتك العرقية كي لا تثير حفيظة الآخر، ممارسة اللطف الإنساني والقيم الأخلاقية عبر اختيار اللغة والمفردات في الخطاب اليومي إزاء الآخر، بحيث لا تنطوي على وصم أو إهانة، إلقاء اللوم على الآخرين داخل مجموعتك أو على الغرباء في إشعال الصراع، بحيث يتم نقل رسالة أنهم متطرفون، وأنك لا تتبنى توجهاتهم.

كما طور كل من بامينا فيرشو وماك جينتي منهجية لبناء مؤشرات السلام اليومي (EPI) تعتمد على أن الناس العاديين في المجتمعات المحلية يضعون بأنفسهم مؤشرات السلام لكونهم أكثر معرفة بها بدلاً من الخبراء والأكاديميين الذي قد يملون عليهم مؤشرات لا تتلائم مع سياقاتهم الثقافية والمجتمعية. تعتمد هذه المنهجية على تشكيل مجموعات تركيز (Focus Group) من أطياف مختلفة من السكان المحليين لمعرفة ماذا يعني السلام لهم؟. على سبيل المثال، ينظر بعض السكان المحليين في بعض مناطق أفغانستان إلى السلام على أنه مجرد ذهاب الفتيات إلى المدارس وعودتهن دون إيذاء، خاصة مع القيود التي تفرضها حركة طالبان[24]. وتجادل فيرشو بأن تحديد المحليين لمؤشرات السلام، يجعل هنالك مقاسات مختلفة لنماذج السلام في كل منطقة نزاع، وليس مقاساً واحداً كمنطق السلام الليبرالي[25].

استجابة لهذا النهج غير التقليدي، لجأت المنظمات غير الحكومية إلى دمج السلام اليومي ضمن أنشطتها لبناء السلام، عبر التوعية بممارساته الاجتماعية في مناطق النزاعات كما الحال بين مجتمعات الروهينجا وراخين في ميانمار بعد التطهير العرقي الأخير، بغية تحسين العلاقات بين الأفراد في هذا البلد [26]. التجربة ذاتها أقدمت عليها منظمات غير حكومية في أوغندا بسبب التوترات بين المسيحيين والمسلمين من خلال تنظيم حوارات ومنتديات للترفيه المشترك وغيرها، مع ربط الممارسات الاجتماعية للسلام اليومي بالنصوص الدينية في التعامل مع الآخر لتخفيف حدة العداءات الاجتماعية[27].

محددات وإشكاليات.. هل السلام اليومي "مسكن" للصراع؟

ثمة محددات أساسية قد تسهم في بروز أو غلبة أي من الصراع أو السلام اليومي في مناطق النزاعات المسلحة. فمن جهة، تلعب السيولة الهوياتية دوراً في تأجيج أو تهدئة التوترات اليومية، أي مدى انعكاس التقسيمات الفوقية الهوياتية بين أطراف الصراع على العلاقات بين الأفراد في المجتمع، فإذا كان ذلك الانعكاس شديداً وممتداً تصبح فرص الصراع أكبر السلام اليومي والعكس صحيح. فالهويات التي توظفها أطراف النزاع لتكريس سرديات الصراع مع الآخر قد يتمترس خلفها الناس العاديون ويتمثلونها في تعاملاتهم اليومية، أو العكس قد يرفضونها مما يؤدي إلى بروز هويات متقاطعة كأساس للتضامن اليومي.

 من جهة ثانية، قد تبعث حدود التجانس من عدمه داخل أطراف النزاع بإشارات لزيادة الصراع أو السلام بين الأفراد العاديين، فقد يحوي كل طرف من المتنازعين مجموعات متشددة قد ترفض الآخر كلياً، وأخرى معتدلة براجماتية قد لا تمانع في التفاوض معه. وكلما كان المتشددون يهيمنون على الخطاب السياسي العام وتوازنات القوى في الصراع، انتقل ذلك إلى الحياة اليومية والعكس.

من جهة ثالثة، قد تؤثر طبيعة السياقات المكانية على فرص السلام والصراع اليومي، فعندما تعيش مجموعات سكانية متنافسة في منطقة واحدة، فإن بروز توترات أو علاقات سلمية بينها يعتمد على درجات الاعتماد اليومي المتبادل ومدى تجذر الإرث المشترك. قد يفسر هذا الأمر أحياناً وجود نقاط جغرافية هادئة أو أخرى مشتعلة في مناطق الصراعات المسلحة.

من جهة رابعة، قد يمثل العامل الجيلي أهمية في توجيه التفاعلات اليومية نحو السلام أو الصراع، فغلبة الشباب على الهيكل الديمغرافي لمجتمع النزاع كما في أفريقيا والشرق الأوسط قد يعزز احتمالية التوترات اليومية بفعل عوامل الغضب والاندفاع وضعف الخبرة في إدارة العلاقة مع الآخرين. كما قد يسهم وجود شريحة من كبار السن لديها تقدير اجتماعي في مناطق النزاعات في لعب أدوار التعبئة للمصالحة اليومية وتسهيل التواصل الاجتماعي، وحشد المناسبات الاجتماعية التي يتلاقى فيها أفراد من جماعات مختلفة.

من جهة خامسة وأخيرة، يلعب رأس المال الرمزي – كما يطرحه بورديو- دوراً أساسياً في الصراع والسلام اليومي، ويعني تحول الأشكال الأخرى لرأس المال الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والمعرفي إلى شرعية ومكانة لطرف على حساب الآخر، على نحو يبرز في بناء أشكال من القوة والامتيازات لمجموعة من الأفراد الذين ينتمون إلى طائفة أو عرقية أو قبيلة بعينها. فتشعر تلك المجموعة بأن لها أولوية عن غيرها في الحياة اليومية. يعني ذلك أن الأفراد قد لا يكونون متساوين في تبادلات الحياة اليومية، حيث يتخللها تسلسلات هرمية أو طبقية، فثمة أفراد مسيطرون على غيرهم، بحكم امتلاك الثروة أو المكانة الدينية أو الاجتماعية أو المعرفية أو الهوياتية، وقد يمارس أولئك الأفراد تأثيراً في تأجيج الصراع أو تحفيز السلام اليومي. اتخذت إحدى الدراسات الميدانية من هذا المنظور مدخلاً لفهم التفاعلات اليومية بين العرب والأكراد والتركمان في مدينة كركوك بالعراق، ووجدت أن منطق الامتياز ذلك قد يلعب دوراً في تأجيج الصراع اليومي، لاسيما أنه قد يحفز من لا يملكونه على تقويضه عبر العنف الرمزي[28].

على الجانب الآخر، تثير المقاربة اليومية للسلام والصراع إشكاليات من قبيل أن مؤشرات السلام اليومي، كاللطف والكياسة والتعاطف في الخطاب والممارسات الاجتماعية ليست شرطاً أن تكون دوافعها الإيمان بفكرة السلام بقدر ما يقودها البراجماتية أو الخوف أو التقية الاجتماعية (وجود نص وسلوك ظاهر، وآخر خفي) لتجنب الإيذاء، كما تفعل أحياناً بعض الأقليات المقهورة في مناطق الأغلبية في بعض مجتمعات الشرق الأوسط. بالتالي، فالسلام اليومي قد يعكس أحياناً علاقات القوة غير المتكافئة بين الأفراد أنفسهم، فتلاحظ مثلا الدراسة المشار لها حول كركوك أن رأس المال الرمزي قد يمثل مدخلاً لفرض التسويات اليومية بين الأفراد عبر القوة والهيمنة أكثر من كونه يعبر عن وكالة حرة وتضامنية مع الآخرين، لذلك قد يعمق السلام اليومي أحياناً أوجه عدم المساواة في المجتمعات[29].

من هنا، يحذر البعض من أن اللجوء إلى السلام اليومي قد يمثل نوعاً من "تسكين الصراع"، دون حل المشكلات الجذرية، كعدم المساواة العميقة، مما يجعله مدخلاً لإدامة الظلم وعدم العدالة، وهو ما وجدته دراسات ميدانية حول نهج السلام اليومي بين مجتمعات الروهينجا وراخين في ميانمار، والذي حسّن بالفعل العلاقات التعاونية بين الأفراد يومياً، دون أن يسهم في بناء سلام كبير يحل المعضلات الهيكلية[30].

في الأخير، لا تمنع تلك الإشكاليات من القول إن المقاربة اليومية لظاهرة الصراعات تعبر عن استدعاء صوت الناس العاديين، إذ تحتاج المجتمعات التي تعاني صراعات مسلحة أو خرجت منها إلى بناء علاقات سلمية يومية، وهي قد تكون خطوة جزئية، لكن إذا ما انتشرت وتراكمت فقد تمهد للانتقال لمستويات أعلى من المصالحة والسلام المستدام. مع ذلك، فإن السلام اليومي -على أهميته - لا يعفي من أهمية التسويات السياسية للصراعات وحل مشكلاتها الهيكلية عبر اتفاقات عادلة تعبر عن مختلف مصالح وفئات المجتمع.


[1] لتفاصيل أوسع أنظر الإطار النظري لـد. أحمد زايد، خطاب الحياة اليومية في المجتمع المصري، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2017 ، ص ص 46- 53.

[2] أنظر ذلك في : ميشيل مافيزولي، عصر القبائل، الفرد يتراجع والحشد يتقدم، ترجمة عبد الله زارو، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1988.

[3] Luke Yates, How everyday life matters: everyday politics, everyday consumption and social, Volume 1: Issue 1, Bristol University Press, 2022 https://bristoluniversitypressdigital.com/view/journals/consoc/1/1/article-p144.xml

[4] د. أحمد زايد، م. س. ذ ، ص 67، أيضاً أنظر عرض لمختلف المفاهيم حول الحياة اليومية في: مارية القمص متياس نصيف ابراهيم، علم الاجتماع ودراسة الحياة اليومية، مجلة كلية الاداب، جامعة بني سويف، ع 59، إبريل- يونيو 2021 https://jfabsu.journals.ekb.eg/article_171194_79798094bd020545e6333aaf0d6888d0.pdf

[5] Matthew Flinder and Matthew Wood, Nexus politics: conceptualizing everyday political engagement. Democratic Theory, 5 (2). 2018,  https://doi.org/10.3167/dt.2018.050205

[6] Stellan Vinthagen and Anna Johansson, Dimensions of Everyday Resistance: An Analytical Framework,Critical Sociology, 42(3),2014

https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/0896920514524604

[7] Jan Busse, Everyday life in the face of conflict: Sumud as a spatial quotidian practice in Palestine, Journal of International Relations and Development  volume 25, 2022 pp583–607 https://link.springer.com/article/10.1057/s41268-022-00255-1

[8] Luke Yates, Op.cit, the same link.

[9] انظر في ذلك: أصف بيات، الحياة سياسية: كيف يغير بسطاء الناس في الشرق الأوسط، ترجمة أحمد زايد، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2014.

[10]  د. خالد حنفي علي، د.رانيا خفاجة، محمد بسيوني ( تحرير)، الصراعات المستعصية.. لماذا يتعثر السلام في الشرق الأوسط؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 2021.

[11] Landon E. Hancock Agency & peacebuilding: the promise of local zones of peace ,Peacebuilding, Volume 5, 2017 - Issue 3 Nov 2016

https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/21647259.2016.1253604

[12] Jan Busse, op.cit .the same link.

[13] Kazi Fahmida Farzana, Everyday Life in Refugee Camps ,Memories of Burmese Rohingya Refugees ,August 2017 https://link.springer.com/chapter/10.1057/978-1-137-58360-4_5#Sec17

[14] Monica Carrer ,An Everyday Approach to Conflict and Peace, Part of the Rethinking Peace and Conflict Studies book series (RCS), 2022

https://link.springer.com/chapter/10.1007/978-3-031-11342-0_4

[15] Roundtable: Everyday Peace in conflict-affected societies in Lebanon, Syria, and Georgia 24.5.2023 https://research.tuni.fi/tapri/news/roundtable-everyday-peace-in-conflict-affected-societies-in-lebanon-syria-and-georgia/

[16] Patrick Cockburn Life under Isis: The everyday reality of living in the Islamic 'Caliphate' with its 7th Century laws, very modern methods and merciless violence Inside the 'Islamic State' ,independent,15 March 2015

https://www.independent.co.uk/news/world/middle-east/life-under-isis-the-everyday-reality-of-living-in-the-islamic-caliphate-with-its-7th-century-laws-very-modern-methods-and-merciless-violence-10109655.html

[17] Séverine Autesserre. “Introduction.” Introduction. In Peaceland: Conflict Resolution and the Everyday Politics of International Intervention, Problems of International Politics. Cambridge: Cambridge University Press, 2014, pp1–19.

[18] Dylan O’Driscoll , Everyday peace and conflict: (un)privileged interactions in Kirkuk, Iraq , Third World Quarterly Volume 42, Issue 10, 2021  https://doi.org/10.1080/01436597.2021.1925104

[19] ibid

[20] Susan Thomson, Whispering truth to power: The everyday resistance of Rwandan peasants to post-genocide reconciliation, African Affairs, Volume 110, Issue 440, July 2011, Pages 439–456, https://doi.org/10.1093/afraf/adr021

[21] Pamina Firchow,, and Roger Mac Ginty, “Measuring Peace: Comparability, Commensurability, and Complementarity Using Bottom-Up Indicators.” International Studies Review 19 (1): 2017, https://doi.org/10.1093/isr/vix001

[22] Roger Mac Ginty, Everyday Peace, The Palgrave Encyclopedia of Peace and Conflict Studies, Palgrave Macmillan, October 2021 https://link.springer.com/referenceworkentry/10.1007/978-3-030-11795-5_77-1

[23] SungYong Lee , Everyday Reconciliation in Post-Khmer Rouge Cambodia Conclusion: Unpacking the Nature of Everyday Peace , Part of the Rethinking Political Violence book series (RPV), Palgrave Macmillan October 2022. https://link.springer.com/chapter/10.1007/978-3-031-13987-1_8

[24] Yvette Selim, Everyday Peace Indicators: A way to measure and build peace, 28 March, 2022  https://rethinkingsecurity.org.uk/2022/03/28/everyday-peace-indicators/

[25] Pamina Firchow, Reclaiming Everyday Peace: Local Voices in Measurement and Evaluation after War. Cambridge: Cambridge University Press, 2018.

[26] Anthony Ware, Vicki-Ann Ware &Leanne M. Kelly :Strengthening everyday peace formation after ethnic cleansing: operationalising a framework in Myanmar’s Rohingya conflict, Third World Quarterly  Volume 43, 2022 https://doi.org/10.1080/01436597.2021.2022469

[27]  Patrick Karanja Mbugua , Re-building Muslim-Christian Relations and Everyday Peace in West Nile, Uganda The Palgrave Handbook of Religion, Peacebuilding, and Development in Africa  2023 https://link.springer.com/chapter/10.1007/978-3-031-36829-5_34

[28] Dylan O’Driscoll op.cit.the same link

[29] ibid.

[30] Anthony Ware, Vicki-Ann Ware &Leanne M. Kelly ,op.cit. the same link, Anthony Ware &Vicki-Ann Ware, Everyday peace: rethinking typologies of social practice and local agency, Peace building Volume 10, 2022 https://doi.org/10.1080/21647259.2021.1997387