طُرح الاعتماد المتنامي من قبل العديد من الفاعلين الدوليين، على الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة، باعتبارها إحدى الأدوات التي تُخدِّم على تحقيق السياسة الخارجية لهذه الدول، تساؤلات عديدة حول الموقع الذي باتت تشغله هذه الشركات في النظام الدولي الراهن، وطبيعة الأدوار التي باتت تلعبها، فضلًا عن التداعيات السلبية التي قد تترتب على الاعتماد على هذه الشركات، وما صاحب ذلك من تنامي التوجه نحو "خصخصة الأمن"، لا سيما أن هذه الشركات تتحول في بعض الأوقات إلى منازع للدولة في أهم خصائصها السياسية متمثلةً في احتكارها للعنف المادي، بما يجعلها في بعض الحالات تمثل تهديدًا وجوديًا للدولة الوطنية نفسها، جنبًا إلى جنب مع ما باتت تمثله من تهديد للأمن والسلم الدوليين.

وقد كان التمرد الذي قادته شركة "فاجنر" الروسية، في 24 يونيو 2023، نموذجًا واضحًا لما يمكن أن تسببه الشركات العسكرية والأمنية الخاصة من تهديدات للدولة الوطنية، لا سيما أن هذا التمرد لم يقتصر في مداه وتهديده المحتمل –آنذاك- على مجرد تهديد الداخل الروسي، بل امتد ليشمل المصالح الجيوسياسية الروسية، فضلًا عن طرحه تساؤلات مهمة حول طبيعة الأدوار التي تلعبها شركة "فاجنر" في خدمة أهداف السياسة الخارجية الروسية، وطبيعة الأسباب التي جعلت العلاقة بين الطرفين تصل إلى نقطة الانفجار.

تسعى هذه الدراسة إلى الإجابة عن تساؤلات بحثية رئيسية تتمثل في ماهية ومفهوم الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة، والخلفيات المحيطة بنشأتها، وطبيعة الأدوار التي باتت تلعبها في النظام الدولي، مع التركيز على حالة شركة "فاجنر" الروسية، التي باتت الرقم الأهم في معادلة الشركات العسكرية الخاصة في العالم، في ضوء تعدد المسارح الجيوسياسية التي تلعب فيها أدوارًا محورية، فضلًا عن قيادتها في 24 يونيو 2023 لتمرد ضد الدولة الروسية، بما مثَّل حالة مهمة يجب الوقوف عندها ورصدها كنمط من أنماط تهديد الشركات العسكرية والأمنية الخاصة للدولة الوطنية.

في محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات الرئيسية، ركزت الدراسة على أكثر من مستوى، أولها يركز على تسليط الضوء على الخلفيات المحيطة بنشأة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة. ويركز ثانيها على رصد بعض الاتجاهات الخاصة بتعريف هذه الشركات، والجدل القانوني بشأن وجودها من الأساس، وطبيعة الأسانيد التي تقف خلف هذه الاتجاهات، في ضوء وجود اختلافات كبيرة حول تعريف هذه الشركات، فضلًا عن الجدل بخصوص "مشروعيتها". ويرصد ثالثها بعض المؤشرات التي باتت تعكس ما تحظى به الشركات العسكرية والأمنية الخاصة من مستوى متقدم في المنظومة الدولية الحالية. ويتناول رابعها نموذج "فاجنر" مقابل خلفيات النشأة، وطبيعة الأدوار التي باتت تلعبها هذه الشركة في السياسة الخارجية الروسية، والمسارح الجغرافية التي تنشط فيها، فضلًا عن رصد المسببات التي أوصلت الشركة إلى تبني تمرد ضد الدولة الروسية.

وتنطلق الدراسة من رؤية لا تفصل بين الشركات العسكرية الخاصة والشركات الأمنية الخاصة. فعلى الرغم من وجود بعض الاتجاهات البحثية والأكاديمية التي تفصل بين الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، إلا أن الدراسة ترى أن الواقع العملي بات يعكس أنهما وجهان لعملة واحدة، إذ كشفت التفاعلات التي تقوم بها هذه الشركات عن أن الفصل بينهما بات أمرًا من الصعوبة بمكان،ولا يتجاوز حدود "التنظير"، فضلًا عن تبني الدراسة لتعريف إجرائي لهذه الشركات يرى أنها "كيانات هيكلية ومؤسسية وتجارية تقوم بالحصول على الأموال مركزًا على خدمات أمنية وعسكرية تقوم بتقديمها، وامتد نطاق عملها بحيث أصبح لا يقتصر على الدولة محل المنشأ".