صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

أعلنت الحكومة العراقية في بيانها الصادر يوم السبت 7 أكتوبر 2023 الجاري، عن موقفها الثابت في دعم القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، كما أعلنت عن تأييدها لعملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها حركة حماس، حيث اعتبرت بغداد أن ما قامت به المقاومة الفلسطينية يعتبر "نتاجاً طبيعياً" لاستمرار سياسات القمع والتعنت التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في مجمل الأراضي الفلسطينية بالضفة وقطاع غزة. كما بينت أن سياسات القمع الممنهج تجاه قطاع غزة والحصار المفروض عليه -على مدى العقود الماضية- لا يمكن أن ينتج سلاماً مستداماً مع الجانب الفلسطيني.

 كما حذرت من أن استمرار هذه السياسات من شأنها رفع وتيرة التصعيد بما قد يهدد حالة الاستقرار الإقليمي في المنطقة كلها. وقد ترافق الموقف الرسمي الداعم لغزة وعمليات طوفان الأقصى من قبل الحكومة العراقية مع موقف مماثل على المستوى الشعبي من ناحية، وعلى مستوى الفصائل العراقية المسلحة الأكثر ارتباطاً بإيران من ناحية ثانية.

وقد تمثلت الانعطافة التي أدت إلى دخول بعض الفصائل العراقية المسلحة على مسار التأييد "العملياتي" لعملية "طوفان الأقصى" في الاستهداف الغاشم من قبل قوات الاحتلال برشقات صاروخية لمستشفى المعمدانى بوسط غزة، ما أسفر عن مقتل 500 مدني، فضلاً عن استمرار حالة التأييد الأمريكي اللامحدود لإسرائيل، بل وادعاء واشنطن بعدم مسئولية الأخيرة عن استهداف المستشفى.

إذ احتشد الآلاف في ساحات التحرير منددين بالعملية التي خالفت كل الأعراف الدولية والإنسانية. في الوقت نفسه، بدأت ترتفع وتيرة تفاعل بعض الفصائل المسلحة العراقية مع الحدث معلنة أن "كل القواعد الأمريكية في العراق وسوريا باتت هدفاً مشروعاً" لها. وبالفعل استهدفت "المقاومة الإسلامية " –مصطلح شامل يطلق على كافة الجماعات المسلحة العراقية الموالية لإيران- بطائرتين مسيرتين قاعدة "عين الأسد" الجوية الأمريكية في محافظة الأنبار على مدار يومي 18 و19 أكتوبر الجاري. كما استهدفت في الوقت نفسه قاعدة "حرير" الجوية بإقليم كردستان. وأشارت بعض المصادر إلى أن مهمة فيلق القدس -التابع للحرس الثوري الإيراني- في هذه الاستهدافات اقتصرت على الجوانب التنسيقية فقط، لكن الاستهداف كان من قبل الفصائل العراقية مباشرة وهي تحديداً: "تشكيل الوارثين" – فصيل حديث التشكيل تأسس في أكتوبر 2019 - التابع لحركة "حزب الله النجباء"، والذي يتلقى تعليمات مباشرة من قبل فيلق القدس.    

وقد تزامنت هذه الاستهدافات مع ظهور الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، الذي ألقى كلمة طالب فيها بدعم شعبي عربي واسع للمقاومة الفلسطينية عبر الاحتشاد بالقرب من الحدود العراقية-الأردنية. وقد فسر البعض مطلب الصدر، بالاحتشاد في هذا المكان تحديداً، بتوجسات أعلنها في كلمته تدور حول مساعي إسرائيل لتهجير الفلسطينيين خارج الضفة وخارج قطاع غزة، وأن هذه المساعي لا تقف عند حد التهجير إلى الأردن ومصر فقط، وإنما ثمة –وفقاً لرؤية الصدر- من يروج للتهجير إلى محافظة الأنبار العراقية باعتبارها المحافظة المتاخمة للحدود الأردنية، معلنا أن مثل هذه التصورات من شأنها منح إسرائيل فرصاً أوسع لمزيد من التمدد على حساب الأراضي العربية.  

فضلاً عن ذلك، فقد تم استهداف قاعدة التنف العسكرية التابعة للتحالف الدولي في منطقة المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، بثلاثة مسيرات أدت إلى إصابات مباشرة للقاعدة. هذا إلى جانب القيام بتفجير خط أنابيب الغاز التابع لحقل "كونيكو" بريف دير الزور شمال شرق سوريا في منطقة سيطرة الأكراد، وقد أعلنت أيضاً المقاومة الإسلامية العراقية مسئوليتها عن كلا الحادثين.

رسائل الاستهداف

تعكس الاستهدافات العسكرية التي قامت بها "المقاومة الإسلامية" العراقية للقواعد الأمريكية في كل من العراق وسوريا عدة رسائل:

أولها، تشير إلى التسمية نفسها التي ظهرت بها بعض الفصائل المسلحة العراقية، والتي أطلقت على نفسها "المقاومة الإسلامية"؛ فوفقاً لمتخصصين فإن مصطلح المقاومة الإسلامية يشير إلى جماعات وفصائل مسلحة تابعة لإيران أصلاً وموجودة بالفعل داخل المشهد السياسي العراقي، إلا أن جمعها تحت تسمية حديثة النشأة يعود إلى رغبة إيران في توصيل رسالة لإسرائيل والولايات المتحدة مؤداها أن المليشيات المسلحة العراقية تعيد تموضعها تحت جبهة واحدة برعاية إيرانية، بالرغم من تنوع وتعدد هذه الجماعات، ما يعنى وحدة الهدف المتمثل في استهداف المصالح الأمريكية رداً على دعم واشنطن لإسرائيل، وذلك في ظل الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة. 

ثانيها، أن المصالح الأمريكية في منطقة المشرق العربي، لاسيما في العراق وسوريا، ليست بعيدة عن الاستهداف المباشر من قبل إيران، وهو ما يعنى بالضرورة إبقاء واشنطن في حالة تأهب دائم لأن الاستهدافات التي بدأت بالقواعد العسكرية قد تتطور لتشمل مقار السفارات الأمريكية نفسها، بصورة تعكس قدرة الفصائل المسلحة العراقية على إشاعة حالة من عدم الأمن والاستقرار لدى الولايات المتحدة ومصالحها في العراق وسوريا بصورة دائمة، الأمر الذى يشكل – في حال اتساع رقعة الحرب على غزة وتصاعد حدته – عبئاً كبيراً ومرتفع التكلفة على التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة.

ثالثها، أن الفصائل المسلحة العراقية التابعة لإيران ربما تكون بصدد تشكيل ما يسمى بغرفة عمليات مشتركة مع المقاومة الفلسطينية نفسها؛ أي تفعيل خيار "وحدة الساحات" لاسيما مع طول أمد العدوان الإسرائيلي على غزة أو الانتقال إلى مرحلة الغزو البرى للقطاع، بينما يرى آخرون أن غرفة العمليات المشتركة للمقاومة تضم 3 دول هي إيران ولبنان وسوريا إلى جانب حماس؛ وهذا يعنى تفعيلاً لما كان يسمى بمحور المقاومة والممانعة، ويدلل أنصار هذا الرأي بزيارة قام بها عدد من قيادات كتائب سيد الشهداء العراقية التابعة لإيران لمنطقة الحدود اللبنانية في مهام تنسيقية مع مقاتلين تابعين لحزب الله اللبناني، حيث يشير بعض المتخصصين إلى ارتفاع مستوى الاتصالات بين الفصائل العراقية وبين نظيرتها التابعة لحزب الله خلال الأيام الماضية تحسباً لقيام إسرائيل بتنفيذ غزو برى لقطاع غزة.   

احتمالات الانتقال من الدعم إلى الانخراط

ما سبق يشي بأن تحركات الفصائل العراقية المسلحة الأكثر ارتباطاً بإيران ضد القواعد الأمريكية في العراق وسوريا معاً ربما يؤشر إلى تزايد رقعة الصراع الإقليمي، وأن دولاً مثل العراق ولبنان وربما سوريا ليست ببعيدة عن هذا الصراع، فضلاً عن كونها تعاني فعلياً من أزمات سياسية واقتصادية طاحنة. فهل تنتقل الفصائل العراقية المنتمية لإيران من مرحلة الدعم والتنسيق في مواجهة إسرائيل - جراء عدوانها الأخير على قطاع غزة – إلى مرحلة الانخراط الفعلي في الحرب، بما يضع العراق تحديداً في مرمى تداعيات عملية طوفان الأقصى؟

ثمة استبعاد حالي لقيام إيران برفع مستوى التفاعل مع أزمة العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة إلى المواجهة المباشرة عبر الفصائل العراقية المسلحة؛ لأنها تعنى ببساطة إدخال العراق في مواجهة مباشرة مع إسرائيل واتساع رقعة الصراع، وهو ما لا ترغب فيه أي من الدول العربية من المشرق إلى المغرب العربي، بل تتجه الدول العربية إلى تفضيل التعامل مع إسرائيل والولايات المتحدة وفقاً لقناعات محددة تقوم على رفض التصعيد وإتاحة المجال لخيارات سلمية كالوساطة والمفاوضات وفق المرجعيات الدولية التي تخص القضية الفلسطينية. ومن ثم فإن العراق لن يسمح للفصائل المسلحة به – التابعة لإيران- دفعه إلى مواجهة مسلحة مع إسرائيل، لكنه في الوقت نفسه لن يمنع تلك الفصائل من رفع مستوى تنسيقها مع غيرها من فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين حال اتجاه إسرائيل إلى تنفيذ غزو برى داخل قطاع غزة، لأن المزاج السياسي العام والشعبي يميلان لإبداء التضامن مع المقاومة الفلسطينية على ضوء ما يرتكبه الاحتلال بحقها من مجازر وحشية وقمعية.

مع ملاحظة أن معطى استبعاد الانخراط من قبل الفصائل العراقية المسلحة التابعة لإيران في سياق الصراع مع إسرائيل على خلفية عدوانها الوحشي على قطاع غزة مؤخراً، لا ينفى بصورة قاطعة "احتمالية" انخراط محور المقاومة عبر فصائله المسلحة في عملية "طوفان الأقصى" حتى وإن كان بصورة غير مباشرة، أي عبر المواجهة مفتوحة الجبهات جغرافياً؛ فالمشهد بعد الاستهداف الوحشي لمستشفى المعمداني، بالإضافة إلى تصاعد حدة الغضب الشعبي العربي والإسلامي بات ضاغطاً وبقوة على القيادات والأنظمة السياسية، في دول مثل لبنان وسوريا وإيران.  

وربما تشير التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان إلى المعطيات السابق ذكرها؛ ففي معرض إجابته عن تساؤلات بشأن "ساعة الصفر" التي ستقوم فيها الفصائل المسلحة العراقية واللبنانية الولائية لإيران بالرد على أفعال إسرائيل بحق المقاومة الفلسطينية في غزة، قال إن حالة التنسيق بين الفصائل في أكمل صورها، وأن كافة السيناريوهات والاحتمالات بشأن تفاعلها مع الكيان الإسرائيلي محسوبة بدقة، وأن الرد على الاحتلال – حال قرر غزو قطاع غزة – سيكون قوياً وسيغير ليس فقط من خريطة الأراضي المحتلة، ولكن أيضاً من قواعد التفاعل الإقليمي ككل. ووفقاً لذلك، فمن المحتمل أن تزيد حدة انخراط الجبهة اللبنانية عبر حزب الله في "طوفان الاقصى" كلما زادت احتمالات التدخل البري للقطاع، وفى حالة تراجع مؤشرات التدخل فإن الجبهة اللبنانية ستستمر في توفير الدعم والإسناد للمقاومة الفلسطينية سواء حماس أو الجهاد عبر فتح عمليات التسلل إلى شمال إسرائيل للقيام بعمليات نوعية ضد النقاط العسكرية الإسرائيلية أو في المستوطنات الحدودية مع لبنان. بل تذهب إحدى الصحف المحسوبة على حزب الله اللبناني إلى التأكيد على أن دعوة مقتدى الصدر للاحتشاد الشعبي عند الحدود العراقية-الأردنية تم تخطيطها وتستهدف نقل بعض قوى المقاومة لتكون قريبة من الرقعة الجغرافية للحدث.    

وتجدر الإشارة هنا، إلى موقف الإطار التنسيقي الذي يضم القوى السياسية الشيعية، فعلى الرغم من تأكيده على حتمية دعم المقاومة الفلسطينية دعماً مباشراً في مواجهة إسرائيل وحربها الحالية على غزة، إلا أنها لاتزال منقسمة الرأي بشأن الانخراط العسكري الفعلي في المواجهات من قبل الفصائل العراقية المسلحة، لكن وفى حالة حدوث متغير نوعي على مجريات الحرب في غزة؛ كالتدخل البري، أو تعرض حلفاء إيران من الفصائل المسلحة في لبنان وسوريا إلى الاستهداف العسكري المباشر من قبل إسرائيل. فمن المحتمل أن يدفع ذلك عدداً من الفصائل العراقية المسلحة المدعومة من إيران إلى دخول المواجهة مباشرة.

وأخيراً، يمكن القول إن عملية "طوفان الأقصى" ألقت بتبعات كبيرة على الفصائل المسلحة التابعة لإيران في كل من العراق ولبنان وسوريا باعتبارها جزءاً من محور المقاومة والممانعة، وأن وحشية العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة فتحت المجال أمام تلك الفصائل للقيام بعمليات استهداف عسكري للقواعد والمصالح الأمريكية في كل من العراق وسوريا كرد على الدعم اللامحدود الذى تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، لكن تظل النقلة النوعية بحدوث انخراط أكثر تأثيراً من قبل تلك الفصائل على مجريات المواجهة بين قوات الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة في غزة متوقفة على احتمالات التدخل البرى الإسرائيلي للقطاع من ناحية، وعلى احتمالات الانخراط العسكري الأمريكي فيه من ناحية ثانية.