تشهد مدينة قازان الروسية يوم الجمعة الموافق 29 من شهر سبتمبر الجاري (2023)، انعقاد الجلسة الخامسة من مؤتمر "صيغة موسكو" لمناقشة العديد من الملفات المرتبطة بالوضع الراهن في أفغانستان، والتي من أبرزها وأهمها، تشكيل الحكومة السياسية الشاملة التي وعدت حركة طالبان بتشكيلها منذ وصولها إلى السلطة في أغسطس 2021، وقضايا تعزيز الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب والجريمة المتعلقة بالمخدرات، وإعادة إعمار البلاد خلال مرحلة ما بعد الصراع، وذلك بحضور وفد دبلوماسي من حكومة طالبان الأفغانية المؤقتة -كضيف غير مشارك في الاجتماعات-، إلى جانب مُمثلي عدد من الدول المعنية بالشأن الأفغاني وهي: روسيا والصين وباكستان وإيران والهند ودول آسيا الوسطى، وبعض الدول الأخرى كمراقبيين.
واللافت في الأمر هذا العام أنه قد تم توجيه الدعوة إلى الحكومة الأفغانية المؤقتة، رغم العزوف عن دعوتها خلال الجلسة الرابعة التي انعقدت في نوفمبر عام 2022، وهو الأمر الذي يطرح العديد من التساؤلات حول طبيعة العلاقة بين موسكو وطالبان، وما إذا كانت هذه الدعوة –التي جاءت في ضوء العديد من المُتغيرات والمُستجدات الأخرى على الساحتين الروسية والأفغانية- قد تحمل في طياتها دلالات بشأن مساعي روسيا للتقارب مع طالبان خلال المرحلة القادمة.
علاقات تاريخية مُتأرجحة
مرت العلاقات بين روسيا وحركة طالبان -تاريخيًا- بأطوار ومراحل مختلفة، فخلال فترة حكم طالبان الأولى (1996 – 2001)، غلبت التوترات على العلاقة بين الجانبين، سواء من جانب طالبان التي اعترفت -آنذاك- باستقلال جمهورية الشيشان الروسية في شمال القوقاز، أو من جانب موسكو التي وصفت نظام طالبان الإسلامي بالمتطرف، ودعمت غزو الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لأفغانستان عام 2001 لانتزاع الحكم من طالبان في ضوء الاستراتيجة الأمريكية لمكافحة الإرهاب عالميًا، حتى تصنيف روسيا الحركة بموجب القانون الروسي على أنها جماعة إرهابية عام 2003[1].
لكن منذ عام 2007 شهدت العلاقات الروسية مع طالبان بعض التطورات الإيجابية وبدأ الحديث عن وجود محادثات وتنسيقات سرية بشأن ملف مكافحة تهريب المخدرات من أفغانستان إلى دول آسيا الوسطى، وذلك حتى انتقلت العلاقة بين الجانبين إلى العلن في عام 2015، مع تطوير موسكو قنوات اتصال مع طالبان لتبادل المعلومات بشأن محاربة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" الذي ظهر في العراق وسوريا وأصبح تهديدًا إقليميًا وعالميًا. ففي نهاية ديسمبر 2015 قال مُمثل الكرملين الخاص لشؤون أفغانستان -آنذاك-، زامير كابولوف، إن "تنظيم الدولة هو العدو الأول لموسكو وطالبان"[2].
وفي ضوء تنامي العلاقة بين الجانبين، صرح مسئول كبير من الحركة في عام 2016، قائلاً: "لنا عدو مشترك،.. كنا نحتاج الدعم للتخلص من الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان وكانت روسيا تريد خروج كل القوات الأجنبية من أفغانستان بأسرع ما يمكن"[3]. واتهم وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، ريكس تيلرسون، في عام 2017، روسيا بأنها تدعم مقاتلي حركة طالبان بالأسلحة في حربهم ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
وربما تبلور التحول الأبرز في مسار العلاقات بين الجانبين في أعقاب انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان واستيلاء حركة طالبان على الحكم في أغسطس 2021. فبينما سارعت الدول الغربية إلى إغلاق سفاراتها وإجلاء دبلوماسيها، ظلت السفارة الروسية مفتوحة وكان السفير الروسي، ديمتري جيرنوف، أول دبلوماسي أجنبي يلتقي بممثلي طالبان، وتم إصدار اعتماد لمسئول في طالبان لتمثيل أفغانستان دبلوماسيًا في روسيا.
دوافع التقارب
تأتي دعوة طالبان لحضور "صيغة موسكو" هذا العام على خلفية مجموعة من الدوافع والمصالح المشتركة التي تجمع روسيا وطالبان على كافة المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية، والتي يعتبرها البعض مُنطلقة من مبدأ "عدو عدوي صديقي"، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- التحايل على العقوبات الاقتصادية: رغم تباين السياقات والأسباب، إلا أن العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على كل من أفغانستان وروسيا، قد خلفت حالة من العزلة الاقتصادية -النسبية- لكلا الجانبين على المستويين الإقليمي والدولي، وتسببت في إخراجهما من النظام المصرفي العالمي، الأمر الذي دفعهما للبحث عن حلول ومسارات مختلفة للخروج من حالة الخناق المفروضه عليهما. فقد استغل الطرفان مسألة عدم الاعتراف الدولي بحكومة طالبان، للالتفاف حول العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة لعزل روسيا ماليًا وتجاريًا، وتعزيز صفقات تجارية جديدة بين كابول وموسكو دون الخضوع للإجراءات العقابية المفروضة في هذا الشأن، بحيث تصبح السوق الروسية منفذًا للصادرات الأفغانية من ناحية، ومن ناحية أخرى تفتح أفغانستان المجال أمام تمرير السلع الروسية إلى بقية الأسواق العالمية، وكذلك توريد السلع من الأسواق العالمية إلى السوق الروسية، عبر الأراضي الأفغانية.
وعلى صعيد آخر، تعتبر طالبان روسيا شريكًا اقتصاديًا جاذبًا، لقدرته على تأمين احتياجات أفغانستان من إمدادت النفط والغاز التي يعاني الاقتصاد الأفغاني من محدوديتها، الأمر الذي جعل من روسيا خيارًا حيويًا بالنسبة لأفغانستان، لاسيما في ظل القيود المفروضة على صادرات النفط والغاز الروسي منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، وإمكانية حصول طالبان على احتياجاتها من موارد الطاقة بأسعار منخفضة مقارنة بالأسعار العالمية.
فالجدير بالذكر في هذا الشأن، أن حركة طالبان قد وقعت أول اتفاق اقتصادي دولي لها مع روسيا في سبتمبر عام 2022، تزود روسيا بموجبها أفغانستان بنحو مليون طن من البنزين سنويًا، ونفس الكمية من الديزل، بالإضافة إلى نصف مليون طن من الغاز الطبيعي السائل. فضلاً عن الاتفاق حول تلقى أفغانستان مليوني طن من القمح سنويًا. هذا، بالإضافة إلى الإعلان منذ مطلع العام الجاري 2023 عن سلسلة كاملة من المشاريع الروسية التي تشمل أفغانستان، مثل بناء محطة للطاقة الحرارية في العاصمة كابول شمال أفغانستان، ومشاركة شركات تصنيع الأنابيب الروسية في الجزء الأفغاني من خط أنابيب الغاز الجديد المقرر أن يمتد من تركمانستان إلى باكستان والهند([4]).
2- إزالة طالبان من قائمة الإرهاب الروسية، والحصول على الاعتراف الدولي: تسعى طالبان منذ بداية حكمها في أغسطس عام 2021 إلى الحصول على الاعتراف الدولي بها كحكومة شرعية في أفغانستان، لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتعزيز تدفقات المساعدات الإنسانية والموارد إلى البلاد، لدعم مساعي إعادة الأعمار وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، بما يضمن لها الحصول على الشرعية في الشارع الأفغاني، ويُسهم في تعزيز مقاليد حكمها للبلاد.
بالتالي تجد الحركة أن مسألة استمرار العلاقات الدبلوماسية مع موسكو، إلى جانب الشراكات والروابط الاستثمارية والتجارية الحيوية والهامة، وفي ظل وجود قواسم مشتركة بين الجانبين بشأن موقفهما المناهض للولايات المتحدة الأمريكية والغرب، كل ذلك قد يجعل فرصة إزالتها من قائمة الإرهاب الروسية والاعتراف بها أكبر، لاسيما أنه على الرغم من إدراج حركة طالبان على قائمة روسيا للمنظمات الإرهابية، إلا أن هناك تخفيفًا في حدة الخطاب تجاه الحركة وغالبًا ما يتم استخدام مصطلح "متطرفة" بدلاً من "إرهابية" لوصف الحركة في تقارير وكالات الأنباء الروسية الحكومية([5]).
3- توظيف ملف الأسلحة الأمريكية عسكريًا واقتصاديًا: مثلت الطائرات والصواريخ والمركبات وغيرها من المعدات العسكرية والأسلحة التي خلفتها القوات الأمريكية أثناء انسحابها من أفغانستان وأصبحت في حوزة حركة طالبان الآن، والتي تُقدر بحوالي 70% من إجمالي الأسلحة الأمريكية في أفغانستان، هدفًا حيويًا بالنسبة لروسيا، لاسيما بعد أن تكبدت خسائر فادحة في حربها مع أوكرانيا، وأصبح من الصعب عليها تصنيع أسلحة بمستويات ما قبل الحرب بسبب العقوبات المفروضة عليها.
أما بالنسبة لطالبان، فعلى الأرجح قد تستغل الحركة تلك المعدات والاسلحة في إبرام صفقات الطاقة مع موسكو، خاصة أن أفغانستان تحتاج إلى استيراد المنتجات النفطية بدلاً من الخام، لصعوبة توفير امكانيات وموارد التكرير في المصانع الأفغانية، وهو الأمر الذي سيكبد البلاد تكلفة باهظة. بالتالي فإن بيع الأسلحة الأمريكية لروسيا قد يعتبر أحد أهم وأقرب الحلول بالنسبة لطالبان لتسديد قيمة المنتجات النفطية.
4- مواجهة "داعش" كعدو مشترك: رغم تصنيف موسكو لطالبان كحركة إرهابية، إلا أنها تعتبر الحركة تنظيمًا إرهابيًا محليًا ليس له طموحات في تشكيل دولة خلافة إسلامية مثل "داعش" فرع ولاية خراسان، الذي ينشط في جنوب آسيا وآسيا الوسطى، والذي يُعد عدوًا مشتركًا لكل من روسيا وطالبان منذ عام 2015. فعلى الرغم من انخفاض عدد العمليات الإرهابية في أفغانستان بنسبة 75% في العام 2022 مقارنة بالعام 2021، إلا أنه وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي تصدرت أفغانستان قائمة الدول الأكثر تعرضًا لخطر الإرهاب خلال عام 2022([6]). إذ تتعرض قوات طالبان ومعاقلها داخل أفغانستان لهجمات إرهابية تكاد تكون بوتيرة منتظمة ودائمة منذ وصولها للحكم في أغسطس 2021.
وكان التفجير الانتحاري الذي شنه تنظيم "داعش" فرع ولاية خرسان أمام السفارة الروسية في كابول يوم 5 سبتمبر عام 2022، كأول هجوم إرهابي يستهدف سفارة أجنبية في أفغانستان منذ عودة طالبان إلى كابول، واحدًا من بين أبرز اسباب تنامي القلق الروسي بشأن نشاط "داعش" داخل أفغانستان، وتمدد نشاطه إلى جيرانها الإقليمين، بما يهدد مصالح روسيا الحيوية، ويُقيد نفوذها في دول آسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة، لاسيما في ظل تكثيف تنظيم "داعش" حملته الدعائية المعادية لروسيا باعتبارها "دولة صليبية" و"عدوة للإسلام"، وهو الأمر الذي قد يدفع بروسيا لبدء النظر في إمكانية الاعتراف بحكومة طالبان كحكومة شرعية، وتعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية، مقابل تقديم ضمانات أمنية بأن يتم توجيه تلك القدرات في حربها ضد تنظيم "داعش"، كي لا تكون أفغانستان بؤرة لتمركز التنظيمات الإرهابية، وقاعدة لشن العمليات الإرهابية من أراضيها.
تقارب محفوف بالعقبات
رغم تعدد دوافع التقارب بين روسيا وأفغانستان في ظل حكم طالبان، إلا أن هناك بعض العراقيل التي تحول دون تعزيز وتطوير هذا التقارب على النحو المُتوقع، ولعل أبرز التحديات مرتبطة بمدى إمكانية إتمام صفقات الطاقة بين روسيا وطالبان. فمن ناحية، يصعب اعتماد أفغانستان على صادراتها من الأسلحة الأمريكية إلى روسيا لتسديد قيمة وارداتها من النفط والغاز الروسي، خاصة أن معظم الأسلحة والمعدات العسكرية التي خلفتها واشنطن غير صالحة للاستخدام والتشغيل، وتحتاج إلى الصيانة. ومن ناحية أخرى، تعتمد روسيا خلال حربها في أوكرانيا على الهجمات بعيدة المدى التي تحتاج مدافع وصواريخ غير موجهة، وهي أسلحة غير متوفرة ضمن المعدات التي تركتها الولايات المتحدة الأمريكية قبل انسحابها. ناهيك عن أن امداد طالبان روسيا بالأسلحة الأمريكية سيكون من شأنه عرقلة جهودها ومساعيها لنيل الاعتراف، والقبول الدولي.
ضف إلى ما سبق، أن الاعتراف بحكومة طالبان كحكومة شرعية يظل مشروطًا من جانب روسيا بمدى وفاء الحركة بتشكيل حكومة شاملة، ومُتوازنة سياسيًا وعرقيًا، وإحراز تقدم حقيقي وملموس في مجال مكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات، بما يضمن عدم المساس بالأمن والنفوذ الروسي في المنطقة. هذا، فضلاً عن أن الكرملين كان قد أكد في أكثر من مناسبة على أن روسيا لا تمتلك آلية مستقلة لرفع حركة طالبان من قائمة التنظيمات الإرهابية، وأن مثل هذه القرارات يجب أن تُتخذ على مستوى الأمم المتحدة.
ختامًا، يمكن القول إن مجرد دعوة مُمثلي حكومة طالبان المؤقتة لحضور مؤتمر صيغة موسكو، إلى جانب الشراكات والالتزامات الاقتصادية والتجارية الثنائية مع روسيا -وإن ليس من المُتوقع أن تُحقق جدوى كبيرة على المستوى الاقتصادي- فإن تلك الخطوات ستحقق تطورًا إيجابيًا بالنسبة للجانبين على المستويين السياسي والدبلوماسي، لاسيما في ظل حالة العزلة التي يفرضها عليهما المجتمع الدولي.
[1] Petr Kozlov & Anna Rynda, Afghan crisis: Russia plans for new era with Taliban rule, BBC, 21 August 2021, available at: https://shorturl.ac/7bss6
[2] سامر إلياس، عودة موسكو إلى أفغانستان من بوابة طالبان، الجزيرة، 24 مايو، 2017، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.ac/7bssc
[3] العلاقات بين روسيا وطالبان تقلق المسؤولين الأفغان والأمريكيين، رويترز، 8 ديسمبر، 2016، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.ac/7bsse
[4] Ruslan Suleymanov, The enemy of my enemy…, International Politics and Society (IPS), 5 September, 2023, available at: https://shorturl.ac/7bssj
[5] Petr Kozlov & Anna Rynda, Op.Cit.
[6] Global Terrorism Index 2023: Measuring the Impact of Terrorism, Institute for Economics & Peace, Sydney, March, 2023, available at: https://shorturl.ac/7bsso