عاد تنظيم داعش الإرهابي ليتصدر المشهد في الساحة السورية، وذلك في أعقاب الهجوم الكبير الذي نفذه في 8 نوفمبر الجاري (2023) عند مثلث الرقة- حمص- دير الزور، مما أدى إلى مقتل 34 عنصراً من القوات السورية، وهو العدد المرشح للازدياد في ضوء وجود حالات إصابة خطيرة.
وقد ارتبطت أهمية هذا الهجوم ببعض الاعتبارات الرئيسية، ومنها ضخامة الهجوم نفسه وكونه الأعنف لداعش سوريا منذ مطلع العام 2022، فضلاً عن التوقيت الذي يأتي فيه في ظل انشغال العالم والقوى المنخرطة في جهود مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط بحرب غزة وما صاحبها من تداعيات، الأمر الذي يُثير تخوفات مرتبطة باحتمالية توظيف التنظيم لهذا السياق من أجل استعادة نشاطه العملياتي في مناطق النفوذ التقليدية وخصوصاً سوريا والعراق.
الهجوم الأعنف في 2023
أعلن تنظيم داعش، في 10 نوفمبر، عن تبنيه للعملية الأخيرة التي استهدفت تمركزين للجيش الوطني السوري، وقوات الدفاع الوطني في مثلث الرقة – حمص – دير الزور، مشيراً في بيان نشرته وكالة أعماق التابعة للتنظيم إلى أنه "استهداف القوات السورية بالأسلحة المتوسطة والخفيفة"، وفي السياق نفسه، أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان بأن الهجوم الذي أودى بحياة 34 جندياً وإصابة آخرين، جاء في شكل هجمات متزامنة فجراً على نقاط تفتيش ومواقع عسكرية بين الرقة وحمص ودير الزور[1].
وقد سبق هذا الهجوم عملية أخرى كبيرة للتنظيم في أغسطس الماضي، حيث قُتل 23 جندي سوري عندما أعد مقاتلو تنظيم داعش كميناً للحافلة التي تقلهم في بادية الميادين بريف دير الزور الشرقي. وقد عبرت هذه المؤشرات عن تنامي ملحوظ ونوعي في عمليات تنظيم داعش سوريا في الفترات الأخيرة، مع تركز هذه العمليات في المناطق الجغرافية التي كانت تدخل في نطاق سيطرة التنظيم أثناء فترة "التمكين".
وعلى الرغم مما تعكسه كافة المؤشرات الميدانية، على مستوى تراجع معدلات النشاط العملياتي لتنظيم داعش، إلا أن العمليات النوعية الأخيرة للتنظيم تعكس بعض الدلالات المهمة، وهو ما يمكن قراءته على النحو التالي:
1- التركيز على العمليات النوعية: تكشف المؤشرات الراهنة عن تراجع المنحى العملياتي لتنظيم داعش في سوريا، وهو ما عكسته البيانات الصادرة عن التنظيم، أو تأكيدات القيادة المركزية الأمريكية في شهر أبريل الماضي، بتراجع معدل النشاط خلال الربع الأول من العام الجاري، إلا أن التنظيم في المقابل سعى إلى التركيز على نمط العمليات النوعية، بمعنى أن التنظيم بدأ في التركيز على العمليات ذات التكلفة المنخفضة التي تتم عبر أسلحة خفيفة ومتوسطة، بعدد أقل من الجنود، مع استهداف التمركزات التي تؤدي إلى خسائر كبيرة في صفوف الجهات المستهدفة.
2- التركيز على مناطق النفوذ القديمة: يجد المتابع لنشاط تنظيم داعش سوريا في الآونة الأخيرة أن هجمات التنظيم ركزت على مناطق النفوذ التقليدية، في إشارة إلى المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة التنظيم في فترات "التمكين"، ويعكس هذا المنحى العملياتي لداعش بعض الدلالات الرمزية، وكذا العملياتية.
فعلى المستوى الرمزي، يسعى التنظيم إلى توجيه رسائل بأنه لا يزال موجوداً وقادراً على تنفيذ عمليات في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرته. وعلى المستوى العملياتي، تحمل هذه العمليات دلالات مرتبطة بوجود بعض الجيوب والخلايا الداعشية الصغيرة التي تتمركز في هذه المناطق وتركز على تنفيذ عمليات نوعية.
3- استهداف مناطق رخوة أمنياً: تشهد مناطق البادية السورية والتي تبلغ مساحتها نحو 80 ألف كم وتشمل محافظات دير الزور، الرقة، حلب، حماة، حمص، ريف دمشق، والسويداء، بين الحين والآخر عمليات نوعية لبعض الخلايا الداعشية. ويبدو أن التركيز على هذه المنطقة يرتبط باعتبارين رئيسيين: الأول يتمثل في ما تتسم به هذه المناطق على مستوى كونها مناطق رخوة أمنياً، أما الاعتبار الآخر فيرتبط ببعض السياقات المحلية المرتبطة بالبادية السورية، خصوصاً ما يتعلق بتداخل نفوذ بعض القوى في هذه المناطق سواءً المجموعات الموالية للنظام السوري أو المجموعات الموالية لإيران وسوريا، الأمر الذي يترتب عليه بعض الإشكالات الأمنية. أيضاً تشهد هذه المناطق بشكل مستمر بعض الاحتجاجات وأزمات الحكم المحلي، وهي سياقات تمثل بيئة خصبة لنشاط المجموعات المسلحة والإرهابية وعلى رأسها داعش.
استغلال داعش لحرب غزة
جاءت العملية الأخيرة لتنظيم داعش بالتزامن مع تصاعد وتيرة الحرب الدائرة في قطاع غزة، وما تبعها من تداعيات على المستوى الإقليمي والدولي، الأمر الذي زاد من مساحة الارتباط بين هذه العملية وبين السياق الحالي في غزة، خصوصاً في ضوء ما وفرته الحرب في غزة من بعض الظروف والسياقات التي تدفع باتجاه تنامي أنشطة تنظيمات العنف والإرهاب في المنطقة، لاسيما مع دخول سوريا على خط التصعيد الراهن بشكل أو بآخر، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- توجه المليشيات الإيرانية نحو المناطق الحدودية: كانت المليشيات والمجموعات المسلحة الموالية لإيران في سوريا تلعب دوراً مهماً على مستوى تحجيم تحركات تنظيم داعش، ومع تصاعد وتيرة الحرب الدائرة حالياً في قطاع غزة، بدأت هذه المجموعات في إعادة التموضع في الجغرافيا السورية والتوجه نحو الحدود السورية مع لبنان أو هضبة الجولان، كجزء من توجه المليشيات الموالية لإيران في المنطقة نحو تبني نمط "التصعيد النسبي" مع إسرائيل.
وينتج هذا المتغير فراغاً كبيراً في بعض المناطق خصوصاً في البادية السورية، الأمر الذي سيحاول داعش استغلاله، ويزيد من قدرة عناصره على التحرك بحرية أكبر، وهو اعتبار يمكن في ضوءه فهم الارتفاع المحتمل في وتيرة العمليات الداعشية في سوريا، فضلاً عن العراق والذي يشهد أيضاً السيناريو نفسه.
2- انشغال القوات الدولية لمكافحة الإرهاب: شهدت الفترات الماضية وعلى وجه التحديد منذ بدء الحرب في غزة منذ 7 أكتوبر الماضي، تنامياً كبيراً على مستوى استهداف مجموعات مسلحة تدور في فلك إيران للقواعد العسكرية الأمريكية في سوريا وقوات مكافحة الإرهاب، وهو ما تجسد بشكل واضح في الاستهداف المتكرر لقاعدتي التنف والمالكية العسكريتين الأمريكيتين[2]. ويدفع هذا الاعتبار باتجاه تغير أولويات هذه القوات على مستويين: الأول، هو التركيز على صد الهجمات التي تنفذها بعض المجموعات الموالية لإيران على حساب ملف مكافحة الإرهاب ومواجهة تحركات تنظيم داعش. والثاني، هو تحرك هذه القوات لتنفيذ عمليات ضد مليشيات محسوبة على الحرس الثوري، الأمر الذي يفرض فوضى أمنية يستفيد منها تنظيم داعش بشكل رئيسي.
3- تنامي نشاط "الذئاب المنفردة": دفعت الحرب في غزة، وما شهدته من دعم عربي مفتوح وكبير لإسرائيل، باتجاه تنامي المشاعر المعادية للمحور الغربي وخصوصاً الولايات المتحدة، وهو اعتبار سوف تسعى تنظيمات العنف والإرهاب إلى توظيفه من أجل تحريك "الذئاب المنفردة" لتنفيذ عمليات في الفترات المقبلة، سواءً في مناطق النفوذ التقليدية كسوريا والعراق، أو في الدول الغربية التي تشهد حضوراً لهذه الفئة من العناصر الإرهابية. وفي الحالة السورية، يبدو أن التنظيم سوف يزيد من حملاته الإعلامية في الفترات المقبلة لتوظيف هذا السياق من أجل تجنيد عناصر جديدة، مستغلاً حالة الغضب الشعبي العربي من الممارسات الغربية في دعم إسرائيل.
في الختام، يمكن القول إن أهمية العملية الأخيرة لتنظيم داعش في سوريا ارتبطت من جانب بالخسائر البشرية الكبيرة التي ترتبت عليها، الأمر الذي جعلها العملية الأعنف للتنظيم منذ بداية العام الحالي، ومن جانب آخر بتزامن هذه العملية مع تصاعد وتيرة الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة وما فرضته من تداعيات وما أفرزته من سياقات على المستوى الإقليمي تدفع باتجاه تنامي وتيرة أنشطة التنظيمات المتطرفة والإرهابية. ومع تعقد ملف الحرب في غزة والتوقعات بطول أمد هذه الحرب، تتنامى المخاوف من احتمالية توظيف تنظيمات العنف والإرهاب لهذه الحرب من أجل الدفع باتجاه إعادة التموضع وتنامي النشاط العملياتي.
[1] "داعش" يتبنى الهجوم على الجيش السوري وقوات موالية في البادية، الشرق الأوسط، 10 نوفمبر 2023، متاح على: https://cutt.us/k2e8g
[2] واشنطن تؤكد إسقاط مسيرتين حاولتا استهداف قوات أمريكية في سوريا، فرانس 24، 23 أكتوبر 2023، متاح على: https://cutt.us/6hhNq