السيد صدقي عابدين

باحث في العلوم السياسية - متخصص في الشئون الآسيوية

 

على مدار شهر كامل منذ السابع من أكتوبر 2023 تنشط الدبلوماسية اليابانية تفاعلاً مع ما يجري بين الفلسطينيين والإسرائيليين وما يلحق به تطورات، والذي تتركز معظم تفاعلاته في غزة. فيما بات يطلق عليه البعض حرب غزة الخامسة. هذه الحرب التي ليست كسابقاتها قياساً إلى حجم الخراب والدمار وعدد الضحايا ونوعية الأهداف التي تضربها القوات الجوية والبحرية والبرية الإسرائيلية، ومن ثم كمية المتفجرات التي تم إلقائها على قطاع غزة على مدار هذا الشهر.

 وقد دعا ذلك البعض للمقارنة بين كمية هذه المتفجرات وطاقة القنبلتين النوويتين اللتين ألقيتا على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية، في مقابل ما حدث يوم السابع من أكتوبر من قبل مجموعات المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس، وما تقوم به تلك المجموعات من عمليات لإطلاق الصواريخ، ومن ثم ما يحدث بين حزب الله وإسرائيل، وعمليات إطلاق بعض الصواريخ والطائرات المسيرة من اليمن.

الدبلوماسية اليابانية تتحرك على أكثر من صعيد. أولها، التواصل المباشر مع المسئولين في منطقة الشرق الأوسط. وثانيها، المشاركة في الفعاليات السياسية الرامية للتعامل مع الأوضاع. وثالثها، الدور الياباني في الأمم المتحدة، خاصة وأن اليابان ضمن قائمة الأعضاء غير الدائمين في المجلس حالياً.

التحرك الدبلوماسي الياباني لا يقف عند الشق السياسي، وإنما كان للشق الإنساني حضور أيضاً بحكم فداحة ما يحدث في غزة.

ما الذي تطرحه اليابان في كل مساعيها الدبلوماسية؟ وما هي المنطلقات التي تحكم هذه المساعي؟ وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر في ظل تعقيدات الموقف وتعدد الأدوار وتقاطعها؟ وهل سيختلف التعامل الياباني مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها عما كان عليه قبل هذه الحرب؟

محددات رئيسية

الدبلوماسية اليابانية في تحركها تجاه الحرب الدائرة في الشرق الأوسط تنطلق من مجموعة من المحددات من بينها:

1- توجهات السياسة الخارجية اليابانية والرغبة في لعب دور أكبر على الساحة الدولية: هذه التوجهات تعود إلى سنوات مضت. وقد برزت هذه التوجهات بعد عقود من الانكفاء الياباني بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد انتقادات داخلية كثيرة على خلفية تعامل اليابان مع أزمات دولية سابقة. ومنها على سبيل أزمة الخليج في بداية تسعينيات القرن الماضي. ومن بين ما كان يوجه للدور الياباني من انتقادات الهوة بين ما يقدمه من مساهمات مالية وبين ما يحوزه من مكانة سياسية. وفي سياق التوجهات الراغبة في دور سياسي عالمي أكبر لليابان كانت المساعي المتواصلة للتخفف من قيود ما بعد الحرب العالمية الثانية بما في ذلك السعي للحصول على العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، وطرح قضية تعديل الدستور الياباني، وتخفيف القواعد التي تحكم تصدير السلاح الياباني للخارج. كما أن علاقات اليابان الأمنية بقوى خارجية غير الولايات المتحدة بدأت تأخذ أبعاداً جديدة، ومن بينها استراليا، والهند، ومؤخراً كوريا الجنوبية، ناهيك عن إقامة علاقات نوعية مع حلف شمال الأطلنطي. وقد تم الكثير من ذلك تحت سمع وبصر الولايات المتحدة الأمريكية، بل وبتشجيع منها في حالات كثيرة.

2- طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية: هناك تحالف قوي بين طوكيو وواشنطن. وهناك حرص من كل الحكومات اليابانية على تقوية هذا التحالف وتمتينه. وحتى في الفترة القصيرة التي تولى فيها الحزب الديمقراطي الحكم في اليابان لم يكن هناك سعي لهز هذا التحالف، على الرغم من أن الحزب كان يتحدث عن درجة أكبر من الاستقلالية في نطاق هذا التحالف. وبطبيعة الحال فإن التحالف مع الولايات المتحدة يفرض على اليابان التزامات، ويلزمها بموائمات. وهذا ما يتضح في الكثير من الملفات وليس ملف الشرق الأوسط فقط. وقد رحبت اليابان بزيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإسرائيل على الرغم من أن هذه الزيارة قد قرأت بمفاهيم مغايرة من قبل أطراف أخرى على رأسها الطرف الفلسطيني بطبيعة الحال في ظل الخطاب السياسي الأمريكي المنحاز لإسرائيل، وما رافقه من إجراءات داعمة ومشجعة لما تقوم به، بما في ذلك إرسال حاملتي طائرات إلى المنطقة، وإمداد إسرائيل بمعدات عسكرية وذخيرة ووصول خبراء عسكريين إليها.

3- واقع علاقات اليابان مع أطراف الصراع في الشرق الأوسط: هذه العلاقات تلعب دوراً في تحديد مسار التوجهات اليابانية مما يحدث، سواء كان ذلك بالنسبة لعلاقاتها بكل من إسرائيل وفلسطين، أو بمختلف الأطراف الفاعلة في المنطقة. فاليابان تدرك أنه قبل أن يضيق الصراع إلى فلسطيني-إسرائيلي كان عربياً-إسرائيلياً. في هذا الإطار فإن اليابان تتمتع بعلاقات جيدة مع كل أطراف الصراع. ففي الوقت الذي تتشعب فيه علاقاتها مع إسرائيل، فإنها من بين أهم مقدمي المساعدات للفلسطينيين.

4- الرؤية اليابانية لحل الصراع: تنطلق اليابان في رؤيتها لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من القناعة بضرورة حل الدولتين، بحيث يمكن للفلسطينيين العيش في دولة مستقلة طبقاً للقرارات الدولية جنباً إلى جنب مع إسرائيل. ومن ثم فإنها ترى أن المفاوضات هي السبيل لتحقيق هذا المبتغى. ومع المفاوضات لابد أن تكون هناك عملية بناء للثقة بين الجانبين. وتذهب إلى أن هذه الثقة يمكن أن تبنى عبر مشاريع تعاونية، يمكن أن تشارك فيها دول مجاورة. وسبق لليابان أن طرحت في العام 2006 ما أسمته بممر السلام والازدهار. وكانت البداية بطرح فكرة إقامة مجمع صناعي زراعي، ويكون للقطاع الخاص دور مهم فيه. ومن هذه القناعة بحل الدولتين فإن اليابان كانت دائماً ما تعارض الخطط الاستيطانية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

5- المصالح اليابانية في منطقة الشرق الأوسط: لليابان مصالح كثيرة في الشرق الأوسط. على رأس هذه المصالح أن المنطقة هي المصدر الرئيسي لمصادر الطاقة التي تحتاج إليها اليابان، حيث تحصل الأخيرة على ما يزيد عن 90% من احتياجاتها من النفط من المنطقة. هذه الدرجة العالية من الاعتماد على بترول الشرق الأوسط تجعل اليابان حريصة دائماً على الاستقرار في المنطقة من أجل ضمان استمرار الإمدادات. وفي هذا السياق يمكن فهم تركيزها على أهمية الحيلولة دون توسع وتمدد الصراع الحالي ليكون صراعاً إقليمياً، كما أن اليابان لا تنسى كيف تأثرت في سبعينيات القرن الماضي عندما استخدم البترول كسلاح ضد الدول الداعمة لإسرائيل في حينه. لا تقف المصالح اليابانية عند النفط، وإنما هناك استثمارات، ومشاريع تنفذها الشركات اليابانية في المنطقة، ومن ثم فإن لها خبراء ومختصين متواجدون في المنطقة من المهم الحفاظ على سلامتهم. وهذا ما كان ضمن أولوياتها في التعامل مع الظرف الراهن. كما أن المنطقة معبر مهم للتجارة بين الشرق والغرب عبر قناة السويس.

6- المبادئ والمفاهيم التي صدرتها اليابان كمرتكزات في سياستها الخارجية: كغيرها من الدول فإن السياسة الخارجية اليابانية محكومة بعدد من المبادئ والمفاهيم. ويكتفى هنا بذكر مفهوم واحد هو الأمن الإنساني. وقد كان لليابان قصب السبق في صياغة هذا المفهوم والدفاع عنه. ولهذا المفهوم تحديداً دلالات مهمة بخصوص ما يجري على أرض الواقع في تلك الحرب موضع الاهتمام.

تفاعلات مكثفة

قبل الدخول في تفاصيل التحركات اليابانية المتوازية مع الحرب المشتعلة، ومن ثم كيفية التفاعل مع مستجداتها، من المهم الوقوف عند الرؤية اليابانية للأوضاع فبل أيام قليلة من هذا الاشتعال. إذ أن مندوب اليابان في مجلس الأمن وقبل عشرة أيام بالضبط من اندلاع تلك الحرب انتهى إلى أن عدم إحراز تقدم سياسي يعرض السلام والأمن في المنطقة للخطر، وأنه بينما تحل الذكرى الثلاثون لاتفاق أوسلو فإن هناك تطورات غير إيجابية قد أدت إلى زيادة التوتر بين إسرائيل وفلسطين منذ بداية العام الحالي. ومن ثم فإن هناك حاجة ماسة للامتناع عن الأقوال والأفعال التي من شأنها التحريض، وأهمية العمل على منع التصعيد، وممارسة أقصى درجات ضبط النفس. كما أن اليابان أعلنت في نفس الجلسة عن إدانتها للاستيطان، وأهمية المحافظة على السلطة الفلسطينية. وأعلنت عن أنها قد ساهمت منذ بداية العام بأكثر من 40 مليون دولار للأونروا، بما في ذلك مليون دولار مساعدة طارئة لمخيم جنين، وهو المخيم الذي تكررت الاقتحامات الإسرائيلية له، وما تخلفه تلك الاقتحامات من خراب وضحايا. كما أن شهر سبتمبر من العام 2023 قد شهد مشاورات ثلاثية يابانية مصرية أردنية حول الشرق الأوسط لأول مرة.

إذن فالقراءة اليابانية لصورة الصراع كانت واضحة. وما كانت تحذر منه قد وقع، حيث انفجرت الأوضاع. فكيف كان التعامل الياباني مع تلك الأوضاع المتفجرة؟. يمكن تلخيص هذا التعامل في النقاط التالية:

 1- الإدانة الواضحة والصريحة لما حدث يوم السابع من أكتوبر، ووصفه بـ"العمل الإرهابي"، و"الشنيع"، و"الذي لا ينبغي التسامح معه"، ومن ثم المطالبة بضرورة الإفراج الفوري عن الرهائن ودون أية شروط.

 2- الإقرار بحق إسرائيل في الدفاع عن شعبها، مع المطالبة بأن يكون ذلك في إطار الالتزام بقواعد القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني.

 3- أهمية العمل على ضمان سلامة المدنيين في غزة، خاصة في ظل التزايد المتواصل في أعداد الضحايا. والتأكيد على أن حياة جميع الناس متساوية بعض النظر عن معتقداتهم وجنسياتهم وأعراقهم، ومن ثم فإنها عبرت عن الاهتمام والانزعاج والسخط لما يحدث في غزة للمدنيين والمنشآت الطبية، والمطالبة باحترام جميع الأطراف لقواعد القانون الدولي الإنساني.

 4- ضرورة ضمان إجلاء المواطنين الأجانب من غزة آمنين، خاصة وأن هؤلاء الأجانب هم أصدقاء للفلسطينيين على حد وصف وزيرة الحارجية اليابانية كاميكاوا يوكو في قمة القاهرة للسلام التي عقدت في الحادي والعشرين من أكتوبر 2023. وقد كان من بين الأجانب في غزة أحد عشر مواطناً يابانياً، خرج منهم عشرة مواطنين، بينما بقى واحد رفض الخروج، حيث أنه متزوج من فلسطينية ولديه عائلة في غزة، وكذلك يحمل الجنسية الفلسطينية.

 5- ضمان سلامة المواطنين اليابانيين في إسرائيل، وإجلاء الراغبين منهم. وقد كانت هذه القضية محور اهتمام أي تواصل مع الجانب الإسرائيلي، وكذلك مع أطراف إقليمية مهمة، على رأسها الأردن، خاصة بعدما توقفت الرحلات التجارية إلى تل أبيب، حيث أرسلت اليابان طائرات عسكرية لإعادة مواطنيها من إسرائيل. وقد حدث تنسيق مع كوريا الجنوبية أيضاً، حيث تعاونت البلدان في نقل مواطني كل منهما على الرحلات الخاصة التي تم تنظيمها لهذا الغرض.

 6- على ضوء الموقف الإنساني المتدهور في غزة كررت اليابان مطالبتها بضرورة اتخاذ ما يلزم من أجل مرور المساعدات الإنسانية دون عوائق، بحيث تمر بشكل آمن وسريع وكامل، خاصة وأن الاحتياجات الأساسية في سبيلها إلى النفاد مثل المياه والكهرباء والغذاء، ناهيك عن تدهور أو انعدام الخدمات الأساسية مثل الصرف الصحي، بل والخدمات الصحية في ظل القصف المتواصل للمستشفيات، وشح مستلزماتها، والذي أخرج الكثير منها عن الخدمة.

 7- ذكرت اليابان بضرورة حماية العاملين في المجالات الطبية والإنسانية، خاصة وأن هناك قرارات دولية بهذا الخصوص من ضمنها قرارات من مجلس الأمن، وعلى رأسها القرار 2286.

 8- ترافق مع التحذير الياباني من اتساع نطاق الحرب ليس فقط إلى مجمل الإقليم، وإنما لما هو أبعد منه المطالبة بمضاعفة الجهود الدبلوماسية للحيلولة دون ذلك. ومن ثم فإنها استمرت في التأكيد على أهمية قيام مجلس الأمن بدوره في حماية السلم والأمن الدوليين. فاليابان تدرك أنه في حال حدوث ذلك قد تتأثر إمدادات النفط أو على الأقل ترتفع أسعاره كثيراً.

 9- بالنسبة لمشاريع القرارات التي نوقشت في مجلس الأمن فقد جاء التصويت الياباني عليها حاملاً الرفض والقبول والامتناع عن التصويت، حيث حظي مشروع القرار الأمريكي بموافقة اليابان، وهو المشروع الذي عارضته كل من روسيا والصين والإمارات العربية المتحدة. في حين اعترضت على أحد مشروعي القرارين الروسيين اللذين نوقشا في المجلس، وامتنعت عن التصويت على الآخر. وقد وافقت على مشروع القرار البرازيلي، الذي لم تعترض عليه إلا الولايات المتحدة الأمريكية. وعندما انتقلت القضية إلى الجمعية العامة كانت اليابان من بين الممتنعين عن التصويت على القرار الذي أقر بأغلبية 120 دولة، وعارضته 14 دولة فقط.

 10- تأييد وقف إطلاق النار الإنساني فوراً، مع إنشاء ممرات إنسانية، وصولاً إلى نزع فتيل التصعيد بشكل عاجل، حتى يتسنى استعادة الأمل وتمهيد طريق السلام والأمن. وقد أشارت اليابان إلى أنها سوف تعمل مع الأعضاء المنتخبين في مجلس الأمن على صياغة مشروع قرار. لكن يبقى السؤال المطروح حول إمكانية حيازة مثل هذا المشروع في حال صياغته على موافقة الدول دائمة العضوية الخمس، فمن المعروف أن اعتراض إحداها فقط يعطل صدور القرار. ومن ثم تأتي التساؤلات حول ضمانات تطبيق القرار في حال إقراره.

 11- انطلاقاً من الإقرار بأن الوضع الإنساني في غزة لم يكن أسوأ مما هو عليه في هذه الظروف، فقد قررت اليابان تقديم 10 مليون دولار بصورة عاجلة، منها سبعة ملايين لوكالة الأونروا، وثلاثة ملايين للصليب الأحمر الدولي. كما أن هناك دراسة لإقرار تقديم مبالغ إضافية بشكل طارئ تصل قيمتها إلى حوالي 65 مليون دولار. وفي الوقت الذي شكر فيه الجانب الفلسطيني اليابان على مبادراتها الإنسانية تلك، واستمرارها في تقديم المساعدات للشعب الفلسطيني، فإن الجانب الإسرائيلي دعاها لكي تكون أكثر حذراً في هذه الناحية.

 12- إبداء القلق جراء قطع شبكات الاتصالات عن غزة، وما يرتبه ذلك من تعطيل لعمل المنظمات الإنسانية، ووسائل الإعلام، فضلاً عن منع التواصل بين سكان غزة والعالم. ومن ثم أهمية أن تبقى شبكات الاتصال تعمل.

 13- مطالبة الأطراف الإقليمية بتجنب ما من شأنه مفاقمة الصراع. وتبدو هذه الرسالة موجهة بالأساس لإيران ولبنان حيت يتواجد حزب الله والذي يشتبك مع إسرائيل، وإن بحدود، وكذلك ما قام به الحوثيون في اليمن. وهذه القضايا كانت حاضرة على جدول أعمال اتصالات ولقاءات المسئولين اليابانيين بنظرائهم في المنطقة.

 14- لا بديل عن حل الدولتين، حيث كانت اليابان وما زالت تؤكد على أهمية وضرورة حل الدولتين، حتى في ظل هذه الأجواء المشتعلة.

هذا بخصوص الموقف الرسمي، ويلاحظ أنه لم يتم رصد تحركات شعبية في المدن اليابانية كما هو الحال في الكثير من مدن العالم، أو أنها كانت محدودة ولم يتم التركيز عليها في وسائل الإعلام. وربما يعود ذلك إلى مدى اهتمام الرأي العام الياباني بالقضايا الخارجية عموما، وبقضايا الشرق الأوسط خصوصاً من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية طبيعة الشخصية اليابانية في طريقة التعبير عن الرأي، حيث أنه من غير المألوف في اليابان تنظيم تظاهرات واسعة النطاق، أو حتى احتجاجات عمالية قد تصل إلى حد الإضراب عن العمل كما يحدث في الكثير من الدول الرأسمالية. ومن ناحية ثالثة ربما يرجع ذلك إلى وجود درجة عالية من الرضا الشعبي عن طريقة تعامل الحكومة مع المسألة.

تساؤلات عديدة

ثمة تساؤلات كثيرة يمكن أن تثار انطلاقاً من التوصيفات والتحركات اليابانية لما يجري على أرض الواقع منذ السابع من أكتوبر، ومن ثم ما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب منه والبعيد. والتركيز هنا على تلك المتعلقة بالمستقبل. وهنا يمكن طرح تساؤلين رئيسيين:

التساؤل الأول: ماذا لو طالت الحرب أكثر من ذلك؟ الأمر لا يتعلق بمجرد طول أمد الحرب فقط، وإنما بنمط التدمير الشامل الذي تقوم به إسرائيل في قطاع غزة، والذي يطال البشر والحجر. هنا سيكون من المنطقي التساؤل عما إذا كانت اليابان ستستمر بترديد الاهتمام والانزعاج وربما السخط دون أن يكون هناك إدانة واضحة وصريحة لمن يرتكب تلك الأفعال؟ ومشروعية هذا السؤال تنبع من عوامل من بينها عدم الاختلاف على عدم مشروعية ما يحدث في غزة من ضرب لأهداف مدنية، واستهداف لمنشآت طبية، ودور عبادة، وقتل للصحفيين والكوادر الطبية، ومنع للخدمات الأساسية من قبل الدولة القائمة بالاحتلال، وتعطيل وصول المساعدات الإنسانية، والرفض التام لوقف إطلاق النار حتى ولو كان مؤقتاً ولأهداف إنسانية حتى تتحقق الأهداف الموضوعة من الجانب الإسرائيلي. العامل الثاني في مشروعية هذا السؤال يتمثل في الإصرار الياباني على تكرار إدانة ما حدث يوم السابع من أكتوبر. وهنا ربما تتعرض اليابان لضغوط من الرأي العام تماماً كما حدث في دول كثيرة من العالم بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، حيث بدأ الناس يقارنون بين طريقة التعامل مع ما قامت به حماس وما تقوم به إسرائيل. وبدأت التساؤلات تطرح حول المعايير المستخدمة في الحكم على التصرفات والأفعال من قبل حكومات تلك الدول. ومما يزيد الضغوط أن الغالبية العظمى من الضحايا هم من النساء والأطفال. كما أن السلوك الإسرائيلي نفسه لم يعد يعبأ حتى بحياة وسلامة الرهائن. وقد عرض هذا السلوك الحكومة الإسرائيلية ذاتها لضغوط داخلية واسعة. ويشار هنا إلى أن وزيرة الخارجية اليابانية في جولتها بالمنطقة التقت في إسرائيل بممثلي أسر لهم قتلى ومختطفين، وفي عمان بالأردن التقت بتلاميذ فلسطينيين من غزة في مقر الأونروا تقطعت بهم سبل العودة إلى أسرهم بعدما عادوا من زيارة إلى اليابان. كما أن الطرح الياباني القاضي بالمساواة في التعامل مع البشر بغض النظر عن انتماءاتهم سيزيد من المطالبة بضرورة الاتساق في التعامل من حيث توصيف الأفعال، خاصة وأنه على التوصيفات تترتب إجراءات.

الموقف الياباني حتى الآن مرضي بالنسبة لإسرائيل. فاليابان قد عارضت القرارات التي لا تروق لإسرائيل في مجلس الأمن أو أنها اختارت الامتناع عن التصويت عليها. وهي كما سبق ذكره دائمة الإدانة لما حدث يوم السابع من أكتوبر، مع التشديد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وهنا لا يمكن إغفال تأثير العامل الأمريكي أيضاً. لكن في نفس الوقت لا يمكن القول بأن الموقف الياباني يتماهي تماماً مع الموقف الأمريكي. فاليابان مثلاً وافقت على مشروع قرار لم تعترض عليه إلا واشنطن، كما أن طوكيو وهي العضو في مجموعة السبع الصناعية لم تنضم إلى الأعضاء الست الأخرى في المجموعة في بيانهم بخصوص الحرب في بدايتها. وسوف توضح الأيام القادمة كيف سيكون الأمر عندما تستضيف اليابان اجتماعات وزراء خارجية مجموعة السبع. هل ستتمكن اليابان من الحد من جموح باقي الأعضاء أم أنها ستضطر لمجاراتهم والتماهي مع مواقفهم؟.

التساؤل الثاني: ماذا بعد الحرب؟ هذا السؤال العام يتفرع عنه أسئلة فرعية كثيرة بالنسبة للتعامل الياباني مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من بينها: هل سيستمر نمط تقديم المساعدات اليابانية للفلسطينيين على حاله؟ وهل ستعيد اليابان إحياء مقترحاتها بخصوص مشاريع التعاون وبناء الثقة؟ وهل بإمكانها المشاركة في مفاوضات الحل أو التسوية في حال عودتها؟.

من الواضح أن اليابان عازمة على الاستمرار في تقديم المساعدات للشعب الفلسطيني. لكن الشعب الفلسطيني لا يحتاج فقط إلى الطعام والدواء وإنما يحتاج إلى بناء مؤسسات قوية قابلة للاستمرار، وبنية أساسية تكون محمية من التدمير. فهل من الممكن أن تساهم اليابان في صياغة ضمانات دولية حتى لا يتكرر مسلسل التدمير والتخريب مستقبلاً؟. قد يقال إن في القانون الدولي ضمانات بالفعل، وأن المسألة ليست فقط في وجود الضمانات على أرض الواقع، وإنما في وجود من يضمن تنفيذ هذه الضمانات. ففي الحالة الفلسطينية تحديداً هناك عشرات القرارات الدولية لكنها لم تنفذ. إذن فالمسألة أكبر من جهد يمكن أن تقوم به اليابان أو غيرها. لكن تبقى مثل هذه الجهود مهمة وضرورية إلى أن يحدث إجماع دولي يوفر إرادة ضامنة ورادعة في نفس الوقت.

بخصوص مشاريع التعاون، سواء القديم منها أو ما يمكن أن يستجد، فلا شك أن الأمر سيتوقف على الحالة العامة للصراع. وما إذا كان سينحو إلى التهدئة الطويلة أم إلى التوتر المكتوم والذي يمكن أن ينفجر في أي وقت. كما أن الأمر لا يتعلق باليابان وحدها، وإنما بمختلف الأطراف المعنية، بما في ذلك الأطراف الدولية. ولا يجب إغفال ما هو مطروح من مبادرات سواء في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية، أو ما طرح على هامش قمة العشرين الأخيرة في نيودلهي.

فيما يتعلق بمفاوضات التسوية أو الحل، ينبغي أولاً التذكير بما دأبت اليابان على التذكير به من مرور السنوات على اتفاق أوسلو دون تحقيق المرجو. كما ينبغي التذكير بما كان قد حدد من توقيتات للانتهاء من مفاوضات على قضايا الوضع النهائي فيما يتعلق بالحدود والمياه والمستوطنات واللاجئين. ولا شك أن اليابان يمكن أن تساهم في تسهيل مثل هذه المفاوضات، بما في ذلك المساهمات المالية.

الوضع بعد الحرب ربما يكون أكثر تعقيداً مما قبله. وإذا كانت اليابان مثلها مثل معظم دول العالم مجمعة على ضرورة التوصل عبر المفاوضات إلى تسوية سلمية للصراع تنتهي بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، فإن الأمر ليس بهذه السهولة هذا إذا قبلت إسرائيل بهذا المبدأ.

خاتمة

من الواضح أن التعامل الياباني مع التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط قد جاء كثيفاً في ظل إدراك تام لخطورة هذه التطورات وما يمكن أن تجلبه من تهديدات للمصالح اليابانية من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية فإن هذا الحراك الدبلوماسي النشط سواء على المستويات الثنائية أو الجماعية قد عكس ترجمة للسياسة الخارجية اليابانية النشطة والراغبة في القيام بدور عالمي أوسع. ومن ناحية ثالثة فإن هذا التحرك قد أبان عن الحسابات الدقيقة التي تراعيها اليابان، والتي لا تقتصر فقط على طبيعة علاقاتها بدول المنطقة، ومن ثم مصالحها فيها، وإدراكها للطريقة التي يمكن من خلالها ضمان السلام والاستقرار، وإنما أيضاً مراعاتها لطبيعة التزاماتها الدولية وعلى رأسها خصوصية علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية الحليف الأكبر لإسرائيل.

وهنا يكفي الإشارة إلى أن رئيس الوزراء الياباني قد تواصل هاتفياً مع بعض قادة المنطقة، كما أن وزيرة الخارجية اليابانية قد زارت المنطقة مرتين بفاصل زمني قصير، كما أنها أجرت اتصالات كثيرة مع نظرائها في المنطقة. ناهيك عن إرسال المبعوث الياباني الخاص بالشرق الأوسط إلى جولة في المنطقة. وكانت الخارجية اليابانية محط اهتمام من سفيري كل من إسرائيل وفلسطين في طوكيو، ومبعوثين آخرين.

ربما يكون من المهم الإشارة إلى نقاط ثلاث ذكرها مندوب اليابان في مجلس الأمن بعد أكثر من أسبوعين من اندلاع الحرب الراهنة عندما قارن بين العدالة والبرجماتية وحل الدولتين، على أن تكون الأولى للجميع، والثانية لا تضر بقواعد القانون الدولي بما في ذلك قواعد القانون الدولي الإنساني، وأن تكون الثالثة بالوسائل الدبلوماسية. هذه المعادلة صعبة المنال، خاصة وأن البعض قد يذهب إلى أنه لا عدالة مع البرجماتية، وأن لا ضمانة لقيام الدولة الفلسطينية عبر المفاوضات، خاصة على ضوء خبرة المفاوضات طوال أكثر من ثلاثة عقود.

هذه الإشكالية إضافة إلى ما تراعيه اليابان في تعاملها مع الأحداث الساخنة في الشرق الأوسط تحمل تفسيراً لما قد يراه البعض تناقضاً أو عدم اتساق في بعض جوانب الموقف الياباني. لكن لا يجب تحميل الجانب الياباني وحده مسئولية ذلك. فالواقع يزداد تعقيداً ليس فقط على صعيد العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية، وإنما داخل كل من المجتمع الإسرائيلي والفلسطيني، ناهيك عن المتغيرات المستجدة في المحيط الإقليمي، وكذا المتغيرات على الصعيد العالمي.

على الرغم مما قد يطال الموقف الياباني من انتقادات، إلا أنه من المهم النظر إلى الجوانب الإيجابية فيه، والعمل على تعظيم الاستفادة من تلك الجوانب. ولا يجب إغفال أنه بعيداً عن فترات التوتر في المنطقة فإن هناك قضايا أخرى كثيرة على أجندة علاقات اليابان مع دول المنطقة. وفي تلك الحالات ربما يتراجع الاهتمام بقضايا الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى مراحل متأخرة، بل وربما يختفي تماماً من أجندة المفاوضات.