د. كريم القاضي

خبير - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن نية إسرائيل تدمير حركة المقاومة الإسلامية حماس وسحقها واقتلاعها من غزة في ضوء نجاح عملية طوفان الأقصى المفاجئة، وتمكن حماس من توجيه ضربة عسكرية قوية لحكومته، قتلت من خلالها ما يزيد عن 1300 إسرائيلي، وأسرت 130 آخرين، رغم خضوع القطاع للحصار الإسرائيلي منذ عام 2007.

وعلى إثر تلك العملية المؤثرة، تكون حماس قد حطمت القناعة الإسرائيلية بوجود رادع عسكري كافٍ للمقاومة الفلسطينية دون الحاجة للجوء إلى حلول سياسية وإنهاء الاحتلال، في واقعة ستُعد من أحد أهم دروس الفشل الاستخباراتي والعملياتي في تاريخ إسرائيل بعد حرب السادس من أكتوبر 1973.

ومما لا شك فيه، فإن سكان غزة سيتحملون ثمناً بشرياً ومادياً باهظاً جراء هجوم حماس يوم السبت 7 أكتوبر 2023 في صور قتلى وجرحى ونازحين نتيجة القصف الإسرائيلي الكثيف للقطاع، بالإضافة إلى قرب اجتياح إسرائيل البري بهدف تدمير قدرات حماس العسكرية ونزع سلاحها واستهداف قياداتها المحلية. غير أنه مع كل ذلك فقد لا تستطيع إسرائيل تغيير إدارة الحكم في القطاع واقتلاع حماس منه.

وتسيطر على الحكومة الإسرائيلية حالة من الغضب الشديد والرغبة في الانتقام، إلا أن خطر تحول الحرب مع حماس إلى حرب إقليمية تشارك فيها إيران وحزب الله، والأبعاد الدولية لهذه الحرب وبالأخص سعي الولايات المتحدة لعدم الانزلاق وراء إسرائيل فيها، بالإضافة إلى حجم السكان في غزة وتموضع الفصائل المسلحة داخل القطاع، إلى جانب احتجاز الأسرى والمأساة الإنسانية المحتملة، كل ذلك مجتمعاً قد يحول دون أن تستطيع إسرائيل تحقيق الهدف المعلن من حربها وهو اقتلاع حماس من سدة الحكم وتغيير نظام الحكم في القطاع، مثلما فعلت الولايات المتحدة ضد نظام طالبان في أفغانستان بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001.   

من يحكم القطاع بعد حماس؟

سيتطلب إعادة احتلال قطاع غزة والقضاء على حركة حماس والفصائل الأخرى التي تساندها حشد عدد كبير من قوات الجيش الإسرائيلي؛ فتجارب الدول في عمليات الاحتلال العسكري، ومنها الولايات المتحدة، تشير إلى ضرورة تواجد عدد كبير من القوات العسكرية ولمدة زمنية قد تطول من أجل بسط السيطرة على الأرض وبناء نوع من الاستقرار وتحقيق الأهداف السياسية المعلن عنها من جراء العمل العسكري، وإلا تخاطر الدولة المحتلة بإهدار فرصة تحقيق أهدافها.

وبالفعل، قامت إسرائيل باستدعاء ما يفوق 300 ألف جندي احتياط وذلك استعداداً للقيام بمهام هجومية ودفاعية وتحقيق بعض من الاستقرار الداخلي، وأبرزت بعض وسائل الإعلام أن إسرائيل قد تستخدم مالا يقل عن 50 ألف جندي لاقتحام القطاع مرة أخرى. وعلى ذلك، إذا حدث ذلك الاقتحام البري، ثم تبعته إسرائيل باحتلال القطاع، فسوف يتعين على حكومة نتنياهو إدارة شئون غزة مباشرةً، وإدارة شئون حوالي 2 مليون و300 ألف فلسطيني يومياً، وهو الأمر الذي سيمثل عبئاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً على إسرائيل.

من ناحية أخرى، لا يوجد بديل لحماس في القطاع تستطيع إسرائيل أن تتعاون معه لإدارة شئون غزة، فالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية رفضت إدانة حماس، وحمّلت إسرائيل مسئولية تفاقم الأوضاع بسبب استمرار الاحتلال وسياسات حكومة نتنياهو العنصرية، وتأييدها للتوسع الاستيطاني في الضفة والقدس الشرقية وغضها الطرف عن استفزازات المتشددين الإسرائيليين تجاه المقدسات الإسلامية والمسيحية. بالإضافة إلى كل ذلك فالسلطة بالتأكيد لن تقبل أن تعود لغزة على إثر الاجتياح الإسرائيلي.

أما البديل الآخر -الجهاد الإسلامي- فهو أكثر تشدداً تجاه إسرائيل من حماس ولن يقبل هو الآخر التعامل مع المحتل. وبالتالي، لن يكون هناك مفر من أن تحتل إسرائيل القطاع وتحكم غزة بنفسها أو أن تجد رغبة دولية وإقليمية في تأسيس كيان دولي للقيام بإدارة القطاع بعد طرد حماس منه، وهو الأمر المستبعد تماماً.

ومن ثمَ، فقد تقرر حكومة نتنياهو تجنب احتلال القطاع وتكتفي بعملية برية، ولكن محددة الأهداف تضعف بها من قدرات حماس العسكرية بحيث لا تشكل خطراً على إسرائيل، ولكن دون أن تزيل حماس من إدارة القطاع.

الرادع الإقليمي لاحتلال غزة: جبهات أخرى والعلاقات مع العرب

سيشكل احتلال غزة وإدارة شئونها والوقت الذي ستحتاجه إسرائيل للسيطرة عليها من الداخل عبئاً على قدراتها العسكرية وتشتيتاً لانتباهها السياسي عن الجبهات الأكثر تهديداً مثل الجبهة الشمالية مع حزب الله في جنوب لبنان، وجبهة الجولان المحتلة في الشمال الشرقي مع المليشيات المسلحة التابعة لإيران هناك.

وقد بدأ بالفعل حدوث تحركات عسكرية ومناوشات على تلك الجبهات وعمليات حشد للموارد من جانب حزب الله والمليشيات الإيرانية تحسباً لبداية مواجهات عسكرية مع إسرائيل. وستخضع أيضاً الضفة الغربية إلى مزيد من التواجد العسكري الإسرائيلي وذلك للحيلولة دون حدوث انتفاضة جديدة هناك.

وعلى ذلك، فباحتلال القطاع بعدد كبير من القوات البرية ستُحد إسرائيل من حرية حركتها العسكرية وتُقيد قدرتها على المناورة على أكثر من جبهة في آنٍ واحد، كما ستعطي الفرصة لإيران وحزب الله في تملك زمام المبادرة من حيث تصعيد العمليات العسكرية وتهديد إسرائيل حسب ما يرونه مناسباً لمصالحهم.

فضلاً عن أن احتلال غزة قد يُشغل إسرائيل عن ملف إيران النووي الذي يعده البعض هناك بمثابة الخطر الوجودي للدولة اليهودية. وبالتالي، فإن هذه المخاطر الإقليمية التي قد تنتج عن احتلال القطاع قد تدفع حكومة نتنياهو لإعادة النظر في رد فعلها والابتعاد عن فكرة احتلاله واقتلاع حماس منه.

ويبقى أيضاً في الجانب الإقليمي أن علاقات إسرائيل التقليدية ببعض الدول العربية وعلاقاتها الجديدة الناتجة عن الاتفاقيات الإبراهيمية وسعيها للتوسع في تلك الاتفاقيات مع دول عربية أخرى مثل المملكة العربية السعودية ستدخل في حسابات حكومة نتنياهو عما ستقوم به في قطاع غزة، حيث تساند كل الدول العربية حقوق الشعب الفلسطيني، وتعمل من أجل إنهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطين، وبعد عملية طوفان الأقصى تسعى تلك الدول من أجل تجنيب سكان غزة المدنيين ويلات الحرب. وبالتالي، قد تُشكل مجموع تلك العلاقات في الفترة الحالية حائلاً ما عما قد تقوم به إسرائيل من عمليات داخل القطاع حتى لا تنتكس علاقاتها مع تلك الدول وتَحدُ من فرص اندماجها التدريجي في الإقليم، وتمنع مشاركتها في بعض الكيانات الخاصة بالتعاون في مجالات الاقتصاد والأمن الغذائي وأمن الطاقة وظاهرة التغيُر المناخي.

يضاف إلى ذلك إن بعض تلك الدول العربية تقوم بالفعل بطرح مبادرات سياسية من أجل تهدئة الموقف والحد من التصعيد وفتح ممرات إنسانية إلى داخل غزة، وأخيراً إطلاق سراح الأسرى والرهائن، مما يشير إلى احتمالية تأثير تلك الدول بشكل ما على حسابات إسرائيل في نوعية الحرب التي ستخوضها ضد حماس.

إدارة بايدن وتهدئة الإقليم

يبقي العامل الدولي في الأزمة الراهنة ودور الولايات المتحدة في السعي نحو مساندة إسرائيل في حربها ضد حماس، ولكن احتواء حكومة نتنياهو في آنٍ واحد لتبقى الحرب بين إسرائيل وحماس فقط دون تصعيد مفرط قد ينتج عنه سوء تقدير من أحد الأطراف، سواء إيران أو حزب الله أو إسرائيل ذاتها.

فقد لجأت واشنطن منذ بداية الأحداث إلى تأكيد مساندتها لإسرائيل وتقديم كافة أنواع الدعم العسكري والمادي لها، كما بدأت إدارة الرئيس بايدن في حملة دبلوماسية لدعم إسرائيل دولياً. ثم قامت الولايات المتحدة برفع قدراتها العسكرية في المنطقة لتثبيت حالة الردع ضد إيران، وذلك من خلال إرسال حاملة الطائرات الحديثة "جيرالد فورد" ومجموعة بحرية مقاتلة إلى منطقة شرق البحر المتوسط، والتأكيد إعلامياً ودبلوماسياً على ضرورة عدم استغلال الموقف الحالي ضد إسرائيل. وكان يُقصد بهذه الرسالة إيران، التي تتشابك هي وإسرائيل في ميادين مختلفة في المنطقة.

ويتماشى الموقف الأمريكي مع سعي إدارة بايدن إلى تهدئة الإقليم ومنع إسرائيل من توجيه ضربة عسكرية إلى إيران بسبب برنامجها النووي لما في تلك الضربة من أخطار على المصالح الأمريكية في استقرار النظام الدولي ومصالح حلفاء واشنطن في المنطقة وفي أوروبا، ورغبة واشنطن أيضاً في إعطاء نفسها فرصة للتوصل إلى تفاهم ما مع إيران للحيلولة دون حصولها على السلاح النووي، ولكن دون اللجوء إلى عمل عسكري ضدها.

يضاف إلى ذلك شروع واشنطن في التقريب بين إسرائيل والسعودية وذلك لضم المملكة إلى الاتفاقيات الإبراهيمية وتوسيع دائرة السلام العربي-الإسرائيلي، الأمر الذي يخدم المصلحة الأمريكية في خفض التوتر وتشجيع حلفاء واشنطن على التعاون معاً مباشرةً، وبالتالي يتيح ذلك الواقع الجديد لإدارة بايدن تركيز انتباهها ومواردها على الصين. وقد يصعب الآن إبرام هذا الاتفاق، إلا أنه ليس بالمستحيل في حالة نجاح واشنطن في التأثير على رد فعل إسرائيل العسكري تجاه غزة واحتواء سياستها التصعيدية، بحيث تؤيدها في رد فعل قوي ومحدد تجاه حماس، ولكن دون احتلال وتغيير إدارة الحكم في القطاع.

الخبرة الأمريكية في احتلال أفغانستان والعراق تؤكد نفس خبرة إسرائيل في احتلال جنوب لبنان وغزة سابقاً بأن الاحتلال العسكري لا ينجح كثيراً في تحقيق أهدافه السياسية ولا يؤدي بالضرورة إلى زيادة الأمن، فالولايات المتحدة أزاحت حكم طالبان وبقيت في أفغانستان عشرين عاماً، وعندما انسحبت في عام 2021، انسحبت لنفس النظام الذي بدلته بالقوة. وبالتالي، فإن أهداف الولايات المتحدة الحالية وخبراتها السابقة قد تدفع عمليا في اتجاه صعوبة إزاحة حماس من القطاع وبقائها في حكم غزة رغم روح الانتقام السائدة في إسرائيل.

وأخيراً، فإن اقتحام غزة واحتلالها عسكرياً ربما يكون المرحلة الأسهل لإسرائيل في حلقة الصراع الحالية بينها وبين حماس، ولكن يبقى ما يحدث بعد الاحتلال وتبعاته من حكم وإدارة شئون ما يزيد عن 2 مليون فلسطيني وفرص اندلاع مقاومة مسلحة تجاه المحتل تكون في غالب الأمر أكثر استنزافاً للموارد البشرية والمادية لإسرائيل وأقواها إنهاكاً لمؤسساتها. وعلى ذلك، فالوقت كفيل لكي نرى ما ستنتهي إليه الأحداث الجارية، حيث أن بقاء حماس في سلطتها في غزة حتى وإن كانت بعد ضربة عسكرية مؤلمة من إسرائيل سيُعدُ بالنسبة إليها انتصاراً كبيراً.