قضايا وتحليلات - قضايا الإرهاب والتطرف 2023-10-1
محمد فوزي

باحث مساعد - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

شهدت مناطق الشمال السوري تجدداً للاشتباكات بين عدد من المجموعات المسلحة المنتشرة في هذه المنطقة الحيوية، وذلك مع تبني بعض الفصائل الموالية لـ"هيئة تحرير الشام" تحركات استهدفت السيطرة على معبر الحمران، أهم المعابر التي تربط بين الشمال السوري وبين مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، وهي التحركات التي أدت إلى اندلاع مواجهات ميدانية واسعة بين الفصائل الموالية لـ"هيئة تحرير الشام" وفصائل "الجيش الوطني السوري" المعارض والمقرب من تركيا، في مشهد يعكس صراعاً قديماً متجدداً بين الميليشيات والفصائل القاطنة والمتمركزة في هذه المنطقة على النفوذ، وبناء معادلات ميدانية تضمن تحقيق العديد من المكاسب السياسية والاقتصادية.

تصعيد متعدد الجبهات

بدأت الاشتباكات الراهنة مع سيطرة فصيل "أحرار الشام" والذي بات يُعرف بـ "أحرار عولان" - نسبةً إلى اتخاذه منطقة عولان مقراً له بقيادة شخصية تعرف بأبو الدحداح -  المنضوي تحت لواء "هيئة تحرير الشام" – جبهة النصرة سابقاً – على معبر الحمران بريف مدينة جرابلس، حيث تم شن هجوم على مجموعة "الكتلة الكبرى" بقيادة محمد رمي، المعروف بـ "أبو حيدر مسكنة" القيادي ضمن الفيلق الثاني لـ "الجيش الوطني السوري" الموالي لتركيا، الذي يسيطر على المعبر [1]، ويُعد المعبر من أهم المعابر الاقتصادية في الشمال السوري، والذي يفصل بين جرابلس الخاضعة لسيطرة فصيل "الجيش الوطني السوري" من جهة، ومنبج الخاضعة لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) من جهة أخرى، ويقع معبر الحمران البري في منطقة "درع الفرات" حيث يسيطر المسلحون الموالون لتركيا، وهو يقابل معبر أم جلود الواقع بريف منبج الغربي، حيث تديره الإدارة الذاتية.

ونتيجة للتحركات الميدانية لـ"هيئة تحرير الشام" للسيطرة على المعبر، أعلنت الحكومة المؤقتة الموالية لتركيا والتابعة لفصائل المعارضة السورية في الشمال – غير معترف بها – في بيان لها أن "الجيش الوطني"، وبأمر من الوزارة، "أطلق عملية لتعزيز الأمن والسلام" في منطقة معبر الحمران ضد من وصفها بـ"المجموعات المخربة والانفصالية"، والتي "تضر بأمن الحدود وسلامة المدنيين".

وبالتزامن مع ذلك، فرضت "هيئة تحرير الشام" والمجموعات المتحالفة معها، سيطرة على الكثير من القرى الواقعة في المنطقة المعروفة بـ "درع الفرات" الخاضعة لسيطرة القوات التركية وفصائل "الجيش الوطني السوري" الموالي لأنقرة في محافظة حلب، وسيطرت "الهيئة"، على قرى البورانية، شعينة والصابونية بريف جرابلس، ومدت سيطرتها إلى قرى طنوزة، حج كوسا والظاهرية بريف الباب بالريف الشرقي لحلب، بالإضافة إلى فرض سيطرتها على قرى في الريف الشمالي، منها احتيملات وشدود، وأفاد "المرصد السوري لحقوق الإنسان" بأن ذلك جاء بعد ساعات من فرض "الهيئة" سيطرتها على أجزاء كبيرة من صوران ودابق وبرعان بريف اخترين، بعد اشتباكات عنيفة ومعارك طاحنة مع فصائل الجيش الوطني [2].

وأشارت تقارير إلى أن  القيادي المعروف باسم "أبو يعقوب قباسين"، الذي يعمل لصالح "هيئة تحرير الشام"، قُتل إلى جانب عنصرين اثنين من "حركة أحرار الشام - القطاع الشرقي"، إثر اندلاع اشتباكات بين "تحرير الشام" و"حركة أحرار الشام - القطاع الشرقي" (أحرار عولان) من جهة، ومن جهة أخرى، فصيل فرقة "السلطان مراد" العامل تحت مظلة "الفيلق الثاني" التابع لـ"الجيش الوطني السوري" في منطقة لواش بالقرب من بلدة أخترين بريف حلب الشمالي الشرقي.

وبناءً على المعلومات والواقع الميداني الحالي في مناطق الشمال السوري، يبدو أن "هيئة تحرير الشام" تبنت تصعيداً ميدانياً في منطقة "درع الفرات" على مستويين رئيسيين: الأول يستهدف السيطرة على بعض المعابر الحدودية المهمة، وعلى رأسها معبر الحمران بريف مدينة جرابلس، والثاني يتمثل في السعي للسيطرة على بعض القرى والمدن الواقعة في نطاق سيطرة الفصائل المعارضة المسلحة الموالية لتركيا.

دوافع متعددة

تعكس التحركات الميدانية الواسعة التي تبنتها "هيئة تحرير الشام" في الأيام الماضية، في مناطق الشمال السوري، سعي الهيئة لتعزيز نفوذها في بعض المناطق الاستراتيجية، لتحقيق جملة من المكاسب الاستراتيجية، ويمكن بيان الأبعاد والأسباب التي تقف خلف هذا التصعيد، وذلك على النحو التالي:

1- تغيير المعادلات الميدانية: تتوزع مناطق سيطرة الفصائل المعارضة السورية المسلحة في إدلب وشمال حلب، وفي منطقة تل أبيض ورأس العين في الرقة والحسكة، وفي هذا السياق يتقاسم حوالى 30 فصيلاً منضوياً في إطار ما يعرف بـ"الجيش الوطني السوري" الموالي لأنقرة، السيطرة على مناطق حدودية تمتد من جرابلس في ريف حلب الشمالي الشرقي إلى عفرين في ريفها الغربي، مروراً بمدن رئيسية مثل الباب وأعزاز، وتضم الفصائل بشكل رئيسي مقاتلين سابقين في مجموعات معارضة مسلحة تم إجلاؤهم من مناطق سورية أخرى إثر هزيمة فصائلهم أمام قوات النظام السوري، مثل "الجبهة الشامية" التي كانت تنشط في مدينة حلب، أو "جيش الإسلام" الذي كان يعد الفصيل المعارض الأبرز قرب دمشق، ومن بين الفصائل أيضاً، مجموعات تنشط أساساً في الشمال مثل فصيل "السلطان مراد"، وأخرى برزت مع العمليات العسكرية التركية وبينها فصيلا "الحمزة" و"سليمان شاه"، وفي إطار خرائط النفوذ في مناطق الشمال السوري تسيطر "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) على أجزاء واسعة من محافظة دير الزور والرقة والحسكة، وأجزاء من محافظة حلب.

لكن المعادلات الميدانية في الشمال السوري وخرائط النفوذ والصراع بين الفصائل المسلحة، بدأت في التغير منذ مطلع عام 2019، وذلك مع سيطرة "هيئة تحرير الشام" على نصف مدينة إدلب تقريباً وفرض سيطرتها عليها، وفي هذا السياق يبدو أن التحركات الميدانية الأخيرة لـ"هيئة تحرير الشام" تستهدف تغيير المعادلات الميدانية في مناطق الشمال السوري، بما يوازن بين نفوذ "الهيئة" مع نفوذ الفصائل المعارضة المسلحة الأخرى، ويلاحظ في هذا السياق أن التحركات الميدانية التي تبنتها "الهيئة" ركزت بشكل رئيسي على السعي للسيطرة على معبر الحمران، فضلاً عن اجتياح بعض القرى والمناطق ومنها منطقة لواش، والتي يوجد فيها العديد من المقار التابعة لـ "أبو وليد العزة" العامل ضمن صفوف فرقة "السلطان مراد".

2- استراتيجية زرع "المجموعات الصغيرة": يجد المتابع للتحركات الميدانية لـ"هيئة تحرير الشام" في الآونة الأخيرة، أن "الهيئة" تعمد إلى تبني استراتيجية تقوم على زرع مجموعات صغيرة من الفصائل الموالية لها في بعض المناطق المهمة التي يتمركز فيها مقاتلو المعارضة السورية، كخطوة أولى لتعزيز الحضور في هذه المناطق، ومن ثم السيطرة عليها فيما بعد، وهو مشهد تكرر العام الماضي حين استولت "الهيئة" على عفرين وكادت أن تتقدم باتجاه اعزاز، معقل المعارضة البارز في شمال البلاد، لولا التدخل التركي المباشر.

3- الاستفادة من مميزات معبر "الحمران": ليست التحركات التي حدثت في الأيام الماضية من قبل "هيئة تحرير الشام" للسيطرة على معبر "الحمران" هي الأولى من نوعها للسيطرة على المعبر، إذ أنها تعد الثانية فقط في هذا الشهر، ففي 13 سبتمبر شنت "الهيئة" عملية للسيطرة عليه [3]، لكن "الفيلق الثاني" التابع لـ"الجيش الوطني السوري" المعارض، أرسل تعزيزات عسكرية كبيرة من مدينة الراعي باتجاه المعبر لصدّ الهجوم العنيف، الذي أوقع قتلى ومصابين بين الطرفين المتقاتلين.

وترتبط هذه التحركات الميدانية لـ"الهيئة" بالأهمية الاستراتيجية لمعبر "الحمران"، إذ أنه يعد شرياناً رئيسياً للتجارة بين مناطق "قسد" ومناطق سيطرة المعارضة، وتدخل من خلاله أيضاً مواد غذائية وكهربائية وآليات وغيرها، فضلاً عن كونه الطريق الرئيسي لمرور قوافل النفط القادمة من شمال شرقي سوريا إلى مناطق سيطرة المعارضة، ويربط بين قرية الحمران الواقعة تحت سيطرة "الجيش الوطني" وقرية أم جلود، أول قرية ضمن مناطق سيطرة "قسد".

وفي هذا السياق، لا توجد معلومات نهائية حالياً بخصوص الوضع في معبر "الحمران"، حول ما إذا كانت "الهيئة" قد أحكمت سيطرتها عليه بالفعل، خصوصاً وأن العديد من التقارير قد أشارت إلى وجود مفاوضات جارية بين طرفي القتال بخصوص تسوية هذه الأزمة، حيث تم عقد جلسة مفاوضات بين وزارة الدفاع التابعة للمعارضة السورية، و"الهيئة" [4]، لكن يبدو أن "التعثر" سيكون سيد الموقف بالنسبة لهذه المفاوضات، خصوصاً وأن بعض التقارير أشارت إلى أن "الهيئة تطلب عائدات 50% من جميع المنتجات التي تدخل من المعبر، إضافة إلى الإبقاء على كتائب من حركة أحرار الشام داخل المعبر"، وهو ما ترفضه المعارضة، لكن مآلات المفاوضات بين الطرفين سوف تكون محكومة إلى حد كبير بالموقف التركي من هذه التطورات، على اعتبار أن تركيا تعد الطرف صاحب النفوذ الأكبر في مناطق الشمال السوري، فضلاً عن أن عدم قدرة "هيئة تحرير الشام" على خوض معارك مفتوحة مع الفصائل المعارضة في مناطق سيطرتها، قد يدفعها إلى الوصول إلى صفقة تستفيد منها اقتصادياً مقابل خفض التصعيد الجاري.

4- استغلال أحداث دير الزور الأخيرة: تربط بعض التقديرات بين التصعيد الميداني الحالي لـ"هيئة تحرير الشام"، وبين الأحداث التي جرت في دير الزور مؤخراً، إثر الاشتباكات التي دارت بين "قوات سوريا الديمقراطية" من جهة، ومسلحين من "مجلس دير الزور العسكري" و"مقاتلين عشائريين" من جهة أخرى، حيث أرسلت "الهيئة" في خضم هذه التطورات مئات المسلحين وعشرات الآليات العسكرية من المناطق التي تسيطر عليها في محافظة إدلب إلى الجبهة الغربية والشمالية لمدينة منبج عبر معبر الغزاوية الذي يفصل بين إدلب ومناطق "غصن الزيتون" التي سيطرت عليها تركيا و"الجيش الوطني السوري" المعارض خلال معارك عام 2018 ([5])، وعبر استغلال هذه التطورات تسعى "الهيئة" إلى تحقيق هدفين رئيسيين، الأول يتمثل في استغلال حالة عدم الاستقرار بفعل التطورات الأخيرة من أجل تعزيز تموضعها الميداني، والثاني يتعلق باستغلال مقاتلي العشائر وتجنيد مجموعات منهم.

وفي الختام، يمكن القول إن التصعيد الميداني الذي تتبناه "هيئة تحرير الشام" في الأيام الأخيرة، يأتي كجزء من تحركات "الهيئة" واستراتيجيتها الرامية إلى تعزيز نفوذها في مناطق الشمال السوري عبر أدوات عديدة، وعلى رأسها استغلال الاضطرابات الأمنية، وزراعة مجموعات صغيرة موالية لها في مناطق متفرقة، بما يضمن تحقيقها لجملة من المكاسب السياسية والاقتصادية، وتحولها إلى طرف أساسي في معادلات الشمال السوري.


[1] معابر سوريا تفجر صراعات متكررة على النفوذ، الشرق الأوسط، 28 سبتمبر 2023، متاح على:

https://cutt.us/7kVi4

[2] "هتش" تسيطر على قرى بحلب... ومحاولة تسلل من "قسد" في "درع الفرات"، الشرق الأوسط، 26 سبتمبر 2023، متاح على:

https://cutt.us/tEjXj

[3] تزامن مع خلافات داخلية.. مقـ ـتل عناصر لـ "أحرار الشام" بهجوم غامض في "عبلة" شرقي حلب، شبكة شام الإخبارية، 18 سبتمبر 2023، متاح على:

https://shaam.org/news/syria-news/tzamn-ma-khlafat-dakhlyh-mq-tl-anasr-l-ahrar-alsham-bhjwm-ghamdh-fy-ablh-shrqy-hlb

[4] ريف حلب الشمالي... اقتتال دام ينتهي باتفاق هش، العربي الجديد، 28 سبتمبر 2023، متاح على:

https://cutt.us/XcgZe

[5] "تحرير الشام" تسيطر بالوكالة على معبر الحمران شمال شرقي حلب، اندبندنت عربية، 23 سبتمبر 2023، متاح على:

https://cutt.us/YsupJ