استيقظت العاصمة التركية أنقرة صباح اليوم الأحد، الأول من أكتوبر 2023، على هجوم إرهابي نوعي نفذه مسلحان بالقنابل، حيث ألقت السلطات الأمنية التركية القبض على أحدهما، فيما فجر الآخر نفسه، في عملية تمت أمام مقر مديرية الأمن التابعة للوزارة.
وقد حملت العملية الإرهابية في العاصمة أنقرة العديد من الدلالات المهمة، خصوصاً على مستوى عودة التهديد الإرهابي إلى الداخل التركي، فضلاً عن أنها طرحت تساؤلات مهمة في القلب منها طبيعة الجهة التي تقف خلف الهجوم، خصوصاً في ظل عدم إعلان السلطات التركية (حتى كتابة هذا التحليل) عن اتهام واضح لأحد التنظيمات، فضلاً عن عدم إعلان أي مجموعات مسلحة عن تبنيها للعملية حتى كتابة هذا التحليل.
خسائر طفيفة
تشير المعلومات الأوّلية المتاحة عن الهجوم الذي وقع في العاصمة التركية أنقرة، إلى أن الهجوم وقع في منطقة "قزلاي" أمام مقر مديرية الأمن التابعة لوزارة الداخلية، وعلى بعد مئات الأمتار من مقر البرلمان التركي، وهي الاعتبارات المكانية التي أكسبت الهجوم أهمية نوعية، إذ أنه وقع في منطقة استراتيجية يتخللها العديد من المؤسسات التركية.
وفي هذا السياق، أعلن وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا أن "إرهابيين نفذا هجوماً أمام مبنى الوزارة، وتم تحييد أحدهما، فيما فجر الآخر نفسه"، مشيراً إلى أن الهجوم أدى إلى إصابة رجلي شرطة بجروح طفيفة، ومؤكداً أن إصابتهما ليست خطيرة، وقالت وزارة الداخلية التركية في بيان لها إن "إرهابيين نفذا هجوما أمام مبنى الوزارة، وتم تحييد أحدهما، فيما فجر الآخر نفسه"، واصفةً الهجوم بأنه عمل إرهابي [1].
وبدوره، أفاد مركز شرطة أنقرة على موقع "إكس" بأنه ينفذ عمليات "تفجير مضبوطة" لـ"طرود مشبوهة" خوفاً من هجمات أخرى، ودعا السكان إلى عدم الذعر، ومن جهته، أعلن مكتب المدعي العام في أنقرة عن فتح تحقيق وفرض حظر على الوصول إلى منطقة الهجوم. كما طلب من جميع وسائل الإعلام المحلية، والقنوات التلفزيونية على وجه الخصوص، التوقف فوراً عن بث الصور من مكان الهجوم، وهو ما تم تنفيذه على الفور[2]، فيما لم تعلن السلطات التركية حتى اللحظة عن اتهام واضح لأي جهة من الجهات بخصوص الوقوف وراء الهجوم.
ووفقاً للحيثيات المعلنة عن العملية، وما أعلنته السلطات التركية، فقد كان هناك شخصان مسؤولان عن تنفيذ العملية، الأول ترتبط مهمته بإطلاق النار على رجال الشرطة، والثاني "انتحاري" قام بتفجير نفسه.
اعتبارات زمانية ومكانية
اكتسب الحادث الإرهابي الأخير في العاصمة التركية أنقرة، أهمية خاصة بالنظر إلى بعض الاعتبارات الزمانية والمكانية المرتبطة به، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- عام على هجوم "تقسيم": جاء الهجوم الإرهابي الأخير في أنقرة، بعد قرابة عام من مقتل 6 وإصابة 81 في تفجير بميدان تقسيم بشارع تجاري مكتظ بوسط اسطنبول في 13 نوفمبر 2022، واتهمت تركيا مسلحين أكراداً بالمسئولية عنه، والذي كان قد أعاد إلى أذهان الأتراك ذكريات موجة الهجمات التي نفذتها جماعات مسلحة في مدن تركية بين منتصف 2015 وأوائل 2017، وفي أعقاب هجوم "تقسيم" وحتى اليوم شهدت تركيا حالة من الهدوء النسبي على مستوى العمليات الإرهابية، إذ كان هذا النشاط مقتصراً إلى حد كبير على بعض الخلايا والمجموعات الصغيرة التي تقوم السلطات التركية بإيقافها بين الحين والآخر.
2- عودة انعقاد البرلمان التركي: أحد الاعتبارات الزمانية المهمة التي أكسبت الهجوم الإرهابي في أنقرة أهمية كبيرة، يتمثل في تزامنه مع عودة البرلمان التركي للانعقاد في دورة جديدة لمناقشة بعض القضايا المهمة، وهي الدورة التي افتتحها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأشار إلى جملة من القضايا المهمة في مداخلته بهذا الخصوص ومنها الدعوة إلى وضع دستور تركي جديد.
وعلق أردوغان على الحادث الإرهابي قائلاً إن "التنظيمات الإرهابية لن تمنع تركيا من مسيرتها وتحقيق أهدافها"، وأن "الإرهابيين الذين نفذا الهجوم حاولا النيل من أمن تركيا وانتهاك أمن مواطنيها، لكنهم فشلوا في ذلك" وفق تعبيره، مؤكداً عزم تركيا "استمرار مكافحتها للإرهاب في الداخل والخارج" وفق تعبيره [3].
3- فرصة زمانية للعمليات الإرهابية: لا يمكن قراءة الحادث الإرهابي الأخير في أنقرة، بمعزل عن السياق الزماني الذي يأتي فيه، بمعنى أن الحادث يأتي مع قرب نهاية العام وبداية العام الجديد، حيث التحضير لاحتفالات نهاية العام والأعياد الدينية، وهي فترة تحاول تنظيمات العنف والإرهاب عادةً استغلالها من أجل تنفيذ عمليات إرهابية في مواطن نشاطها، والدول التي تستهدفها، فعلى سبيل المثال يجد المتابع لنشاط التنظيمات الإرهابية في القارة الاوروبية أن مثل هذه الفترات تشهد زخماً كبيراً على مستوى العمليات الإرهابية التي تتم خلالها.
4- استمرار استهداف المؤسسات والأجهزة الأمنية: تعكس حيثيات العملية الإرهابية في أنقرة أنها استهدفت من جانب وزارة الداخلية التركية، وكذا البرلمان التركي، بما يعني أن هذا الهجوم يأتي كاستمرار لسلسلة من الهجمات الإرهابية التي شهدتها تركيا في السنوات الأخيرة، والتي استهدفت بعض المؤسسات والشخصيات الأمنية والعسكرية التركية، خصوصاً في أعوام 2015 و2016 و2017.
5- اختراق العمق التركي: يعكس توقيت الهجوم والنطاق الجغرافي الذي وقع فيه، أن الجهة المنفذة والمسئولة عنه استهدفت إيصال رسائل للقيادة السياسية التركية، مفادها أنها قادرة على اختراق العمق التركي والوصول إلى مناطق حيوية وتنفيذ هجمات فيها، سواءً على مستوى استهداف المؤسسات والتمركزات الشرطية والعسكرية، أو على مستوى استهداف التجمعات السكانية والمدنية.
هل يقف حزب العمال الكردستاني خلف الهجوم؟
أحد التفسيرات الرئيسية المطروحة يتمثل في احتمالية تورط حزب العمال الكردستاني المصنف كتنظيم إرهابي في تركيا، في الهجوم الأخير، وهو احتمال راجح إلى حد كبير في ضوء بعض الاعتبارات والمؤشرات الرئيسية، وذلك على النحو التالي:
1- أن طبيعة "المستهدف" من الهجوم سواءً وزارة الداخلية التركية، أو البرلمان التركي بالتزامن مع دورته الجديدة، تتسق إلى حد كبير والأنماط العملياتية التي كان حزب العمال الكردستاني يتبناها تجاه تركيا في السنوات الأخيرة، إذ نجد أن الحزب كان يركز على استهداف المؤسسات التركية وتمركزات الشرطة والجيش.
وفي هذا الصدد، شن الحزب العديد من الهجمات المماثلة من هذا النوع، ومنها ما حدث في 8 سبتمبر 2015 من قتل مسلحين أكراد 15 شرطياً في تفجيرين في إقليمي ماردين وأغدير بشرق تركيا، وما حدث في 17 فبراير 2016 من مقتل 28 شخصاً وإصابة العشرات في أنقرة جراء انفجار سيارة مفخخة بجوار حافلات عسكرية قرب مقرات للقوات المسلحة والبرلمان ومبان حكومية أخرى، وحينها اتهمت السلطات التركية مجموعات كردية قريبة من الحزب بالوقوف خلف الحادث، وفي 26 أغسطس 2016 أسفر تفجير انتحاري بشاحنة مفخخة عند مقر للشرطة في جنوب شرق تركيا الذي تقطنه أغلبية كردية عن مقتل 11 على الأقل وإصابة العشرات، وأعلن حزب العمال الكردستاني مسئوليته عن الهجوم، وفي 10 ديسمبر 2016 أدى انفجار بسيارة مفخخة إلى مقتل 13 جندياً وإصابة 56 في هجوم استهدف حافلة كانت تقل عسكريين خارج أوقات الخدمة في مدينة قيصري بوسط البلاد، وأعلن فرع من حزب العمال الكردستاني مسئوليته عن الهجوم، مروراً بالعديد من الهجمات في 2017 والتي استهدفت رجال الشرطة وأعلن الحزب مسئوليته عنها.
2- أحد الاعتبارات الرئيسية التي تعزز من احتمالية تحمل حزب العمال الكردستاني لمسئولية هجوم أنقرة الإرهابي، يتمثل في أن الحزب قد يتبنى العملية كرد على وجود عمليات تركية عسكرية مستمرة داخل الحدود العراقية والسورية تستهدف المرتبطين به، إلى جانب الضغوط التركية على العراق بتصنيف حزب العمال الكردستاني حزباً إرهابياً.
3- كشفت بعض وسائل الإعلام التركية أن السلاح الذي كان بحوزة أحد الإرهابيين اللذين نفذا العملية كان بندقية آلية أمريكية من طراز Colt M4، وذكرت التقارير التركية أن هذا السلاح كان أحد الأسلحة التي دعمت بها الولايات المتحدة بعض المنظمات والمجموعات المسلحة الكردية في سوريا، وهو اعتبار عملياتي دفع العديد من الدوائر إلى اتهام حزب العمال الكردستاني بالوقوف خلف الحادث.
احتمالية ضلوع داعش بتنفيذ العملية
على الرغم من أن كافة المؤشرات تذهب باتجاه ترجيح تورط حزب العمال الكردستاني بتنفيذ عملية أنقرة الإرهابية، إلا أن هناك احتمالاً وارداً يتمثل في ضلوع تنظيم داعش بتنفيذ العملية الإرهابية الأخيرة، وذلك في ضوء سعي التنظيم إلى تبني عمليات انتقامية ضد تركيا رداً على اغتيال زعيمه الرابع أبو الحسين القرشي، بعد عملية للاستخبارات التركية في شمال سوريا، يوم 29 أبريل الماضي، فضلاً عن أن السلطات التركية تبنت في الأشهر الأخيرة العديد من العمليات ضد التنظيم، وهي العمليات التي أدت وفقاً للسلطات التركية لاعتقال العديد من الخلايا والمجموعات الداعشية.
لكن وعلى الرغم من ذلك، إلا أن احتمال مسئولية داعش عن العملية، يظل أقل ترجيحاً من احتمال تبني حزب العمال الكردستاني لها، خصوصاً وأن المتابع للنهج الداعشي العملياتي تجاه تركيا في السنوات الأخيرة، يجد أن هذا النهج ارتكز على تنفيذ عمليات ضد الأهداف المدنية، كالملاهي الليلية والأسواق والتجمعات السكانية والمدنية، في مقابل تضاؤل عملياته ضد الأهداف الشرطية والعسكرية.
في الختام، يمكن القول إن العملية الإرهابية في أنقرة حملت رسائل واضحة أرادت بعض الأطراف إيصالها بخصوص قدرتها على استهداف العمق التركي، كما أن العملية اكتسبت أهمية كبيرة خصوصاً مع الموقع الاستراتيجي الذي تمت فيه، فضلاً عن تزامنها مع عودة البرلمان التركي للانعقاد، في دورته الجديدة والتي افتتحها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.