تزايد اهتمام الكثير من الأدبيات بحالة الصراع والعنف في غرب أفريقيا، التي تعتبر بلا منازع أكثر منطقة موبوءة بالصراع والعنف المسلح وعدم الاستقرار في العالم، من حيث عدد الوفيات الناتج عن الصراعات المسلحة، التي تتنوع أشكالها ما بين الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والإرهاب العابر للحدود وغيرها. تجعل هذه الصراعات من غرب أفريقيا منطقة غارقة في الفوضى والاضطرابات، يسودها عنف بالغ الوحشية والقسوة، يعصف بالكثير من أجزائها، ويتخطى الحدود السياسية للدول، ويقوض البعض منها، ويدمر مدنها، ويخرب اقتصاداتها، ويقتل أعدادًا لا حصر لها من البشر، وترتكب فيه أبشع الانتهاكات لكل الحقوق الإنسانية، ويؤدي إلى تدفقات هائلة من اللاجئين والنازحين، وينشر الفقر والبطالة والجوع والأوبئة، ويعزز الاستبداد والفساد في أغلب دول المنطقة.

في هذا السياق، تهتم الكثير من الأدبيات بالجذور العميقة للصراع والعنف في غرب أفريقيا، وتركز على النهب الاستعماري الأوروبي لأفريقيا والاستعمار الجديد والانقسامات الإثنية والفقر والتخلف والخلل في العلاقات المدنية العسكرية والتداخل بين أشكال الصراعات. وقد بدأت صراعات المنطقة بحروب التحرير ضد الاستعمار الأوروبي، التي كانت محدودة من حيث العدد، ثم الحروب الأهلية، التي بدأت في المنطقة عقب سنوات قليلة بعد الاستقلال، ثم تصاعدت بعد انتهاء الحرب الباردة، ثم الانقلابات العسكرية، التي تعتبر بمثابة الشكل الأكثر انتشارًا وتكرارًا بلا منازع من أشكال الصراع والعنف المسلح، ولم تفلت منها إلا دول قليلة للغاية في المنطقة، ثم الإرهاب العابر للحدود، الذي يعتبر الشكل الأشد عنفًا والأكثر خطورة والأوسع انتشارًا مقارنة ببقية الأشكال، وباتت غرب أفريقيا المركز العالمي للإرهاب، كما تشهد المنطقة تهديدات وأزمات أخرى خطيرة، أبرزها انعدام الأمن الغذائي، وانتشار القرصنة، والتغير المناخي.

وقد استحوذت منطقة غرب أفريقيا، في الآونة الأخيرة، على صدارة الاهتمامات العالمية، مع العودة القوية لظاهرة الانقلابات العسكرية في بعض دولها، سواء النيجر (في 26 يوليو 2023)، ثم الجابون (في 30 أغسطس 2023)، كما سبقتهما انقلابات ناجحة في كل من بوركينا فاسو وغينيا ومالي خلال السنوات القليلة الماضية، مما يعكس حالة من التعثر الشديد لعملية التحول الديمقراطي فيها، وكانت المنطقة على حافة تصعيد عسكري شديد، مع تهديد الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (الإيكواس) بقيادة نيجيريا بالتدخل العسكري لإعادة الحكم المدني في النيجر، وهو ما رفضه قادة الانقلاب فيها، وتضامنت معهم عدة دول في المنطقة، مما كان يهدد بأن هذا التدخل ربما يتحول -حال حدوثه- إلى حرب إقليمية واسعة.

وعلى الرغم من أن غرب أفريقيا تعاني تقليديًا من كثافة التدخلات الخارجية فيها، إلا أن السنوات القليلة الماضية شهدت المزيد منها في إطار الحرب على الإرهاب، كما كان اللافت أن المنطقة شهدت تصاعد مشاعر العداء لفرنسا في العديد من دول غرب أفريقيا، وهو ما يعود إلى تراكمات عديدة، أبرزها استمرار الاستغلال الفرنسي الفج لموارد معظم هذه الدول، لا سيما النيجر، واستياء معظم شعوب غرب أفريقيا من المواقف العنصرية الفرنسية ضدهم، وتبني فرنسا سياسة تعسفية ضد طالبي الهجرة الأفارقة وإجراءاتها المعادية للإسلام بذريعة العلمانية. إلا أن ما أدى إلى انفجار مشاعر العداء ضد فرنسا بشكل غير مسبوق يتمثل في ازدياد التدخلات الفرنسية الفجة في الشئون الداخلية للدول الأفريقية، لا سيما التي شهدت انقلابات عسكرية، حيث تستمر باريس في فرض إملاءاتها عليها، وهو ما أجج حالة العداء ضدها في أغلب دول المنطقة.

ربما يكون الدور الأمريكي محوريا، خلال الفترة القادمة، في منع وإدارة وحل الصراعات في غرب أفريقيا، حيث أدت الانقلابات الأخيرة وتنامي المشاعر المعادية لفرنسا في أغلب دول غرب أفريقيا إلى تراجع مصلحة الأوروبيين فيها، لا سيما فرنسا، وبدء سحب قواتهم منها، فيما تمتنع الولايات المتحدة عن القيام بدور رئيسي فيها، ليس فقط لأنها ليست أولوية بالنسبة لها، بل الأهم لأنها ترى منذ وقت طويل أن غرب أفريقيا يعتبر أولوية استراتيجية فرنسية وأوروبية. إلا أن الولايات المتحدة يمكن أن تحول غيابها السياسي النسبي في الإقليم إلى ميزة فعالة، وهي تملك بالفعل رؤية متكاملة لحل هذه الصراعات، عَّبر عنها كبار مسئوليها في مناسبات عدة، فضلًا عن امتلاكها موارد هائلة يمكن أن تضخها لإنفاذ أي تدابير يتم الاتفاق عليها، كما أنها ليست موصومة بماض استعماري مرير على غرار الأوروبيين، مما يمنحها فرصة للعب دور وتحقيق اختراقات مهمة في هذه المنطقة، وهو أمر مشروط بأن يقتنع صناع القرار في البيت الأبيض والكونجرس بأهمية هذا الدور، ولو في إطار الحرب الأمريكية على الإرهاب.

هذا الدور الأمريكي، المدعوم أوروبيًا ودوليًا وأفريقيًا، ربما يعوض عجز الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) عن منع وإدارة وحل هذه الصراعات، بسبب انقساماتها الداخلية الحادة التي تبرز عند اتخاذ قرارات بالتدخل في دولة عضو، على غرار ما يحدث حاليًا في حالة النيجر، ما يهدد بتفكك هذه الجماعة، فضلًا عن اضطرارها للاعتماد بشكل متكرر على التمويل والدعم من جهات خارج أفريقيا، ويؤدي بالتالي إلى إضعاف دور الجماعة وفقدان استقلاليتها في حل النزاعات في إقليمها.

إن منع وإدارة وحل الصراعات في غرب أفريقيا ليس بالإمكان إلا إذا تضافرت الجهود الأممية والدولية والقارية والإقليمية والمحلية للوصول إلى رؤية مشتركة بشأنها، وبذل الجهد اللازم لإنفاذ هذه الرؤية على مدى زمني طويل، وهو ما قد يمثل مشكلة شاقة في ظل تناقضات المصالح بين الأطراف المعنية، ما يتطلب من القوى المحلية والإقليمية أن تركز على الأولويات العاجلة، لا سيما مكافحة العنف الجهادي العابر للحدود، والبدء ببعض التدابير المهمة القصيرة الأمد التي من شأنها إحداث تحسن تدريجي في حالة الأمن في الإقليم، بحيث يمكن البناء عليه لاحقًا، مع مراعاة أن التداخل الشديد بين صراعات المنطقة يتطلب حلها بشكل مشترك ومتزامن من خلال عمل جماعي متعدد الأطراف، حيث إن حسم أي صراع في دولة ما في غرب أفريقيا لا يمكن أن يتم دون حسمه في بقية دول المنطقة.