نصر أكتوبر يكتسب خصوصيته وأهميته من جوهره ومدلولاته النفسية والشخصية المرتبطة بالهوية المصرية وصلابة المجتمع والدولة، فكان رفض الهزيمة وتحويلها لكتلة من الغضب والمقاومة الإيجابية أول ما كشف عنه هذا النصر، والدرس الأعمق المتوافق مع حيوية الذاكرة الوطنية ومفهوم الأمة الرافضة للاحتلال ومقاومته أيا كان الثمن والتضحية، فالقدرة على تجنب الانكسار والشعور بالإحباط وتجاوز الصدمة، عبر بوضوح عن الوعى الشعبى بأهمية استدعاء التاريخ وتنشيط الذاكرة الوطنية التى شكلت جانبًا من تكوين الإنسان المصرى اجتماعيا وثقافيا وقيميا، فاختلاف العدو أو الزمن لا يشكل تغييرا فى مسار التحرر الوطنى وما أنتجه من صلابة فى البنيان الاجتماعى المصرى.
كشف النصر أيضًا وما صاحبه من تخطيط وعلم ومعرفة وتضحية وتكلفة على مدى ست سنوات، عن قدر ما عبرت عنه هذه السنوات من قدرة على اكتشاف الذات المصرية وتجديد روحها، فالاعتراف بالهزيمة عام 1967 شكل خطوة بناء صحيحة لإعادة فهم المستجدات ومتطلبات الانتصار، جنبا إلى جنب مع إحياء روح المقاومة، والثقة فى الذات، وتنشيط الذاكرة الوطنية.
كشف النصر كذلك أن الهزيمة فى معركة لا تعنى هزيمة الحرب، وأن الانتصار فى معركة لا يعنى الانتصار فى الحرب، فرغم انتهاء الحرب بمفهومها التقليدى، إلا أن رحاها ما تزال تدور حتى الآن وإن اتخذت أشكالًا مختلفة أعداء ومتربصين أكثر. فالحرب تجاوزت صورتها التقليدية الممثلة فى عدو ظاهر يسعى لاحتلال الأرض والسيطرة على مقدرات وموارد الدولة، فقد أصبحت أكثر شراسة ومجالاتها أكثر اتساعا، حيث اشتملت على أنواع جديدة من الاحتلال بالسيطرة على العقول والأفكار الدافعة لاختراق المجتمعات وخلخلة بنيانها الاجتماعى.
فالأجيال الجديدة من الحروب أصبحت لا تعتمد فقط على الأسلحة التى أصبحت أكثر خطورة وتدميرا، ولكنها أصبحت جزءًا من منظورة متكاملة لتغيير بنية وشكل العلاقات وتفاعلاتها الدولية، فالعولمة الاقتصادية والثقافية لا تنفصل عما أحدثته الثورة التكنولوجية وما يتوقع من تطور الذكاء الصناعى من تركيز على هوية الإنسان وكيانه بعد أن اخترقت أفكار العولمة الكثير من الثقافات والقيم والأفكار المرتبطة بالدولة وسيادتها، وعلاقاتها بتشكيل ما يسمى بالمجتمع العالمى والمواطن العولمى وتوظيف الليبرالية المالية والذكاء الصناعى والثورة التكنولوجية فى زيادة الفردية والمادية والنمط الاستهلاكى.
بل إن ضراوة تلك الحروب سوف تتزايد مع تنامى درجات الاستقطاب الثقافى بين النموذج الغربى الراسخ الواسع الانتشار، وبين نموذج آسيوى صاعد وفى مقدمته النموذج الصينى، لتضعنا أمام جملة من التحديات التى لا تقتصر على مصر والمجتمعات النامية، ولكنها ستفرض نفسها داخل العديد من المجتمعات الغنية والمتقدمة. هذه التحديات تفرض أهمية تنشيط الذاكرة التاريخية الوطنية لمواجهة هذا الغزو الثقافى والقيمى، والاستناد للهوية الجمعية، وتقوية البنيان الاجتماعى، كسبيل للتقليل من حدة “تسونامى” التغيير الذى يجتاح العالم ثقافيا وعقائديا وقيميا.
أولًا: التاريخ والهوية فى زمن الإرباك
حرب أكتوبر تحمل فى سيرورتها الكثير من الدروس والمعانى الدالة على عمق وصلابة الشخصية المصرية، ورسوخ قيمة الأمة ودولتها الوطنية، فهى امتداد طبيعى لحركة التحرر الوطنى، ورفض الهزيمة أو الانكسار، والتصدى للإرادات الدولية الرافضة أو المحجمة لمشاريع النهوض المصرى (مشروع محمد على، ومشروع يوليو 1952)، أو تلك القوى العالمية الساعية لإعادة هندسة المنطقة وفقا لمصالحها، مثل مشروع الفوضى الخلاقة التى اجتاح المنطقة ولا تزال تداعياته مستمرة منذ عام 2011.
فرمزية النصر ترتبط بعدم القدرة على اختراق الأمة المصرية حتى فى لحظات ضعفها، وان الصمود والنهوض يقترن دائما باستيعاب المتغيرات والمتطلبات، فكانت خطة الخداع الاستراتيجى، وتحطيم أسطورة الجيش الذى لا يقهر، ودك خط بارليف، ومعركة المنصورة الجوية، وموقعة تبة الشجرة، ومواجهة الثغرة ، وغيرها من الملاحم والصورة المقترنة بتضحيات الجندى المصرى وكفاءته.
الذاكرة التاريخية الوطنية، لا ترتبط بمناسبات ولا بإحصاء السنوات، ولا باسترجاع الذكريات للتفاخر أو استخلاص الدروس والخبرات، ورغم أن جميعها أهداف وعوامل دافعة لتمييز المجتمعات والدول وتجسيد هويتها ومسارات تطورها، ولكن يبقى الوعى بأهمية الذاكرة الوطنية وترسيخها فى عقل ووجدان الإنسان وهويته فى مقدمة عملية البناء وترسيخ المجتمعات والدول، وخاصة فى لحظات التحولات الكبرى التى تنعكس بالضرورة على الأشخاص، فحالة الارتباك والاضطراب التى تتعلق بالهوية فى زمن العولمة والتحول الإدراكى والمعرفى مع الذكاء الصناعى، تثير العديد من التحديات المرتبطة بكتابة التاريخ والمرجعية التى تحملها المصادرة المتعددة التى تتيحها شبكات التواصل الاجتماعى، وانعكاس ذلك على الذهنية الفكرية لأجيالنا الراهنة والمستقبلية، فالقدرة على الفرز والوعى والحكم على الروايات المتعددة سوف تكون من الصعوبة بمكان، لاسيما وأن المتاح على شبكات المعلومات يحكمه اللغات الأجنبية ومرجعيات ونظرة مختلفة، فهو يستند للروايات الأكثر شيوعا والأكثر إتاحة والتى قد لا تكون الأكثر صدقا، مما يثير الكثير من اللبس والضبابية حول أحداث وواقع شكل وجدان ورؤية أجيال لتاريخهم وحضارتهم مما ينتج الفجوة بين الأجيال ورؤيتهم لمسارات التاريخ الوطنى.
فالوعى بالتاريخ واستحضاره لايعنى التعلق بالماضى ومحاولة إسقاطه على الحاضر، ولكن يعبر عن تجسيد لرؤية الأمم والمجتمعات لنفسها وهويتها، كما أن الجانب الوطنى من الذاكرة التاريخية يعبر عن روح ومكنون الجانب الصلب من المجتمع ، فهو لا يقتصر على ذاكرة جماعة ولكن يعبر عن التوجهات الحاكمة والقناعات الراسخة والمسارات والتضحيات والاختيارات الشعبية التى حافظت على روح الأمة وتماسكها.
الذاكرة الجمعية تعتمد على الحفظ والتذكر والاستدعاء كثلاثية متكاملة لتشكيل الذاكرة وتنشيطها باستمرار، فتلك الثلاثية لا تقتصر على الذاكرة الوطنية ومسارات التحرر الوطنى الذى تطرحه “أحوال مصرية” فى هذا العدد، ولكن نسعى للتعامل مع بعض الأحداث والوقائع من منظورها الاجتماعى تاريخيا، فهى ليست أحداثًا مجردة من سياقها الإنسانى والعاطفى، ولا من الانحياز والانتقاء للمحطات الماضية فى التاريخ الوطنى للدولة والمجتمع ولا تتجاهل موجات الضعف والتخلف والاحتلال التى عصفت بالدولة، ولكننا نقف أمام محطات تاريخية معبرة عن العمق الحضارى ومساراته الوطنية الممتدة منذ قرون. فتاريخنا المكتوب والذى يعود إلى ما يزيد عن الخمسة الآلف سنة ، يعطى الحق لهذه الدولة ولشعبها بالافتخار بعمقها الحضارى والإنسانى، كما أنه يعطى الالتماس والتفهم لمراحل التاريخ التى حملت فيها أثمان الانهيار والسقوط.
من هنا كان اختيار موضوع العدد والتركيز على قضية التحرر الوطنى كمحدد واضح على هوية ومرتكزات الشخصية المصرية، التى ترفض وتقاوم ما يفرض عليها، بل أو يتعارض مع استقلالها مهما طال الزمن وقست وطأة المحتل أو الغريب المتعالى الساعى لتشويه تلك الهوية، ولا يعنى ذلك أن تلك الهوية أو الشخصية ظلت جامدة، بل العكس.
فقد تطورت الشخصية المصرية واكتسبت مقوماتها عبر الاختيار والانحياز الثقافى والدينى والقيمى، وعبرت عنه بوعى الأمة الواحدة المتجانسة، وحرصت على تحقيق ما فرضه من متطلبات معززة لتماسك بنيانها، وهو ما تترجمه الكثير من التفاعلات والأحداث التى فرضت نفسها على المجتمع عبر التاريخ كواقع وتحد، وتعبر عنه كلمات بسيطة عميقة المعنى والدلالة مثل: “مصر للمصريين”، “يحيا الهلال مع الصليب”، “والدين لله والوطن للجميع” و“شيعى الهوا سنى المذهب”، و“طن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن”. فهذه الكلمات ليست مجرد شعارات ولكنها تعبير حقيقى عن جوهر الذاكرة الجمعية التى تنشط وقت الأزمات أو فى لحظات تهديد النسيح الوطنى ووضع مفهوم الأمة المصرية على المحك، فاسترجاع هذه الذاكرة فى لحظات الشعور بالخطر، يعكس ترسخ التجارب التاريخية ودورها فى تنشيط مخيلة المصريين أيا كان مصدر الخطر داخلى أم خارجى، فمقاومة الفرنسيين أو الإنجليز أو الإسرائيليين، وما شهدته حركة عرابى ودور عبدالله النديم ومرقص نبيه، وتشكيل الوفد المصرى ودور واصف بطرس غالى وجورج خياط وآخرين بجانب سعد زغلول، وما ترجمه صعود القمص سرجيوس ليخطب فوق منبر الأزهر أثناء ثورة 1919، ومقاومة العدوان الثلاثى وصعود الرئيس عبدالناصر لمنبر الأزهر عام 1956، جميعها صور تؤكد التلاحم الشعبى الذى تجسد فى الحرب والمقاومة ودعم المجهود الحربى خلال حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، وما شهدته يناير 2011 ويونيو 2013 من محاولات لزرع الفتنة المجتمعية فكان استرجاع أشعار شوقى وحافظ إبراهيم وأغانى سيد درويش وغيرهم صورة حية وتجسيدًا للهوية الوطنية الجامعة، تلك المحطات المضيئة التى يتم استرجاعها لمواجهة محطات وأحداث شهدت توترات واهتزازات مجتمعية، تشير بوضوح لأهمية تنشيط الذاكرة الجمعية بشكل مستمر، كسبيل لتعزيز تلك العلاقة الارتباطية بين الحدث التاريخى ووعى الافراد بالقدر الذى يساهم فى تنشيط الذاكرة الوطنية وفى القلب منها الهوية الذاتية والمجتمعية.
ثانيًا: روافد تنشيط الذاكرة
1ـ التاريخ والهوية: نقش تاريخ مصر على جدران المعابد حفظ التاريخ، وكشف عمق الحضارة وفلسفتها وعبر بوضوح عن هوية المصريين، ورسخ فى أعماق الذهن المصرى أهمية توحيد الأمة، وقد شكلت قضية الاستقلال ومقاومة المحتلين أحد أوجه التعبير عن الذات تجاه الغريب، ومقومًا حاكمًا لأركان بناء الدولة الحديثة وحركتها الوطنية مثال أحمد لطفى السيد ودور حزب الأمة (أول حزب ينادى بالهوية المصرية) ومصطفى كامل والحزب الوطنى، وسعد زغلول ومطالبته بتوحيد الأمة، ورفع شعار التعليم لمقاومة الجهل والمستعمر، ودمج الحركة النسائية فى قضية التحرير، ونص دستور 1923 على لفظ المصريين، فتجديد الهوية واستيعابها للهويات والثقافات الفرعية والوافدة كان أهم ما يميز الهوية الوطنية الجامعة، ولذا حملت الذاكرة التاريخية المصرية الكثير من الشواهد المعبرة عن المساهمات الوطنية لغالبية الفئات والقوى المصرية، بالقدر الذى لا يجعلها حكرًا على جماعة أو فصيل سياسى.
2ـ الذاكرة الجمعية والتنشئة الاجتماعية: تعبر عن مساحة المشترك بين مكونات المجتمع، وانعكاساتها الإيجابية على النظرة للماضى والحاضر والمستقبل، وطبيعة الروافد المغذية لكافة هويات وذكريات الجماعات المكونة للوطن، بحيث تعكس الشعور بالولاء والانتماء والمواطنة ووحدة الهوية الوطنية الجامعة لباقى الهويات الفرعية. من هنا تأتى أهمية عملية بناء وصياغة الذاكرة التاريخية وطريقة تناولها خاصة مع تعدد الروايات وما تشهده من مخزون شعبى ومجتمعى كبير من البطولات والتضحيات والأساطير.
3ـ الوعى الجيلى بالتاريخ الوطنى وحركة التحرر ومراحل النضال والتضحيات مسألة ليست من الرفاهيات أو القضايا التى يمكن تأجيلها، فحالة الاغتراب والاستلاب الثقافى والنفسى التى تضرب بعمق فى نفسية قطاع ليس بالقليل من اجيال “زد وألفا” سوف تترك بصمات عميقة فى رؤية وهوية ونظرة هذا الجيل للدولة والمجتمع، فهذا الجيل الرقمى يستقى معارفه من مصادر ذات ثقافة وقيم ورؤى مخالفة عن واقعنا، وبالتالى تظهر أهمية التعليم والثقافة وسبل تنشيط الذاكرة الداعمة للشعور بالثقة والمصداقية والافتخار والعمق الحضارى والهوية المصرية.
4ـ حماية الذاكرة التاريخية الوطنية والوقوف على رواياتها المتعددة، ودعم سبل المحافظة وتنشيطها تتطلب مزيدًا من الاهتمام من جانب مؤسسات الدول ومنظمات المجتمع الأهلى بحيث لا يقتصر على الاهتمام بالمتاحف بل يجب أن يمتد لتفعيل دور ومكانة جهات مثل: الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، والجمعية الجغرافية، ومكتبة الإسكندرية (الذاكرة المعاصرة)، وأرشيف الدولة المصرية، ودار المخطوطات والوثائق، والجهات المعنية بحماية التراث الشعبى والثقافى والعمرانى، وأن يتم الاستفادة من التطورات التكنولوجية فى المحافظة ونشر المعرفة بهذا التاريخ.
التنوع الثقافى والتراثى المصرى هو أحد مميزات الشعب المصرى، ولذا يكتسب الوعى بالتاريخ معاني وقهم أعمق بمساراته ورواياته المتعددة، وسبيلا لفهم مسارات تطور المجتمع، وبناء الشخصية المصرية، ومحددًا لمعرفة جيل جديد بمكنون وجوهر هويته.