صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

يمكن النظر إلى الاستهداف المسلح لحفل تخرج طلاب ضباط الكلية الحربية فى مدينة حمص السورية فى الخامس من أكتوبر الجارى (2023)- والذى خلّف خسائر بشرية كبيرة قدرتها الحكومة السورية بنحو أكثر من مائة قتيل، وأكثر من مائة وخمسين مصاباً ما بين عسكريين ومدنيين - فى إطار أوسع وأشمل من مجرد اعتباره "حادثاً إرهابياً" لم يتم تحديد الجهة المسئولة عنه حتى كتابة هذه السطور، لاسيما وأن هذا الاستهداف يأتى بعد عدة مستجدات شهدها ملف الأزمة السورية على مدى الشهرين الماضيين؛ ما قد يعبر عن مسار جديد قد تشهده الأزمة عنوانه العام عودة الصراع المسلح إلى واجهة الأحداث مجدداً بعد أعوام من الجمود والثبات الذى شهدته خريطة التفاعلات الدولية والإقليمية بشأنه من ناحية، وبعد فترة استطاع فيها النظام السورى إعادة إنتاج نفسه باعتباره الطرف الأقوى فى معادلة الصراع مع المعارضة من ناحية ثانية، وهو ما أتاح له فرصاً متعددة مكنته فعلياً من الاندماج فى معادلة التفاعلات الإقليمية خلال العامين الماضيين؛ وذلك عبر بوابة التطبيع بعودة العلاقات العربية السورية، واستعادة دمشق لمقعدها فى الجامعة العربية من ناحية، والتقارب مع قوى إقليمية مناوئة مثل تركيا من ناحية ثانية. وإن جاءت نتائج عملية التطبيع العربى السورى، ونتائج التقارب مع تركيا أقل بكثير مما كان متوقعاً لها، فبدا وأن مسار التطبيع توقف عند حد عودة سوريا إلى الجامعة العربية، ولم تتحرك مبادرة "خطوة مقابل خطوة" التى أعلنتها الدول العربية "تحركاً نوعياً" يمكن من خلاله الحديث عن خرق فعلى فى مسار العلاقات العربية مع سوريا لتصل إلى مرحلة التعاون الاستراتيجى، كما كان مأمولاً لها، وانعكس هذا التصور فى توقف عجلة التطبيع السريعة أو على أقل تقدير "تباطؤها"  لاسيما بين النظام السورى والسعودية على سبيل المثال، فضلاً عن تراجع الاحتمالات التى "كانت" تؤشر لتقارب ممكن بين النظام وتركيا أيضاً.

يضاف إلى ما سبق، ما شهدته الأزمة السورية من مؤشرات تشى بتجدد الصراع كان من أبرزها عودة الاهتمام الأمريكى بمناطق شمال شرق سوريا، حيث تتمركز القوات الأمريكية بالرغم من انشغالها بالحرب الروسية الأوكرانية. وفى سياق هذا الاهتمام قامت الولايات المتحدة بإسقاط مسيرة مسلحة تركية كانت تحلق بالقرب من القوات الأمريكية فى شمال سوريا، خلال مواجهات بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية مؤخراً. هذا بخلاف تجدد الاحتجاجات الشعبية على تردى الأحوال اليومية واهتراء وتراجع خدمات البنية التحتية فى محافظة السويداء بالجنوب السورى الذى شهدت محافظاته الثلاثة (السويداء والقنيطرة ودرعا) مصالحات وتسويات للصراع مع النظام برعاية روسيا، بل والعودة إلى استخدام شعارات الثورة السورية واتجاه بعض القوى الدولية لفتح قنوات اتصال مع قيادات هذه الاحتجاجات التى تبدو أنها آخذة فى التصاعد المستمر.

كذلك تأتى التحركات التركية الأخيرة فى الشمال السورى تحت مظلة محاربة عناصر حزب العمال الكردستانى التركى المعارض، رداً على الاستهداف الأخير لمديرية الأمن العامة التابعة لوزارة الداخلية فى العاصمة أنقرة مطلع أكتوبر الجارى، وهى تحركات قد تفتح المجال مجدداً لما تسعى إليه تركيا بشن عملية عسكرية جديدة – الرابعة من نوعها - فى مناطق شرق الفرات ضد التنظيمات التابعة للحزب.

وسط تلك المعطيات كلها تأتى حادثة استهداف حفل التخرج الخاص بضباط الكلية الحربية فى حمص لتحمل العديد من الدلالات غير المنفصلة عن مجمل تطورات المشهد السورى السابق رصدها؛ لاسيما من حيث التوقيت والأهداف، خاصة وأن بيان الجيش السورى الصادر فى هذا الشأن حمل مسئولية هذا الاستهداف لـ"تنظيمات إرهابية مسلحة مدعومة من قبل أطراف دولية". وعليه شن قصف مدفعى هو الأعنف من نوعه على عدة مناطق خاضعة لهيئة تحرير الشام فى إدلب شمال غرب سوريا بعد ساعات قليلة من حادث الكلية الحربية، كما شن ضربات مماثلة داخل مناطق خاضعة لعدد من الفصائل المسلحة المدعومة من قبل تركيا فى المحافظة نفسها.    

تحديد المسئولية

الاتهام السريع من قبل الجيش السورى بمسئولية المعارضة المسلحة فى إدلب عن الحدث اعتبره البعض من مناوئى النظام ذريعة يحاول النظام توظيفها فى إعادة فتح جبهة الصراع فى إدلب، ووفقاً لهذا الاتهام المباشر تعددت الروايات التى تحدد الجهة المسئولة عن الحادث، والتى لم يتم الكشف عنها حتى توقيت كتابة هذه السطور؛ فثمة من يرى أن الاستهداف الذى تم بمسيرات محملة بذخائر لا يمكن أن تقوم به المعارضة المسلحة المتمركزة فى إدلب وفى حلب، وإن كانت تمتلك فعلياً مسيرات "درونز"، فإن من الصعب الإقرار – وفقاً لأنصار هذا الرأى – بقدرة المعارضة فى تلك الأماكن – إدلب وحلب - على تسيير مسيرات حتى غرب محافظة حمص حيث يقع مجمع الكليات العسكرية.

 ويستند أنصار هذا الرأى إلى أن المسيرات التى تمتلكها المعارضة مصنعة محلياً، وبالتالى تفتقد للتكنولوجيا المتقدمة التى من شأنها تحديد الأهداف بدقة عالية وفقاً لما تم بالنسبة للحادثة، كما أن مداها لا يتعدى 40 كيلومتر بينما المسافة من إدلب إلى حمص تبلغ حوالى 130 كيلومتر. فضلاً عن أن نوعية الخسائر على الأرض ووفقاً لمحللين تبدو أقرب إلى كونها نتاجاً لعمليات "تفخيخ" للمكان أكثر من كونه استهدافاً بمسيرات جوية، وهو ما يعنى وفى حالة مسئولية المعارضة عن الحادثة أن ثمة اختراقاً أمنياً كبيراً داخل مكان من المفترض أنه يمثل جزءاً من مجمع كليات عسكرية يخضع لخطط تأمين فائقة وغير اعتيادية.

كما يستبعد أنصار هذا الرأى مسئولية تركيا عن الحادثة - بالرغم من إنتاجها النوعى للمسيرات فائقة التكنولوجيا فضلاً عن إمكانية تسريبها للمعارضة السورية الموالية لها - متعللين بأن تركيا تستهدف شمال سوريا فقط، وتحديداً مناطق تمركز حزب العمال الكردستانى التركى المعارض والموالين له من القوات الكردية السورية فى مناطق عملياتها العسكرية الثلاثة: درع الفرات ونبع السلام وغصن الزيتون. ومن ثم فليس من المنطقى – وفقاً لهذا الرأى- أن تتجه تركيا لضرب العمق السورى فى حمص، خاصة وأن استهداف إحدى الكليات العسكرية يعد استهدافاً لمنطقة عسكرية وبالتالى إعلان حرب مباشرة على النظام السورى، وهو ما لا يسعى إليه أردوغان فى الوقت الحالى، بل يسعى لإدخال قوات النظام السورى للشمال فى مواجهة قوات سوريا الديمقراطية – الموالية للولايات المتحدة الأمريكية - تحت معادلة أن وجود النظام على الحدود مع تركيا أكثر حفاظاً على الأمن القومى التركى من وجود قوات سوريا الديمقراطية، لكن المشكلة أن أردوغان يرغب فى عقد هذه الصفقة مع النظام بصورة منفصلة عن فكرة استمرار بقاء قوات عسكرية تركية فى بعض النقاط الأمنية داخل الحدد السورية، وهو ما يرفضه النظام السورى جملة وتفصيلاً باعتباره انتقاصاً من سيادة سوريا على كامل أراضيها.   

وعلى الجانب الآخر، ثمة آراء تقول بأن من مصلحة إيران التخطيط لمثل هذه النوعية من الأحداث على الرغم من كونها داعماً رئيسياً ومباشراً للنظام فى مواجهة المعارضة. أنصار هذا الرأى يدللون على ذلك بسلسلة تصريحات صحفية لقيادات فى الحرس الثورى الإيرانى طوال الأسابيع الماضية تتحدث عن امتلاك المعارضة فى إدلب لمسيرات بعيدة المدى، وأن بمقدور القوات التابعة لإيران فى سوريا ضرب أية مسيرات فى سماءها، ما اعتبره البعض "مؤشراً" على رغبة إيران في تعويض الانشغال الروسى بأوكرانيا - بالنظر إلى أن روسيا هى التى توفر الحماية الجوية للنظام السورى – عبر تسويق نفسها بقدرتها على لعب الدور الروسى نفسه فى سوريا.

كما يرى أنصار هذا التصور أن إيران ترغب فى فتح ملف إدلب بصورة مباشرة للضغط على تركيا نتيجة لوجود خلافات ين البلدين فى ملفات أخرى، وأن موقف البلدين المتعارضين من أزمة اذربيجان وأرمينيا يعد واحداً من الأسباب الدافعة إلى ما يمكن تسميته بجذب تركيا إلى اتهام مباشر بمنح المعارضة السورية فى إدلب مسيرات تم استخداها فى ضرب الكلية الحربية بحمص.

ورغم عدم وجاهة هذا الرأى، إلا أن تطلعات إيران فى تعديل مكاسبها داخل سوريا على المستويين العسكرى والاقتصادى فى مقابل مكاسب الحليف الروسى، ربما يرجح احتمالية هذا التصور.

بينما يرى رأى ثالث، أنه وفى حالة صدق رواية الجيش السورى القائلة بأن الهجوم على الكلية الحربية بحمص تم بمسيرات محملة بذخائر تفجيرية، فإن الجهة المسئولة لن تخرج عن إحدى ثلاث جهات تمتلك فعلياً مسيرات؛ إما الميليشيات الإيرانية، وهنا يمكن القول أن المسيرات لو كانت إيرانية فربما لم تكن تستهدف الكلية الحربية فى حمص، وأن خطأ تكنولوجياً أدى إلى الحادثة. وإما هيئة تحرير الشام فى إدلب، وفى هذه الحالة ستكون قد حصلت عليها من تركيا، لأن مسيرات المعارضة محلية الصنع، وقصيرة المدى، وليست على درجة من الجودة التكنولوجية التى تمكنها من إحداث هذا القدر المروع من التفجير، وما نتج عنه من خسائر بشرية جمة. وإما تنظيم "داعش" الذى يشهد تصعيداً فى نشاطه الإرهابى خلال الفترة الماضية داخل الأراضى السورية.

وثمة رأى رابع وهو الأكثر ترجيحاً عن سابقيه، يشير إلى أن النظام السورى يعيش حالة من الصراع بين الأجنحة، وهو صراع لايزال كامناً، وأن ثمة تصفية حسابات بين أجنحة النظام نفسه، وأن المستهدف ليس الحفل فى حد ذاته، بل كان المستهدف وزير الدفاع السورى الذى غادر المكان قبل وقوع التفجير بحوالى 20 دقيقة فقط. ويشير أنصار هذا الرأى إلى مستوى التأمين الفائق لمنطقة مجمع الكليات الحربية – شديدة التحصين - والتى تعد الكلية الحربية جزءاً منه، ومن ثم فليس من السهولة اختراق هذا المجمع الذى تخضع خطط تأمينه وحمايته لوزارة الدفاع حصراً وبصورة مباشرة، فضلاً عن العديد من الدفاعات الجوية التابعة للجيش السورى الموجودة بالمدينة. وبالتالى فإن اختراق كل أوجه التأمين والتحصين لمنطقة تتمركز فيها العديد من الفرق العسكرية ليس بالأمر اليسير، بل يبدو وأن النظام يسعى إلى التأكيد على استمرارية الحرب على مناوئيه سواء المعارضة المسلحة فى إدلب وحلب، أو انتفاضة الجنوب حيث الاحتجاجات الشعبية فى السويداء. ويلاحط هنا أن النظام نفسه أخذ يروج لاحتمالية تورط إسرائيل والولايات المتحدة فى هذا الاستهداف، على خلفية الاستهدافات المتكررة من قبل الطيران الإسرائيلى لمناطق عسكرية فى حمص من قبل.

دلالات مهمة

حملت حادثة استهداف الكلية الحربية بحمص، ووفقاً لما سبق عرضه بشأن الجهة التى تقف ورائها، العديد من الرسائل والدلالات؛ أولها، يشير إلى عودة تسويق النظام السورى لفرضية أنه لايزال فى حرب دائمة مع الإرهاب، وبالتالى فإن الحرب والصراع لا يزالان مستمرين طالما بقيت أجزاء من الأراضى السورية خاضعة للمعارضة كمحافظة إدلب وأجزاء من محافظة حلب.

كما أنه سيقوم باستخدام تلك الفرضية فى مواجهة الحركات الاحتجاجية العارمة فى محافظة السويداء بالجنوب من ناحية، وضد أية محاولة مماثلة ومحتملة من قبل بعض المحافظات التى يتزايد فيها الغضب الشعبى تجاه عدم قدرة النظام على إعادة خدمات البنية التحتية إلى سابق عهدها، بخلاف التردى الحاد فى الأوضاع الاقتصادية لاسيما فى مناطق يتمتع فيها النظام السورى بشعبية كبيرة، وهى مناطق ومحافظات الساحل السورى والتى تتمركز فيها الحاضنة الشعبية للنظام.

وثانيها،  يشير إلى عودة الصراع إلى ملف الأزمة السورية مجدداً بعد فترة ركود استمرت ثلاثة أعوام، ما يعنى إحداث اختراق واضح فى معادلة التهدئة والثبات التى كانت عليها التفاعلات بين القوى الدولية والإقليمية المعنية بالصراع السورى، وأن ثمة نشاطاً من جانب كل من تركيا، وإيران، والنظام السورى على أجندة التطورات فى سوريا تعكس مرحلة جديدة تتسم بنمط التفاعل التصعيدى خلال المرحلة القادمة.

وثالثها، يشير إلى أن الحادث سيشكل فعلياً منعطفاً جديداً فى مسار المواجهات العسكرية على الأرض، وأن النظام السورى هو من يقوم حالياً بإعادة خلط أوراق المواجهات العسكرية مجدداً بدليل فتحه جبهة مواجهة عسكرية مباشرة فى إدلب فور وقوع الحادث؛ حيث استهدف أكثر من 25 موقعاً للمعارضة المسلحة هناك خلال يوم من وقوع الحادث.  

مما سبق يمكن القول إن ثمة عودة لفتح ملف الصراع السورى مجدداً من قبل النظام السورى، رداً على استهداف الكلية الحربية فى حمص، والذى تزامن مع تحركات عسكرية لتركيا ضد قوات سوريا الديمقراطية فى الشمال السورى رداً على عملية التفجير التى استهدفت أنقرة مطلع أكتوبر الجارى، وأن الولايات المتحدة لازالت باقية فى الشمال السورى وأنها بصدد حماية حلفائها المحليين من الأكراد السوريين، حيث أسقطت مسيرة تركية استهدفت قواتها فى شمال شرق سوريا هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن النظام بصدد توظيف فعلى للحادثة بما يخدم مصالحه فى فتح جبهات صراع جديدة / قديمة مع المعارضة فى إدلب والبادية السورية بهدف إعادة تذكير القوى الدولية بأهميته فى معادلة الاستقرار فى سوريا وأن لا بديل له هناك سوى الإرهاب.