قضايا وتحليلات - الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي 2023-11-5
د. صدفة محمد محمود

باحثة متخصصة في شئون أمريكا اللاتينية

 

اتخذت دول أمريكا اللاتينية مواقف متباينة من الحرب الدائرة بين حركة حماس الفلسطينية وإسرائيل في غزة، في أعقاب الهجمات التي شنتها الحركة داخل مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر الماضي (2023). وعلى الرغم من أن معظم الحكومات في المنطقة أدانت في البداية الهجمات على إسرائيل، إلا أن ردود فعلها فيما بعد كانت متباينة للغاية، مدفوعة في ذلك بعدة عوامل.

فقد اختلفت تصورات ومواقف دول أمريكا اللاتينية من الحرب الدائرة في غزة بشكل واضح، سواء ما يتعلق بالموقف من هجمات حماس، أو العدوان الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين، وجاءت هذه المواقف على النحو التالي:

1- إدانة هجمات حماس: أدانت أورجواي "الإرهاب بشكل مطلق" معلنة التزامها بأمن إسرائيل، كما فعل رئيس تشيلي الأمر نفسه، لكنه دعا إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وفي باراجواي، التي أعلنت حماس منظمة إرهابية دولية في عام 2019، قال الرئيس سانتياغو بينيا خلال محادثة هاتفية مع نظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ: "لقد نقلت له كل دعمنا في هذه اللحظة الصعبة لإسرائيل في مواجهة الهجمات الإرهابية الجبانة التي تعرضت لها وتمنياتنا الصادقة بأن يعود السلام إلى هذا البلد الشقيق في أقرب وقت ممكن". بالمثل، انتقد رئيس السلفادور نجيب بوكيلي حركة حماس بشدّة، قائلًا: "أفضل ما يمكن أن يحدث للشعب الفلسطيني هو أن تختفي حماس تمامًا".

يذكر أن من بين القتلى في هجمات حماس ما لا يقلّ عن تسعة أرجنتينيين وثلاثة برازيليين وثلاثة بيروفيين وكولومبي واحد، فيما يزيد عدد المفقودين المنحدرين من أمريكا اللاتينية عن 30 بينهم 21 أرجنتينيًا.

2- التنديد بالعدوان الإسرائيلي على المدنيين: اتخذت بعض دول المنطقة موقفًا متشددًا من إسرائيل، كانت بوليفيا أول دولة في العالم تقطع العلاقات الدبلوماسية معها، وسبق أن اتخذت بوليفيا الموقف نفسه في عام 2008، مشيرة إلى أسباب مماثلة، لكن استأنف البلدان العلاقات في عام 2020. أما تشيلي وكولومبيا وهندوراس فاستدعت سفرائها من تل أبيب للتشاور احتجاجًا على هجمات إسرائيل على غزة. وقارن الرئيس الكولومبي غوستافو بترو، أحد المقاتلين السابقين في حركة مسلحة، استهداف إسرائيل لغزة ردًا على الهجمات الدامية التي شنتها حماس بالاضطهاد النازي لليهود، مما أدى إلى إثارة غضب الحكومة الإسرائيلية التي اتهمته بالإدلاء "بتصريحات معادية للسامية" تعرض حياة اليهود للخطر، معلنة عن وقف صادراتها الأمنية إلى كولومبيا. أما الأرجنتين، فانتقدت تصاعد العنف في قطاع غزة والضفة الغربية وأدانت الهجوم الإسرائيلي على مخيم جباليا للاجئين، مؤكدة على عدم وجود ما يبرر انتهاك القانون الإنساني الدولي.

في الوقت نفسه، صوتت 20 دول من أمريكا اللاتينية والكاريبي لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 أكتوبر الماضي، الذي دعا إلى "هدنة إنسانية فورية" في غزة. كان من هذه الدول: الأرجنتين والبرازيل وبوليفيا وكولومبيا وتشيلي وكوبا والسلفادور وبيرو والمكسيك وهندوراس والإكوادور. ولم تتمكن فنزويلا، التي شاركت في رعاية القرار، من التصويت حيث تم سحب حقوقها في التصويت لعدم دفع مستحقاتها في الأمم المتحدة. أما أوروجواي وهايتي وبنما فامتنعت عن التصويت، في حين كانت جواتيمالا وباراجواي هما الدولتان الوحيدتان في أمريكا اللاتينية اللتان صوتتا ضد القرار. يذكر أن جواتيمالا وباراجواي إلى جانب الولايات المتحدة هي الدول الوحيدة على مستوى العالم التي نقلت سفاراتها من تل أبيب إلى القدس.

3- تبني موقف الحياد بين طرفي الصراع: قال رئيس المكسيك مانويل لوبيز أوبرادور: "لا نريد أن ننحاز إلى أي طرف لأننا نريد أن نكون عاملًا في البحث عن حل سلمي"، وشدد في ذات الوقت على أن السياسة الخارجية للمكسيك تقوم على احترام تقرير المصير والسلام، حيث قال: "لا نريد الحرب، لا نريد العنف. نحن دعاة سلام ولا نريد أن تضيع حياة أي إنسان ومن أي جنسية، سواء كانوا من إسرائيل أو فلسطينيين". وأوضح بيان صادر عن وزارة الخارجية رؤية المكسيك للحل النهائي للصراع، والذي يقوم على "وجود دولتين ويعالج المخاوف الأمنية المشروعة لإسرائيل ويسمح بتوطيد دولة فلسطينية قابلة للحياة سياسيًا واقتصاديًا تعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل داخل حدود آمنة ومعترف بها دوليًا وفقًا لقرارات الأمم المتحدة".

4- القيام بتحركات دبلوماسية نشطة لوقف الحرب: بصفتها عضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي، عمدت البرازيل، التي تولت الرئاسة الدورية للمجلس لشهر أكتوبر الماضي، إلى تكثيف تحركاتها الدبلوماسية من أجل منع تصعيد الصراع، والبحث عن حل سلمي للأزمة، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية إلى المدنيين في غزة. وفي هذا الإطار، تقدمت في 18 أكتوبر الماضي بمشروع قرار في مجلس الأمن يدعو إلى فرض هدنة إنسانية لإيصال المساعدات المنقذة للحياة إلى الملايين في غزة، لكن المجلس فشل في إقراره بسبب الفيتو الأمريكي، مما دفع وزير الخارجية البرازيلي ماورو فييرا إلى انتقاد مجلس الأمن لعجزه بسبب "العدوات القديمة" عن التصرف بشأن العديد من الأزمات التي تواجه العالم، وخاصة الحرب بين إسرائيل وغزة، وشدد على إن هذا "غير مقبول أخلاقيًا". يذكر أن البرازيل كانت الدولة الوحيدة في أمريكا اللاتينية التي شاركت في قمة القاهرة للسلام التي عقدت في 21 أكتوبر الماضي. وقال الرئيس البرازيلي: "دوري هو العمل من أجل أن تكون المفاوضات ممكنة بهدف التوصل إلى وقف لإطلاق النار"، وأضاف: "سئمت من إجراء المكالمات الهاتفية، لكنني سأواصل فعل ذلك لأنه ضروري".

عوامل متعددة

هناك عدة عوامل تفسر المواقف المختلفة التي اتخذتها دول أمريكا اللاتينية من حرب غزة، من بينها:

1- التوجهات السياسية / الأيديولوجية للحكومات اللاتينية: كان الانتماء السياسي لحكومات بلدان المنطقة محددًا رئيسيًا لمواقفها من الحرب؛ فالحكومات اليسارية كانت أكثر دعمًا للقضية الفلسطينية. ويرتبط دعم أحزاب وتيارات اليسار اللاتيني لفلسطين، بالعلاقات التاريخية التي ربطت الجماعات الثورية وحرب العصابات في بعض دول أمريكا اللاتينية، التي كافحت من أجل استقلال بلادها بقادة منظمة التحرير الفلسطينية، وتشير بعض الدراسات إلى تلقي عناصر من الحركات المسلحة اللاتينية تدريبات عسكرية في المخيمات الفلسطينية في الأردن.

وفي هذا السياق، اتخذت حكومات اليسار الراديكالي - الشعبوي، في فنزويلا، كوبا، نيكاراجوا، وجميعها دول ليس لديها علاقات دبلوماسية بإسرائيل، أحد أقوى المواقف الناقدة لهجمات إسرائيل الجارية على غزة. إذ أكد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، على سبيل المثال، على إن الفلسطينيين يتعرّضون لنظام "فصل عنصري جديد"، متهمًا إسرائيل بارتكاب "إبادة بحق الشعب الفلسطيني". أما كوبا، فاعتبرت أن العنف هو "نتيجة 75 عامًا من الانتهاك الدائم لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف ولسياسة إسرائيل العدوانية والتوسعية". واستقبلت نيكاراجوا، بعد يومين فقط من هجمات حماس، رمزي رباح، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي التقى برئيسها ووزير خارجيتها.

غالبًا ما تنظر حكومات اليسار اللاتيني، التي تتبنى خطابًا مناهضًا للهيمنة الأمريكية في المنطقة، إلى إسرائيل باعتبارها وكيلًا للولايات المتحدة. لذلك، فإن جزء من تأييدها لفلسطين ينبع من موقفها المعادي للولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل. يضاف إلى ذلك، أن بعض دول أمريكا اللاتينية تربطها علاقات وثيقة بإيران، وهو ما يفسر جزئيًا موقفها الناقد لسياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، لذلك نظرت تل أبيب لقرار بوليفيا قطع العلاقات الدبلوماسية معها باعتباره "استسلام للإرهاب ونظام آية الله في إيران".

في المقابل، كانت الحكومات اليمينية (كوستاريكا وباراجواي وأوروجواي وبنما وجواتيمالا) أكثر جرأة في الدفاع عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. على سبيل المثال، أدانت حكومة رئيس أوروجواي، لويس لاكال بو، من الحزب الوطني اليميني، بشدة هجوم حماس المتعدد ضد إسرائيل. وقال بيان صادر عن وزارة الخارجية: "باسم حكومة وشعب أوروجواي، نؤكد من جديد الرفض المطلق للإرهاب والتزامنا بأمن إسرائيل". وفي الواقع، عملت هذه الحكومات خلال السنوات الأخيرة على توثيق علاقاتها مع تل أبيب، كمدخل للتقارب مع الولايات المتحدة، وكذلك للحصول على المساعدات الأمنية وتعزيز التعاون في مجال نقل التكنولوجيا مع إسرائيل.

2- تقاليد السياسة الخارجية وأهدافها الرئيسية: تقوم تقاليد السياسة الخارجية لبلدان أمريكا اللاتينية على احترام مبادئ القانون الدولي والدفاع عن حقوق الإنسان، خاصة حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، بما في ذلك الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة، كما تعترف معظم دول أمريكا اللاتينية بالدولة الفلسطينية أو لديها مكاتب دبلوماسية في رام الله بالضفة الغربية. وقام عدد من دول أمريكا اللاتينية بإرسال مساعدات إنسانية إلى الفلسطينيين في غزة، ومنها البرازيل، فنزويلا، وكولومبيا. وفي الوقت نفسه، تسعى البرازيل، أكبر دول أمريكا اللاتينية، في ظل رئاسة لولا دا سيلفا إلى تعزيز مكانتها الدولية، ربما هذا ينعكس في تحركاتها الدبلوماسية النشطة في مجلس الأمن الدولي من أجل التوصل لهدنة إنسانية ومنع اتساع نطاق الصراع.

3- نفوذ الجاليات اليهودية والفلسطينية (العربية): تستضيف بلدان أمريكا اللاتينية أعدادًا كبيرة من الجاليات اليهودية والعربية، بما في ذلك الفلسطينية، والتي نجحت على مدار سنوات طويلة في تطوير علاقات وثيقة مع المسئولين والمنظمات اللاتينية، بما يسمح لها بالدفاع عن مواقفها وكسب التأييد الشعبي لها. ربما هذا يفسر الموقف الذي عبرت عنه الأرجنتين، التي تستضيف أكبر جالية يهودية في أمريكا اللاتينية قوامها نحو 250 ألف شخص، في بيان وزارة خارجيتها، والذي أكد على وقوفها بجانب الشعب الإسرائيلي، واستنكارها الهجمات المسلحة من قطاع غزة ضد جنوب إسرائيل.

على النقيض من ذلك، كان موقف تشيلي، الذي تضم أكبر جالية فلسطينية في أمريكا اللاتينية (500 ألف تقريبًا)، في البداية، منددًا بهجمات حماس مع الدعوة في نفس الوقت إلى استئناف المفاوضات من أجل حل الدولتين. ومع تزايد عدد القتلى في صفوف المدنيين الفلسطينيين، صعدت تشيلي من لهجتها، بل وقامت باستدعاء سفيرها من تل أبيب. ونظمت في معظم دول أمريكا اللاتينية مظاهرات مناهضة لإسرائيل وأخرى مؤيدة لها.

4- دور المسيحيين الإنجيليين: شهدت أمريكا اللاتينية على مدار السنوات الماضية، تزايد عدد ونفوذ المسيحيين الإنجيليين، الذين لديهم ارتباطًا وثيقًا بالصهيونية العالمية، حيث يعتقدون أن عودة الشعب اليهودي إلى الأرض المقدسة، وإقامة دولة إسرائيل، كانت تحقيقًا لنبوءة توراتية. ويشكل المسيحيون الإنجيليون قوة تصويتية مهمة، كما يؤثرون على مواقف حكومات بعض دول أمريكا اللاتينية من إسرائيل. كان هذا واضحًا بجلاء في كل من هندوراس وجواتيمالا، حيث يوجد أكبر عدد من المسيحيين الانجليين في المنطقة، 46% و41% على التوالي.

5- الحسابات الداخلية للقوى السياسية: كانت الأوضاع الداخلية في بعض بلدان أمريكا اللاتينية عاملًا محددًا لمواقفها من الحرب في غزة. في الأرجنتين، التي كانت تستعد لإجراء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 22 أكتوبر الماضي، تنافس المرشحون على كسب تأييد الجالية اليهودية في البلاد، وسارع جميع المرشحين، باستثناء مرشحة جبهة الوحدة اليسارية، فانينا بياسي، إلى إدانة هجمات حماس، حتى أن سيرجيو ماسا وزير الاقتصاد والمرشح عن الائتلاف الحاكم تعهد بتصنيف حماس كتنظيم إرهابي في حالة فوزه بالرئاسة. يذكر أن الأرجنتين هي الدولة الوحيدة في أمريكا الجنوبية التي ارتكبت فيها هجمات واسعة النطاق ضد اليهود والإسرائيليين في عامي 1992 و 1994، كما تلقت في الأيام الأخيرة، السفارة الإسرائيلية والأمريكية في العاصمة الأرجنتينية تهديدات بوجود قنابل.

في بوليفيا، التي تشهد صراعًا حادًا على السلطة بين الرئيس الحالي لويس آرسي وسلفه إيفو موراليس، كان التنافس على كسب دعم أعضاء حزب المؤتمر الشعبي لحزب الحركة الاشتراكية (ماس) الحاكم في الانتخابات الرئاسية لعام 2025، عاملًا مهمًا لتشديد الحكومة الحالية موقفها الناقد لإسرائيل، واتخاذها قرار قطع العلاقات الدبلوماسية معها. أصدرت حكومة الرئيس آرسي بيانا أعربت فيه عن "قلقها العميق" إزاء العنف ودعت إلى السلام. أما الرئيس السابق إيفو موراليس، الذي يحظى بشعبية كبيرة، فقال: "إن بيان وزارة الخارجية البوليفية لا يدين بتماسك سياسي الوضع الحقيقي الذي يمر به الشعب الفلسطيني، وأضاف: "من بوليفيا، ندين الأعمال الإمبريالية والاستعمارية للحكومة الصهيونية الإسرائيلية".

من جملة ما سبق يتضح أن بعض دول أمريكا اللاتينية، كان أكثر جرأة من غيرها من دول العالم في اتخاذ مواقف ملموسة من هجمات إسرائيل على المدنيين الفلسطينيين، أكبر من مجرد الإدانة اللفظية، سواء على مستوى قطع العلاقات الدبلوماسية أو سحب السفراء. غير إن المواقف من حرب غزة لم تكن متجانسة، بل إنها تباينت ليس فقط من دولة لأخرى، بل أيضًا على مستوى نفس الدولة، حيث تبنت بعض بلدان المنطقة لهجة أكثر حدة تجاه إسرائيل مع تزايد الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين. ومن المرجح أنه في حال استمرت تل أبيب في تصعيدها العسكري في غزة، فإن دولاً أخرى في أمريكا اللاتينية ستراجع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، مما ينذر بمزيد من التوتر في العلاقات بين الجانبين.