د. مريم وحيد

مدرس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة

 

في هذه اللحظات الصعبة من عمر الإنسانية يصعب الحديث عن الفن كتجسيد لقيم الحق والخير والجمال؛ فعندما نتحدث في هذا المقال عن الفن السينمائي يمكن أن يرى البعض أن الأولى هو الحديث عن القضايا الأهم وأن يتنحى الفن جانباً. إلا أن للفن دوراً جلياً في فترات الحروب والصراعات كما في فترات السلم والترف.

 فيمكن أن يتم توظيف الفن للدعاية السياسية لعدوان واستهداف الإنسانية. لا شك أن مثل هذه الأفلام تؤثر في الرأي العام العالمي، فقد يتعاطف البعض مع قضية ليس لها أي أساس من أرض الواقع ولكن السينما قد تزيف الواقع لما لها سحر وتأثير كبير.

فيلم "جولدا" هو خير مثال لذلك؛ فالفيلم يتحدث عن سيرة ذاتية لرئيسة وزراء إسرائيل في الفترة ما بين 1969 وحتى 1974. تم عرض الفيلم في أغسطس الماضي (2023)، وتم إخراجه من قبل جاي ناتيف، وتأليف نيكولاس مارتن. يركز الفيلم على قيادة جولدا مائير لإسرائيل إبان حرب أكتوبر 1973.

الفيلم يتناول بشكل أساسي أحداث ما قبل حرب يوم السادس من أكتوبر، ولم يتطرق لسير العمليات أثناء الحرب نفسها؛ فكان التركيز في كل المشاهد على عجز قادة الجيش الإسرائيلي ورئيسة الوزراء أمام النصر العسكري الساحق لمصر.

يعبر الفيلم عن هزيمة رئيسة الوزراء التي كان يُطلق عليها المرأة الحديدية في المجتمع الإسرائيلي. في المشاهد الأولى للفيلم يركز على أن جولدا كانت تستعد للاحتفال بالعيد اليهودي الأبرز "يوم كيبور"، وإلى أي مدى كان الشعب الإسرائيلي سعيداً وينعم بالسلام كما يتجلى في الفيلم. فلم يوضح الفيلم كيف احتل الإسرائيليون فلسطين في عام 1948 بعد موجات من التهجير. ولا يتناول الفيلم علاقة الإسرائيليين بالفلسطينيين، أو كيف استولوا على أرض ليست من حقهم عبر وعد بلفور 1917، ثم ميلاد إسرائيل عام 1948.

تبدأ أحداث الفيلم يوم الخامس من أكتوبر عام 1973 عشية بداية الحرب، حيث تتلقى جولدا معلومات تفيد بأن الجيشين المصري والسوري يستعدان للهجوم. لا يقدم الفيلم سيرة ذاتية لجولدا منذ ميلادها أو كيف نما اهتمامها بالسياسة وعلاقاتها مع زوجها وأبنائها وأصدقائها، ولكنه يركز على أحداث الحرب عبر تسليط الضوء على دورها القيادي في الحرب ليس بصفتها قائدة عسكرية كما تؤكد في الفيلم ولكن بصفتها مسئولة سياسية.

يُظهِر الفيلم ضعف إسرائيل وهشاشة الكيان الإسرائيلي، ولكنه يُرجع سبب هذا الضعف إلى المشاعر الفياضة لرئيسة الوزراء كما عبرت عن ذلك أحداث الفيلم. تلك هي رؤية المخرج الإسرائيلي للفيلم جي ناتيف.

يركز الفيلم أيضاً في مقابل ضعف إسرائيل على قوة العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية، فنجد خط الاتصال متواصلاً بين جولدا ووزير الخارجية الأمريكي حينذك هنري كيسنجر. كما يوضح الفيلم ضغط إسرائيل على الولايات المتحدة الأمريكية في المشهد الذي يجمع جولدا مائير مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر في تل أبيب عندما تجبره على تناول حساء تقليدي معروف في أوكرانيا وأوروبا الشرقية يسمى Borsht وتطلب منه تقديم الدعم لإسرائيل. كما ذكّرته بأصوله اليهودية وقالت له: "إننا نقرأ من اليمين إلى اليسار، فأنت يهودي قبل أن تكون وزيراً للخارجية الأمريكية".

ويمكن تحليل الفيلم من زاويتين أساسيتين هما تحليل الخطاب السمعى والبصري للفيلم وكذلك تحليل الفيلم من زاوية اختيار جولدا كقائدة سيدة لإسرائيل. فهل من مغزى لاختيار سيدة؟

تحليل الخطاب السمعي البصري لفيلم جولدا

الفيلم هو خطاب سمعي بصري تتداخل فيه العناصر السمعية والبصرية وذلك لإيصال رسالة الفيلم. ففيما يتعلق بالصورة، كان للمخرج وجهة نظر في استخدام الألوان. فقد استخدم الألوان الزرقاء الباهتة الكئيبة طوال الفيلم. نرى فقط مشهداً واحداً يكتسي باللون الأحمر عندما تنزف جولدا. فلجأ المخرج إلى المشاهد الضبابية باهتة اللون أي ليس بها لون صريح، كما خلا الفيلم من الصراحة وكان يركز على استخدام الرمزية.

كان هناك تركيز على استخدام الألوان الداكنة، فدوماً ما كانت جولدا في الفيلم داخل قاعات مظلمة. فتدور أحداث الفيلم ككل داخل مباني أسمنتية وكأن جولدا والقادة العسكريين محاصرون داخل مباني. لا يوجد مشاهد في خارج المباني إلا مشهد في المطار عند عودة جولدا لتل أبيب في يوم الخامس من أكتوبر عندما ورد لحكومتها إنذار باحتمال وقوع حرب يوم السادس من أكتوبر، ومشهد الطائرة المحملة بأشلاء الجنود الإسرائيليين بعد حرب أكتوبر.

من الرموز البصرية الجلية في نهاية الفيلم مشهد الطيور المهاجرة التي نراها في السماء، والمقصود به اليهود المهاجرون. كل هذه الطيور تسقط في نهاية الفيلم.

كما أوضح الفيلم أن جولدا كانت مريضة بالسرطان ولكن لم يمنعها مرضها من العمل. فهناك رمزية في مشاهد مرور جولدا في المشرحة أثناء ذهابها للعلاج ورؤية الجثث فيما بعد الحرب. يقدم الفيلم تشريحاً لشخصيتها بأن صورها كسيدة مضحية وعاطفية تخرج من جلسات العلاج الكيميائي إلى الخندق لتلقي صدمات الحرب وفي نفس الوقت تعاني بسبب الضحايا من الجنود وذويهم. بالإضافة لذلك، كان هناك استخدام لأدخنة السجائر في مشاهد عديدة لجولدا وهي تدخن السجائر وكأنها تحترق داخلياً في خضم هذه الأحداث. أما الجماهير فتظهر في مشهد واحد في الفيلم في لقطة خاطفة أثناء دخول جولدا لجنة التحقيقات.

وفيما يتعلق باستخدام حركة الكاميرا في أحد المشاهد الأساسية للفيلم وهو مشهد العمليات الحربية إبان حرب أكتوبر، هنا جولدا هي الوحيدة التي تتحرك في المشهد بينما يقف القادة العسكريون وهي التي تتحرك حولهم في دلالة بأنها الوحيدة الفاعلة أما الآخرون من قادة عسكريين فهم عاجزون عن الحركة والفعل.

وفيما يتعلق باستخدام الصوت، فلم يكن في الفيلم سوى لقطة قصيرة من يوم العبور العظيم "السادس من أكتوبر" واكتفى الفيلم بمؤثرات صوتية لانتصار الجيش المصري في الحرب وكأن المخرج لم يود إبراز وبلورة الانتصار العسكري المصري.

جولدا.. أم اليهود

يحاول الفيلم تجسيد قوة جولدا مائير وإصرارها والتزامها الكامل لدولتها. الفيلم لا يسلط الضوء على علاقاتها الشخصية مع الآخرين إلا من خلال علاقاتها بمساعدتها وقادة الجيش وكأنها منعزلة عن الآخرين فيما عدا قادة الجيش و"أبنائها" من المحاربين في الجيش.

ولم يوضح الفيلم علاقة جولدا بزوجها وأبنائها، وذلك لأن المخرج أراد أن يركز بصورة أكبر على علاقاتها بـ"أبنائها" من الجنود. تُطِلق جولدا على جرحى وأسرى الحرب في الفيلم مسمى "الأولاد". وهذا لكسب تعاطف من يشاهد الفيلم لما يصوره الفيلم من مزاعم حول "مآسي" إسرائيل.

كما أراد الفيلم تبرئة جولدا من أحداث الحرب كما جاء في تقرير لجنة أجرانات وهي اللجنة الإسرائيلية التي حققت في أسباب هزيمة إسرائيل في حرب السادس من أكتوبر 1973.

ولكن تُرى لماذا أخرج المخرج الإسرائيلي جاي ناتيف فيلم جولدا الآن؟ قد يكون ذلك بسبب مرور خمسين عاماً على حرب أكتوبر. لكن المؤكد أن استدعاء هذه الشخصية الآن التي أحبها الإسرائيليون في مقابل شخصية رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو في المجتمع الإسرائيلي نظراً لأن عدداً كبيراً من الإسرائيليين لا يحبون الأخير.

حتى أن الممثلة التي لعبت دور جولدا مائير- هيلين ميرين- عندما زارت إسرائيل في يوليو 2023 قارنت بين الأزمة القضائية التي تشهدها الأخيرة والمشكلة التي واجهتها جولدا إبان حرب أكتوبر 1973.

أثبتت الأيام القليلة الماضية منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" في يوم السابع من أكتوبر 2023 أن الإسرائيليين غير راضين عن نتنياهو. قبل شهور في يوليو من هذا العام عندما زارت ميرين إسرائيل قالت إنها تأثرت بالاحتجاجات الشاسعة التي اندلعت ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي لتغيير النظام القضائي الإسرائيلي.

تذكر ميرين أنها كانت سعيدة بالتظاهرات في إسرائيل، فهي لحظة هامة في تاريخ إسرائيل من وجهة نظرها.

وقارنت ميرين بين قيادة مائير والتي دوماً ما كانت تتناقش مع مستشاريها العسكريين عندما كانت تتقابل معهم بمنزلها لمناقشة الاستراتيجية، وقيادة نتنياهو الذي دوماً ما يبتعد عن العامة في إسرائيل. فكان لديها قوة هائلة، فكانت تعد لكل من يزورها القهوة، وكانت كجدة لها توجه مختلف عن القوة الذكورية المتمثلة في نتنياهو.[1]

ومما لا شك فيه أن للأم مكانة كبيرة في الديانة اليهودية، فعند اليهود لابد للطفل المولود لأم يهودية أن يكون يهودياً بغض النظر عن ديانة الأب. في الديانة اليهودية، لعبت المرأة دوراً في الحروب وفي العقيدة اليهودية، ويتم تسليط الضوء عليهن مثل دبوره Deborah وجائيل Jael وجوديث Judith. كانت دبوره، وهي من يُطلق عليها "أم إسرائيل"، قائدة للإسرائيليين وهي التي حثت الإسرائيليين على النصر ضد الكنعانيين في النصوص اليهودية. بالإضافة لذلك، فهناك يائيل التي تلعب أيضاً دوراً في حروب إسرائيل مع الكنعانيين. ففي العقيدة اليهودية، الأم تمثل الخير والقداسة في العائلة اليهودية.[2]

خاتمة

يوضح الفيلم أن القائد السياسي يُخطىء ويصيب، ويوضح الفيلم أن جولدا قد أحسنت صنعاً بتقديم استقالتها بعد الهزيمة. فهل يمكن ربط ذلك بالأداء السيىء لحكومة اليمين الإسرائيلي حالياً بقيادة نتنياهو ليس في نظر العالم أجمع فحسب ولكن من وجهة نظر المجتمع الإسرائيلي ذاته؟

يقدم الفيلم مجموعة رسائل للرأى العام العالمي بأن إسرائيل دولة قوية ولكنها فوجئت بالهجوم عليها يوم الاحتفال بعيد "يوم كيبور". لم يصور الفيلم اعتداءات إسرائيل الوحشية في حرب 1948 أو العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أو أثناء حرب 1967 أو مذبحة بحر البقر عام 1970، حتى يكتفي من يشاهد الفيلم بأن يجسد إسرائيل في موقع "الضحية" التي يتم مهاجمتها. بالإضافة لذلك، توجد مجموعة من الرسائل للشعب الإسرائيلي بأن العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل قوية وبالتالي لن تترك أمريكا إسرائيل.

كما يقدم الفيلم رسائل للمتعاطفين مع القضية الفلسطينية حول العالم ليس فقط في الدول العربية، بأن إسرائيل هي "ضحية" هجوم الجيوش العربية عليها؛ فيركز الفيلم في جزء كبير على استخدام المؤثرات الصوتية من صراخ للجنود الإسرائيليين من هول ما رأوه في حرب 1973.

لم يذكر الفيلم كلمة فلسطين أو الفلسطينيين، وهذا بالتأكيد له مغزى مفاده أنه يرى الأمور بمنظور إسرائيل فقط. كما أن الفيلم لم يوضح كيف احتلت إسرائيل فلسطين في عام 1948؟ أو كيف احتلت إسرائيل سيناء  وهضبة الجولان في عام 1967؟ على الرغم من أنه تاريخياً كانت جولدا مائير من مؤسسي إسرائيل، وكانت قائدة لحزب العمال. ولدت جولدا في عام 1898 بكييف وتوفت في عام 1978. أصبحت عضوة في الكنيست الإسرائيلي في عام 1949 وحتى 1974. كما كانت وزيرة العمل في الفترة ما بين 1949 وحتى 1956؛ فكانت تدعم هجرة اليهود اللامحدودة إلى إسرائيل. وفي عام 1956 عندما عُينت كوزيرة للخارجية غيرت اسمها لإسم يهودي وهو جولدا مائير. فلم تولد جولدا في فلسطين ولكن وُلدت باسم جولدي مابوفيتز Goldie Mabovitch في مدينة كييف بأوكرانيا وهاجرت مع عائلتها إلى مدينة ميلواكي في ولاية ويسكونسن الأمريكية عام 1906. تقلدت مائير منصب رئيس وزراء إسرائيل عام 1969 وقدمت استقالتها في عام 1974 أي بعد نحو عام من حرب أكتوبر. رحلت جولدا في عام 1978 أي بعد أربعة أعوام من الاستقالة.[3] فلم يذكر الفيلم أيضا أياً من هذه الأحداث وذلك لإخفاء الكثير من الحقائق وتزييف الواقع.


[1] The Associated Press, Helen Mirren Visits Jerusalem for New Film 'Golda,' Says She Is Inspired by Anti-government Protests, https://www.haaretz.com/israel-news/2023-07-13/ty-article/helen-mirren-visits-jerusalem-for-new-film-golda-says-she-is-inspired-by-anti-government-protests/00000189-4f41-d6c2-a189-5f6531c40000, 13 July 2023.

[2] Marjorie Lehman, Jane L. Kanarek & Simon J. Bronner (2017) (Ed.s), Mothers in the Jewish Cultural Imagination: Jewish Cultural Studies, ( Liverpool: Liverpool University Pres).