باغتت المقاومة الفلسطينية عبر عملية "طوفان الأقصى"، التي بدأت في 7 أكتوبر الجاري (2023)، وما رافقها من مشاهد غير مسبوقة من تغلغل للعناصر الفلسطينية في الداخل الإسرائيلي والاستيلاء على معدات عسكرية وأسر عسكريين إسرائيليين، الحكومة الإسرائيلية التي تعاني بالأساس من أزمات داخلية تهدد استقرارها؛ إذ كشفت هذه العملية عن حالة الهشاشة والضعف التي يعاني منها الداخل الإسرائيلي، والتي انسحبت إلى المؤسسات الأمنية التي فشلت في توقع هذا الهجوم. وعلى الرغم من اتجاه البعض إلى النظر إلى هذه العملية باعتبارها فرصة لتوحيد الصف الإسرائيلي وتخفيف الضغوط الداخلية التي يواجهها الائتلاف الحكومي، إلا أن هذا لا يمنع التداعيات المحتملة لهذه العملية على استقرار الحكومة الإسرائيلية اليمينية، خاصة أنها تؤكد سردية المعارضة بتعريض السياسات المتطرفة لهذه الحكومة أمن إسرائيل للخطر. ومن ثم، تثير هذه المعطيات تساؤلا حول مستقبل الحكومة الإسرائيلية ومآلاتها المحتملة في ضوء عملية التصعيد الأخيرة.
معطيات الوضع الراهن
فرضت العملية العسكرية النوعية "طوفان القدس" التي قامت بها حركة حماس وجناحها العسكري "كتائب القسام" معطيات جديدة لطبيعة الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:
1- فرض قواعد اشتباك جديدة: عكس شكل الهجوم للعملية العسكرية التي خاضتها حركة حماس من ناحية توغل عناصرها في أراضي غلاف غزة التي تحتلها إسرائيل، برًا وجوًا وبحرًا، وعدم الاكتفاء فقط بالرشقات الصاروخية وفق النمط المعتاد للتصعيد، قواعد جديدة للاشتباك تجمع بين المستويين التكتيكي والاستراتيجي، وكان التطور أن المبادرة هذه المرة جاءت من الجانب الفلسطيني، على نحو عكس حالة الانكشاف في عملية الردع التي تعانيها المؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية تحت وطأة أزمات الداخل التي يواجهها الائتلاف الحكومي نتيجة سياساته المتطرفة.
2- تعزيز الموقف التفاوضي المستقبلي لحركة حماس: من شأن المكاسب التي جنتها حركة حماس في ساحة المعركة خلال العملية العسكرية من خلال أسرها لعدد كبير من العسكريين الإسرائليين، وتداول بعض التقارير الأخبار عن أسر قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي نمرود آلوني، وهو ما أكده رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، اسماعيل هنية، أن تعزز الموقف التفاوضي المستقبلي لحماس مع تل أبيب، والتي سيجعلها هذه المرة في موقف أضعف.
3- تعزيز قبضة حركة حماس على القطاع: أحدثت العملية العسكرية "طوفان الأقصى" أصداء إيجابية في الشارع الفلسطيني، وعززت الحاضنة الشعبية لمسار المقاومة المسلحة، ومن شأن ذلك أن يعزز من شعبية وقبضة حماس على القطاع، وفي الشارع الفلسطيني بشكل عام، خاصة في ظل حالة الخفوت والتراخي التي اُتهمت بها خلال الفترة الماضية نتيجة عدم انخراطها في تصعيد الفصائل ضد إسرائيل. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الموقف الجديد لحركة حماس سيؤثر بدوره على موقف السلطة الفلسطينية من زاوية كونها الطرف المسئول عن تلبية احتياجات الشعب الفلسطيني، والدفاع عن القضية الفلسطينية، وهو ما يشكل نقطة ضعف جديدة لاعتبارات المصلحة الإسرائيلية.
4- إعادة الزخم للقضية الفلسطينية في مواجهة المشروعات الإقليمية الجديدة: أعادت العملية العسكرية "طوفان الأقصى" حالة الزخم للقضية الفلسطينية على الأجندة الإقليمية، وأنهت طموحات تل أبيب للإعلان عن "الموت الإكلينيكي" للقضية الفلسطينية، وبالتالي فرضت هذه المعطيات القضية الفلسطينية باعتبارها رقمًا مهمًا لا يمكن تجاهله في حسابات المشروعات الإقليمية المرتبطة بمسار الاتفاقات الإبراهيمية.
تشكل هذه المعطيات السابقة نقاط ضعف عميقة للموقف الأمني الإسرائيلي، واعتباراته المصلحية، وهو ما يتحمل مسئوليته الائتلاف الحكومي الراهن، وستسعى المعارضة بعد انتهاء العملية الإسرائيلية "السيوف الحديدية" التي تخوضها تل أبيب في الوقت الحالي كرد على ما قامت به حركة حماس، إلى استغلال هذه النقاط لتأكيد سرديتها بشأن تعريض السياسات المتطرفة للائتلاف الحكومي الراهن أمن إسرائيل وحياة الإسرائيليين للخطر.
الداخل الإسرائيلي والانعكاسات المحتملة
ألقت العملية العسكرية "طوفان الأقصى" بظلالها على الداخل الإسرائيلي الذي يعاني بالأساس من أزمات عميقة يأتي في مقدمتها حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي، وتصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد الإصلاحات القضائية، وكذلك الأزمات الهيكلية التي يواجهها الجيش، لتزيد هذه العملية من أعباء التحديات التي يواجهها الداخل، ولكن هذه المرة في المجال الأمني الذي ثبت انكشافه وضعف معادلة الردع التي ظلت تفخر بها المؤسسات الأمنية والعسكرية.
ويحاول الائتلاف الحكومي الإسرائيلي برئاسة نتنياهو التعامل في الوقت الراهن مع تداعيات التصعيد الأخير وتحجيم آثاره المستقبلية على استقرار الحكومة التي يحمّلها الرأي العام الإسرائيلي مسئولية ما حدث، نتيجة فشلها في الكشف عن مخطط الهجوم وتوقعه، وكذلك الفشل في التعامل معه.
وفي سبيل ذلك، أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن اتخاذ إجراءات تصعيدية لمواجهة ما أسماه "الحرب"، مؤكدًا – بحسب وصفه – أن الرد سيكون "بحرب لا هوادة فيها لم يعرفها العدو من قبل"[1]، وتم الإعلان عن إطلاق عملية عسكرية ضد القطاع تحت اسم "السيوف الحديدية"، بالإضافة إلى استدعاء الالآف من الجنود الاحتياط. من جانبه علق وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت على هجوم حماس قائلاً: "سنغير وجه الواقع في غزة لسنوات من الآن"[2].
وبالتالي، تعكس هذه الخطابات مسارات التصعيد المحتملة التي ستقوم بها إسرائيل ضد القطاع من أجل تحييده في أية مواجهات قادمة، بيد أن معوقات هذا التصعيد تظل محكومة بحسابات تل أبيب من احتمالية تفجر الساحات الأخرى، خاصة الساحة الشمالية ودخول حزب الله على خط المواجهة.
ارتباطًا بمعطيات الداخل الإسرائيلي وما يواجهه من أزمات، وكذلك معطيات الوضع الراهن الجديد والتي فرضتها العملية العسكرية "طوفان الأقصى" على النحو المشار إليه سلفًا، فإنه يمكن قراءة المسارات المحتملة لتداعيات التصعيد الأخير على مستقبل الحكومة الإسرائيلية، على النحو التالي:
1- تشكيل حكومة وحدة وطنية طارئة: يعد هذا المسار أحد الخيارات المطروحة بقوة في الوقت الراهن باعتباره يمثل المخرج الآمن للأزمات المطروحة حاليًا. في هذا السياق، التقى رئيس الوزراء نتنياهو، وكل من زعيم المعارضة يائير لابيد، وزعيم حزب الوحدة الوطنية بيني غانتس، في أعقاب التصعيد الأخير، وناقشا تشكيل حكومة طوارئ، لتكون على غرار حكومة ليفي إشكول التي انضم إليها زعيم المعارضة -آنذاك- مناحيم بيجن قبل حرب 1967 بحسب بيان حزب الليكود[3]. ورغم إبداء المعارضة مرونة في الانضمام إلى حكومة طوارئ ضيقة ومهنية ووضع الخلافات جانباً، من أجل إدارة ما وصفه لابيد بـ"العملية الصعبة والمعقدة التي تنتظرنا"، بيد أنه أكد على "أنه سيكون من المستحيل إدارة حرب مع التشكيلة المتطرفة والمختلة للحكومة الحالية"، داعياً نتنياهو لاستبعاد حزبي "الصهيونية الدينية" و"عوتسما يهوديت" اليمينيين المتطرفين من الحكومة من أجل ضم "يش عتيد" إلى الائتلاف"[4].
ومن المتوقع أن يلقى هذا الخيار قبول نتنياهو الذي سيرى فيه طوق نجاة لاستمراريته في المشهد وامتصاص موجة الغضب المحتملة في أعقاب العملية العسكرية الراهنة، إلا أنه يفضل أن يتم ذلك دون الإضرار بعلاقته مع شركاءه في الائتلاف بحيث يُمسك العصا من المنتصف، حيث أبدى قبوله انضمام لابيد وغانتس بمناصب وزراء دون حقائب[5]. وبالتالي، سيمثل ذلك إحدى العقبات التي ستقف حجر عثرة أمام تنفيذ هذا الخيار في ظل تمسك المعارضة وكذلك نتنياهو بشروطهما.
أيضًا تجدر الإشارة إلى أنه من المتوقع أن يحظى هذا الخيار -وفقًا لصيغة المعارضة- بدعمٍ غربي، خاصة من جانب الولايات المتحدة، حيث ترغب الأخيرة في استبعاد الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تعرقل عملية تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل نظراً لعدم استعدادهم لإبداء المرونة بشأن أية أثمان سياسية تتعلق بالقضية الفلسطينية، وهو ما سيفقد الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة بايدن إحدى الأوراق المهمة في السباق الرئاسي القادم[6].
2- الحفاظ على استقرار هش للائتلاف: قد يتجه رئيس الوزراء الإسرائيلي وشركاؤه في الاتئلاف الحكومي إلى الإبقاء على الوضع الراهن، والعمل على تخفيف الضغوط الداخلية والقفز إلى الأمام، من خلال استغلال العملية العسكرية الأخيرة، وحشد وتعبئة الداخل لمواجهة الخطر الوجودي الذي طال استقرارهم على نحو غير مسبوق. بيد أن هذا المسار من شأنه تحقيق استقرار هش للائتلاف الراهن لأنه لن يلغي المسئولية عن تداعيات العملية العسكرية، وكذلك حالة الاحتقان لدى الرأي العام الإسرائيلي جراء السياسات المتطرفة للائتلاف، خاصة تلك المتعلقة بالإصلاحات القضائية التي أدخلت الدولة العبرية في دوامة الأزمات الراهنة وأضعفت قدرتها على المواجهة.
إجمالاً، تواجه إسرائيل في الوقت الراهن واقعاً مأزوماً ومركبا من التداعيات، على نحو يجعل الخيارات المطروحة للحل محدودة ومتباينة التكلفة وفقًا لحسابات الأطراف المنخرطة في المشهد الراهن، خاصة أن الاعتبارات الشخصية ستكون حاضرة في حسابات تلك الأطراف. ومن ثم، يُعوّل في تلك اللحظة على ترجيح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الخيار الأقل كلفة بالنسبة له، والذي يضمن استمراريته في المشهد أو ضمان الخروج الآمن، وسواء اتجهت الأمور إلى هذا الخيار هذا أو ذاك، فإن إسرائيل ستكون على موعد مع فصل جديد في صراعها مع الفلسطينيين وفقًا لمعطيات جديدة فرضتها عملية التصعيد الأخيرة، التي عززت حالة الضعف التي يعانيها الداخل الإسرائيلي، والذي سيحتاج لسنوات طويلة لمعالجة آثاره.