سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

مع نجاح الوساطة المصرية، بمشاركة كل من الولايات المتحدة وقطر، في تطبيق اتفاقية تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس في 24 نوفمبر الجاري (2023)، ومع الإعلان عن تمديد الاتفاقية ليومين قادمين، وربما لأربعة أيام، تثار عدة تساؤلات رئيسية:

1- هل تنجح خطة تجزئة عملية تبادل الأسرى في إنهاء الملف بأكمله بعودة كل الأسرى الإسرائيليين مقابل الإفراج عن كافة المسجونين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية؟

2- كيف ستؤثر عملية تبادل الأسرى على مسار الحرب الدائرة في قطاع غزة؟

3- هل ثمة إمكانية حقيقية لأن يؤدي تصفية ملف الأسرى إلى وقف إطلاق النار في غزة، تمهيداً لانسحاب القوات الإسرائيلية من هناك؟

4- هل يتمكن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من البقاء في منصبه عقب تصفية ملف الأسرى؟

للإجابة على تلك التساؤلات من الضروري الإقرار بداية بأن الحكومة الإسرائيلية ظلت منذ الأيام الأولى لعملية الاجتياح البري لغزة تردد أن هدفها الأول هو إسقاط حكم حماس، وأنها لن تقبل بعملية تبادل الأسرى مع حماس، كون الأخيرة- حسب وصف نتنياهو- "منظمة إرهابية"، ولا يمكن لإسرائيل، وله هو شخصياً، القبول بعملية غير متكافئة أخلاقياً بمقتضاها تفرج دولة معترف بها دولياً عن سجناء فلسطينيين أدينوا بجرائم قتل وإرهاب وينتمون لتنظيم تصنفه العديد من دول العالم على أنه تنظيم إرهابي، مقابل تحرير رهائن مدنيين إسرائيليين، تم اختطافهم من منازلهم".

بعد أقل من أسبوعين من بداية الغزو البري، بدا أن نتنياهو قد اضطر للتراجع عن موقفه السابق تحت ضغوط من عائلات الأسرى أو المخطوفين الإسرائيليين، وتحت ضغوط مكثفة من جانب الولايات المتحدة والرأي العام العالمي. هذا التراجع هو ما قاد إلى طرح التساؤلات الأربعة سالفة الذكر، والتي سنحاول البحث عن إجابات لها.

تعقيدات غير منظورة في ملف الأسرى

تُجرى عملية تبادل المحتجزين الإسرائيليين والفلسطينيين في ظل فوضى مصطلحات لها مضامين قانونية لا يعترف بها الطرفان. الجانب الإسرائيلي يستخدم تعبير "المختطفين" لوصف مواطنيه الذين تحتجزهم حماس والمنظمات الفلسطينية الأخرى، بينما تراهم حماس "أسرى حرب". كما تستخدم إسرائيل تعبير "السجناء الفلسطينيين" لوصف الفلسطينيين القابعين في سجونها سواء كانوا مدانين ويقضون عقوبات جنائية، أو كانوا معتقلين لأسباب أمنية ولم تتم محاكمتهم، وبالتالى هم ليسوا أسرى حرب كما تصفهم حماس.

ترتب على اختلاف نظرة كل من إسرائيل وحماس إلى المحتجزين على الجانبين خروج عملية تبادل المحتجزين من الأطر القانونية الدولية التي تنظم حقوق أسرى الحروب، لتصبح عملياً لعبة ممارسة القوة بين طرفين لا يعترف أي منهما بحقوق قانونية للطرف الآخر. وبناءً على هذا الوضع، يمكن توقع أنه بعد تصفية ملف المحتجزين من النساء والأطفال على الجانبين، ستغدو مسألة تبادل المتبقي لدى الجانبين من محتجزين غاية في الصعوبة، حيث سيبقى لدى حماس والمنظمات الفلسطينية الأخرى قرابة 125 إسرائيلياً مصنفين على أنهم عسكريون أو أمنيون تم القبض عليهم من مواقع عسكرية إسرائيلية خلال هجوم 7 أكتوبر، وأن وضعهم وطريقة تبادلهم يجب أن تختلف عن الأسلوب الذي تم من خلاله إدارة ملف الأسرى المدنيين. وتسعى حماس إلى مبادلة هؤلاء بكافة السجناء الفلسطينيين في إسرائيل وعددهم يزيد على 6 آلاف شخص (يٌعتقد أن العدد أصبح أكبر مع استمرار إسرائيل في اعتقال المئات من الفلسطينيين في الضفة الغربية بشكل يومي منذ بدء الحرب الأخيرة).

على الجانب الإسرائيلي، هناك اعتراضات قوية من قبل بعض وزراء حكومة نتنياهو على الإفراج عن الفلسطينيين المدانين بجرائم قتل، أو هؤلاء الذين تصنفهم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على أنهم عناصر خطرة، حيث سيشكل الإفراج عنهم، وفقاً لرؤيتهم، خطراً أمنياً داهماً على إسرائيل مستقبلاً.

في كل الأحوال، لن يترتب على هذا الوضع صعوبات كبيرة في تصفية ملف المحتجزين على الجانبين وفقط، بل يمكن توقع نشوب أزمات داخل الحكومة الإسرائيلية على خلفيته، إلى حد احتمال انسحاب بعض الأحزاب من الائتلاف الذي يقوده نتنياهو، وهو ما يهدد به حزبا الصهيونية الدينية وعوتسماه يهوديت، الأمر الذي يمكن أن يسفر عن سقوط الحكومة عملياً، ويصبح لزاماً على الكنيست إما الدعوة لتشكيل حكومة جديدة من دون الدعوة لاجراء انتخابات عامة، أو الاضطرار لحل الكنيست وتحديد موعد لإجراء الانتخابات القادمة.

أيضاً، يمكن أن يؤدي الفشل في تصفية ملف تبادل المحتجزين إلى توتر في علاقة حماس وإسرائيل  بالجهات التي تتوسط في هذه العملية وعلى رأسها مصر والولايات المتحدة، وهو ما لا تريده حماس وإسرائيل على الأقل طالما لم يتم إنهاء هذا الملف بشكل كامل.    

تغير محتمل في مسار الحرب

سواء توقفت عملية تبادل المحتجزين على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني بعد الإفراج عن النساء والأطفال، أو استمرت وصولاً لتبادل كافة السجناء الفلسطينيين مع ما تبقى لإسرائيل من محتجزين لهم صفة أمنية أو عسكرية، فإن الحرب بين الطرفين يمكن أن تأخذ مساراً أكثر عنفاً.

من جهة، ما يزال نتنياهو وأركان أجهزته الأمنية والعسكرية يعتقدون أن تشديد الهجمات ضد حماس هو الذى سيدفعها إلى الإفراج عن كافة المحتجزين لديها حتى من الجنود الإسرائيليين. ومن جهة ثانية، إذا ما مضت عملية تبادل المحتجزين ووصلت إلى نهايتها بتصفية السجون الإسرائيلية من كافة المحتجزين فيها من الفلسطينيين كما تطالب حماس، مقابل عودة كافة المحتجزين المتبقين من الإسرائيليين لدى حماس، فإن تشديد الهجمات الإسرائيلية ضد حماس سيغدو أمراً متوقعاً، في ظل الهدف المعلن لنتنياهو وهو القضاء على حركة حماس وتصفية وجودها العسكري في القطاع، وسيكون الأمر أكثر سهولة بالنسبة له بعد تحرره من الضغوط الداخلية التي كانت تطالبه باستعادة المحتجزين حتى لو اقتضى الأمر القبول بوقف إطلاق النار.

وتكمن خطورة استمرار الحرب وتصعيد المواجهات بين حماس وإسرائيل في زيادة أعداد الضحايا من الفلسطينيين المحاصرين في مساحة لا تزيد عن نصف مساحة قطاع غزة. كما يمكن أن يتسبب هذا التصعيد في دفع مئات الآلاف من الفلسطينيين نحو الحدود المصرية، وهو ما ستعتبره مصر تجاوزاً للخط الأحمر الذي وضعته منذ بداية الحرب، بما يهدد معاهدة السلام الموقعة مع إسرائيل، على نحو لا تريده الأخيرة، ولا توافق عليه الولايات المتحدة الضامنة للمعاهدة ولأمن إسرائيل والحريصة أيضاً على الحفاظ على علاقاتها بمصر.

في مثل هذا الوضع، قد تتوقف إسرائيل عن التصعيد، فيما تصر على إبقاء قواتها في شمال غزة، وعلى منع عودة السكان المهجرين إلى منازلهم في شمال القطاع حتى يتم إخراج مقاتلي حماس من القطاع باتفاق دولي وإقليمي على أقل تقدير.

مستقبل نتنياهو بعد تصفية ملف المحتجزين

يبدو أن المستقبل السياسي لنتنياهو قد انتهى عملياً حتى لو تم تصفية ملف المحتجزين، على عكس ما يعتقده نتنياهو نفسه، الذي تشير التقارير الإعلامية الإسرائيلية إلى أنه لا ينوي التخلي طواعية عن موقعه، وأنه يراهن على إمكانية تصفية الوجود السياسي والعسكري لحماس بعد الانتهاء من ملف المحتجزين، لاستعادة بعض من شعبيته التي تدهورت بشدة بسبب حرب غزة.

وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأى العام في إسرائيل تشير إلى أن نتنياهو لم يعد يحظى سوى بتأييد 28% لقيادة الحكومة في حالة إجراء انتخابات مبكرة، مقابل تمتع منافسه - رئيس حزب الوحدة الوطنية- بني جانتس بثقة 52% لنفس المنصب، وتشير أيضاً إلى أن ائتلاف اليمين الذي يقوده نتنياهو سيفقد أكثر من 23 مقعدا في حالة إجراء الانتخابات المبكرة، وسينخفض تمثيله في الكنيست من 64 مقعدا في الوقت الحالى إلى 41 مقعدا في الكنيست القادم، على الرغم من كل ذلك، لن يكون هذا هو المحك الذي سيحدد مصير نتنياهو.

فمن جانب، تتأثر استطلاعات الرأي عادة بالأزمات ولا يعبر من يشملهم الاستطلاع في مثل هذه الأوضاع عن موقف سياسي أو حزبي ثابت، بمعنى أن حدثاً ما يمكن أن يُظهر تبني جمهور واسع لتوجه معين بناءً على الوضع الضاغط للأزمة، ولكن الأمر يختلف عندما تمر تلك الأزمة، ويستعيد المواطنون الثوابت التي يؤسسون عليها مواقفهم الانتخابية والمتعلقة بالانتماءات الأيديولوجية والمصالح الاقتصادية والحياتية المباشرة.

ومن جانب آخر، من المتوقع أن يميل الجمهور الإسرائيلي لتأييد محاكمة نتنياهو على تقصيره هو وحكومته وفشلهم في التنبؤ بالهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل بغض النظر عن النتائج النهائية للحرب. كما من المتوقع أيضاً أن يفقد أغلب قادة الأجهزة الأمنية ووزير الدفاع يؤاف جالانت ورئيس الأركان هيرتسي هاليفي مناصبهم بسبب نفس التقصير خاصة فيما يتعلق بأداء الاستخبارات والجيش في المواجهات التي جرت مع مقاتلي حماس سواء أثناء هجوم 7 أكتوبر، أو بعد الاجتياح البري لغزة.

بمعنى أكثر وضوحاً، سيتعين على نتنياهو إما أن يقدم استقالته من رئاسة حزب الليكود ومن الحكومة، قبل أن يواجه الحرب التي بدأ منافسه بني جانتس في شنها ضده مبكراً، والمتمثلة في إعلان الأخير-الذي يشارك في حكومة الطوارئ الحالية برئاسة نتنياهو- أن حزبه لن يصوت لصالح تمرير الميزانية الحكومية التي قدمها نتنياهو، وفي حالة ما إذا تم التصويت في اجتماعات الحكومة على الميزانية وتم تمريرها، فإن حزبه سيدرس اتخاذ خطوات معينة (لم يحددها) رداً على ذلك، والمتوقع أن يكون هذا الإجراء هو إعلان جانتس انسحابه من تلك الحكومة على خلفية تمرير الميزانية دون موافقته.

أما الخيار الثاني لنتنياهو إذا لم يقدم استقالته، وإذا ما استطاع احتواء احتمال انسحاب جانتس من الائتلاف، فهو البقاء في منصبه محتمياً بجبهة الأحزاب اليمينية المشاركة معه في الائتلاف، ولكن حتى هذا الخيار لا تحكمه فقط القواعد القانونية لبقاء أو رحيل الحكومات في إسرائيل، حيث أن المجتمع الإسرائيلي لن يتوقف عن المطالبة برحيل نتنياهو وسيضغط نشطائه بقوة عقب الحرب لإجباره على الرحيل.

ومثلما لم تستطع رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة جولدا مائير البقاء في رئاسة الحكومة بعد فوز حزبها بالانتخابات التي أجريت في أعقاب تلقي إسرائيل هزيمة عسكرية قاسية على يد الجيش المصري بخمسة أشهر فقط (مارس 1974) بسبب المظاهرات العارمة التي طالبتها بالاستقالة على خلفية فشل إدارتها للحرب، فإن المجتمع الإسرائيلي المعبأ حالياً ضد نتنياهو سواء بسبب قضايا الفساد التي تطارده منذ سنوات، أو بسبب معركته التي أوقفتها الحرب مع حماس، والتي استهدفت إجراء تعديلات قضائية أغضبت جزءاً كبيراً من المجتمع الإسرائيلي، أو بسبب مسئوليته عن كارثة 7 أكتوبر … هذا المجتمع الذي لم يتسامح مع مائير منذ خمسين عاماً، لا يتوقع أن يبقى صامتاً أمام الكوارث التي ألحقها نتنياهو بالدولة على أكثر من صعيد.

خلاصة القول، إن الحرب الحالية في غزة قد تكون مشهد ما قبل النهاية لنتنياهو سياسياً، بغض النظر عن النجاح أو الفشل في استكمال ملف استعادة المحتجزين من غزة، وفي ملف إنهاء حكم حماس في غزة كما يعد نتنياهو.