سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

في 23 سبتمبر الجاري (2023)، ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في افتتاح دورتها الثامنة والسبعين. وقبلها بيومين، التقى بالرئيس الأمريكي جو بايدن على هامش افتتاح هذه الدورة. بين خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة وبين ما دار في لقائه مع بايدن قبلها، ثمة روابط لا يجب تجاهلها، فأغلب القضايا التي اشتمل عليها خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، هي نفسها القضايا التي تختلف حولها وجهات النظر الأمريكية والإسرائيلية: ملف انضمام المملكة العربية السعودية لمسيرة التطبيع مع إسرائيل، ملف الإصلاحات القضائية التي تقودها حكومة نتنياهو والأزمة التي تسببت فيها ليس لإسرائيل وحدها، بل لمشروع الولايات المتحدة للدفاع عما تسميه بالنظام الليبرالي العالمي، والملف الدائم على طاولة العلاقات البينية بين البلدين (المشروع النووي الإيراني)، وملف القضية الفلسطينية ومستقبل حل الدولتين.

سنركز جل التحليل هنا علي خطاب نتنياهو أمام المنظمة الدولية، لأن الخطاب أصبح وثيقة رسمية لا يمكن إنكار وجودها، أو التلاعب بما ورد فيها من تفاصيل، بينما لقاء بايدن - نتنياهو لا يمكن معرفة ما دار فيه بشكل دقيق، رغم التغطيات الإعلامية والتصريحات الرسمية التي صدرت من المسئولين الأمريكيين والإسرائيليين في أعقاب هذا اللقاء.

ملاحظة حول منهج كتابة الخطاب

من المسلم به أن هناك فريقاً من الخبراء والمساعدين لرؤساء الدول والحكومات، يتولون صياغة الأفكار التي يقدمونها سواء للجمهور في الداخل، أو أمام المحافل الدولية، وأن الخطابات التي يلقيها زعماء الدول تحتوي على رسائل علنية وضمنية تسعى اللجان المتخصصة في كتابة هذه الخطابات من ورائها، لتحقيق أهداف متعددة داخلياً وخارجياً لصالح الدولة، وليس نتنياهو ومن كتبوا خطابه، استثناء من هذا التعميم بطبيعة الحال. ولأن الخطاب كان أمام المنظمة الدولية المنوط بها تحقيق السلام العالمي، عمد نتنياهو لربط مفهوم السلام بالحديث عن معسكرين أحدهما ينشد السلام ويسعى إليه وإسرائيل في قلب هذا المعسكر، والآخر يثير الحروب والاضطرابات التي تهدد أمن ورخاء الشعوب، ومستقبل الاستقرار العالمي وهم أطراف متعددة أهمهم إيران والفلسطينيون.

اختار نتنياهو الذي لا يمكن اعتباره شخصاً متديناً، كما تشير سيرته الذاتية التي كتب جانباً منها في كتاب أصدره في التسعينات من القرن الماضي بعنوان "مكان تحت الشمس"، أن يستهل خطابه من فوق منصة الأمم المتحدة برواية "توراتية". قال نتنياهو: "سيداتي وسادتي: منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، خاطب زعيمنا العظيم موسى بني إسرائيل وهم على وشك دخول أرض الميعاد. وقال لهم إنهم سيجدون هناك جبلين يواجهان بعضهما البعض: جبل جرزيم، وهو الموقع الذي يحتوي على نعمة عظيمة، وجبل عيبال، وهو موقع سيكون مصدر نقمة عظيمة. قال موسى إن مصير الناس سيتحدد بالاختيار الذي اتخذوه بين البركة واللعنة. بقى هذا  الخيار نفسه على مر العصور ليس فقط لبني إسرائيل ولكن للبشرية جمعاء. نحن نواجه مثل هذا الاختيار اليوم. وسوف نقرر معاً ما إذا كنا نتمتع ببركات سلام تاريخي من الرخاء والأمل اللامحدود أو نعاني من لعنة حرب مروعة، من الإرهاب واليأس".

عادة ما استغل جيل الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية الذين كان أغلبهم شبه ملحدين، ويتعاملون مع الدين والثقافة المبنية حوله، كنوع من الفلكلور، الروايات التوراتية لجذب التعاطف نحو قضية حق اليهود في الحصول على دولة يعيشون فيها في سلام، وفيما بعد (عقب نشأة إسرائيل) لتبرير العدوان الإسرائيلي على الأراضي العربية، فعلى سبيل المثال خاطب ديفيد بن جوريون - أول رئيس وزراء لإسرائيل - الكنيست بعد احتلال الجيش الإسرائيلي لسيناء أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 قائلاً: "إن آلاف الجنود قد شاركوا في القتال في صحراء سيناء لأنهم تذكروا كيف قاد موسى أسلافهم في هذه الصحراء إلى جبل سيناء ليتلقى الوصايا العشر من الرب".

في السياق نفسه، وبدون الإسهاب في ذكر مزيد من الأمثلة عن استغلال قادة إسرائيل للمقولات الدينية لتسويغ سياستهم العدوانية، يمكن فهم السبب في استهلال نتنياهو كلمته برواية دينية، بغرض التأثير على مستمعيه، وتمرير كل الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني تحت غطاء ديني.

كما يمكن فهم ذلك أيضاً في إطار مغازلة نتنياهو للوبي الإنجيلي في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي تتبعه كنائس ترعى ما يقرب من خمسين مليون أمريكي، وهو اللوبي الذي يؤمن بضرورة تمكين إسرائيل من السيطرة على كامل فلسطين وتجميع اليهود هناك، كمقدمة لتحقيق نبوءة عودة المسيح. ولا يمكن استبعاد أن نتنياهو أراد كذلك إرسال تحذير للرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يستعد لخوض معركة الولاية الثانية له في العام المقبل، ليقول له: "أنت تحتاج اللوبي اليهودي واللوبي الإنجيلي في معركتك مع الجمهوريين، فلا تضغط على إسرائيل كثيراً في هذا التوقيت بالذات". وفي نفس الوقت يرسل نتنياهو عبر تلك الرسالة أيضاً إلى شركائه في الائتلاف وعلى رأسهم حزبي الصهيونية الدينية ليطمئنهم أنه لا ينوي التضحية بهم أو بمشروعهم الداعي لضم الضفة الغربية لإسرائيل بشكل نهائي.

بعد ذلك، يقدم نتنياهو كل خصوم إسرائيل باعتبارهم جزءاً من "معسكر الأشرار"، أو حسب تعبيره "الساكنون في جبل عيبال"، وهم إيران والفلسطينيون، والعرب "المنشغلون بالإرهاب"، مقابل إسرائيل التي تنتمي لـ"معسكر الأخيار، وتسعى لسلام ورخاء العالم"!.

إيران في خطاب نتنياهو

 اعتبر نتنياهو أن إيران هي التي تمثل مركز الشر في العالم، أو حسب مصطلحاته فهي التي تسكن "جبل عيبال"، ومن خلال ذكرها في عدة مواضع في خطابة منفردة أو في سياق حديثه عن السلام مع بعض الدول العربية، ينبه نتنياهو إلى أن العالم كله ارتكب خطيئة كبرى بتسامحه مع سعى إيران لإنتاج أسلحة نووية، وطالب بإعادة فرض عقوبات مشددة عليها، بعد تماديها في تسريع أنشطتها النووية.

ولم يشر نتنياهو إلى فشل سياسته شخصياً عندما حرّض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2018 على الانسحاب من الاتفاق النووي الذي كانت الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إلى جانب ألمانيا قد توصلت إليه مع إيران عام 2015، والذي على إثره فشلت الولايات المتحدة الأمريكية في إقناع الدول الخمس الأخرى في السير في ركابها، والقبول بفرض عقوبات مشددة على إيران، وهو ما كان ينبغي لنتنياهو الاعتراف به بدلاً من توجيه اللوم لدول العالم كله في فشل محاولات منع إيران من الاستمرار في سعيها للحصول على البديل النووي.

ولأن نتنياهو يدرك استحالة قبول واشنطن أو أي من دول التحالف الغربي وضع الحل العسكري كخيار لمنع إيران من المضي في طريقها نحو تصنيع السلاح النووي، فقد عاد مجدداً للتأكيد على أن إسرائيل ستستخدم كل الوسائل لردع إيران، وهو تهديد لم يعد يأخذه أحد في العالم على محمل الجد، وإن كان في الإمكان اعتباره مجرد محاولة استباقية من جانب نتنياهو لتبرير العمليات التخريبية، والتي تنفذها إسرائيل منذ سنوات، ضد المنشآت النووية الإيرانية، مستقبلاً. 

ملف التطبيع مع المملكة العربية السعودية

يقدم نتنياهو في خطابة الاحتمال الذي يتردد أنه قريب الحدوث بإقامة علاقات طبيعية مع المملكة العربية السعودية، بمعنيين مختلفين، في جزء من خطابه يشير نتنياهو بنوع من السخرية إلى المحللين السياسيين الذين تعاملوا مع حديثه عن إمكانية توسيع السلام مع العرب وضم السعودية للمسيرة قبل خمسة سنوات، ليثبت أنه يتمتع بـ"عبقرية شخصية متفردة" تمكنه من قراءة المستقبل، وفي جزء آخر من الخطاب يتمسك بطابعه المتعجرف المعروف عنه بين معظم قادة العالم الذي التقاهم خلال رئاسته الطويلة لحكومات إسرائيلية متعاقبة، حيث قال بالنص في خطابه: "كما تعلمون، قبل بضع سنوات وقفت هنا مع ماركر أحمر لإظهار لعنة، لعنة كبيرة، لعنة إيران النووية. لكن اليوم، أحمل هذا الماركر لإظهار نعمة عظيمة. نعمة شرق أوسط جديد، بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية وجيراننا الآخرين". تلميح نتنياهو الذي يخبئه تحت التعبيرات التوراتية عن النقمة والنعمة، يحمل في طياته الربط الذي لا يمل نتنياهو من التأكيد عليه بين مخاوف العرب من إيران وبين سعيهم للسلام مع إسرائيل.

ورغم ذلك، لا يتسق حديث نتنياهو عن قرب عقد اتفاق مع المملكة العربية السعودية، مع العديد مما يرد في تقارير أمريكية، بأن الدور الأمريكي في تسهيل هذا المشروع لن يكون مجاناً، وأن الولايات المتحدة الأمريكية ربما تستغل رغبة نتنياهو الشديدة في تحقيق هذا الاتفاق، لتفرض عليه شروط سيكون من الصعب عليه قبولها، كما سنوضح لاحقاً.

الملف الفلسطيني في خطاب نتنياهو

احتوى الاستهلال المشار إليه سابقاً في خطاب نتنياهو على إشارة ضمنية من جانب نتنياهو لعدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، بل وتسويغ الاستيطان في الضفة الغربية كمقدمة لضمها نهائياً لإسرائيل، فالجبلان اللذان أشار إليهما نتنياهو في الرواية التوراتية، يقعان في الضفة الغربية بالقرب من مدينة نابلس، وبالتالي فهو يشير بشكل غير مباشر إلى تمسكه بضم الضفة الغربية لإسرائيل باعتبارها جزءاً من الوطن اليهودي حسب الوعد التوراتى، وأن مقاومة الفلسطينيين لهذا الضم هو جزء من معركة بين "معسكر الأخيار" و"معسكر الأشرار"، ويقفز نتنياهو على كل جرائم إسرائيل في حق الفلسطينيين، ويصورهم على أنهم "مؤيدون للإرهاب ومعادون للسامية"، بقوله: "لا يمكن تحقيق السلام إلا إذا كان قائماً على الحقيقة، حيث لا يمكن له أن يستند إلى الأكاذيب، ولا يمكن له أن يستند إلى تشهير لا نهاية له بحق الشعب اليهودي. يجب على الزعيم الفلسطيني محمود عباس التوقف عن نشر المؤامرات المعادية للسامية الرهيبة ضد الشعب اليهودي والدولة اليهودية. فهو صرح مؤخراً بأن هتلر لم يكن معادياً للسامية. لا يجوز طرح مثل هذه المزاعم المختلقة. لكنه فعل ذلك وتفوه بهذا الكلام. ويجب على السلطة الفلسطينية أن تكف عن تمجيد الإرهابيين. وعليها أن توقف سياسة الدفع مقابل المجازر التي تنتهجها والتي تقضي بإعطاء أموال للإرهابيين الفلسطينيين مقابل قتل اليهود. هذا أمر مخزٍ للغاية. ويجب أن يتوقف لكي يسود السلام. يجب رفض معاداة السامية أينما ظهرت، سواء على اليسار أو على اليمين، سواء في قاعات الجامعات أو في قاعات الأمم المتحدة."

يدرك الرئيس محمود عباس أكثر من أي شخص آخر مدى قدرة إسرائيل على توظيف مثل هذه التصريحات لتبرير عدوانها على الشعب الفلسطيني، كما يعرف الرئيس أبو مازن أيضاً صعوبة المعركة الإعلامية مع اليهود وإسرائيل. من هنا، يجب التصدي لمثل هذا الاستغلال السيئ من جانب نتنياهو لما قاله أبو مازن، بالتأكيد على إدانة أبو مازن المحرقة النازية في مناسبات عدة، وأنه لم يشكك في حدوثها أيضاً، بل فقط أراد أن يعبر عن الظلم الذي وقع على الفلسطينيين جراء دعم أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية لتعويض اليهود عن "مأساتهم على يد النازي" بمنحهم الحق في إقامة دولتهم على أرض الشعب الفلسطيني.

على أية حال، وفي إطار سعى نتنياهو لخداع العالم، تحدث بشكل غامض عن السلام مع الفلسطينيين بقوله: "يمكن للفلسطينيين الاستفادة بشكل كبير من سلام أوسع. وينبغي أن يكونوا جزءاً من العملية، ولكن ينبغي ألا يكون لهم حق النقض على العملية. وأعتقد أيضاً أن صنع السلام مع المزيد من الدول العربية سيزيد في الواقع من احتمالات صنع السلام بين إسرائيل والفلسطينيين."

لا يوضح نتنياهو الذي يقود ائتلافاً ترفض أحزابه حل الدولتين، كيف سيتحقق السلام مع الفلسطينيين بدون الاعتراف بحقهم في إقامة دولتهم المستقلة؟، إذ أن كل ما يمكن أن يقدمه نتنياهو وائتلافه هو وعود بتحسين أوضاع الفلسطينيين المعيشية، وحتى فكرة منحهم حكماً ذاتياً لهم، تبدو مستبعدة بسبب سعى أحزاب الصهيونية الدينية على وجه الخصوص لضم الضفة الغربية لإسرائيل بشكل نهائي. ولم يترك نتنياهو مكاناً للشك في نواياه ونوايا شركائه في الائتلاف، حيث تعمد وهو يتحدث عن توسيع اتفاقات السلام مع العرب، استخدام خريطة إيضاحية تضع اسم إسرائيل على كافة حدود فلسطين الانتدابية.

المعادلة الفاشلة نفسها

لا يقدم نتنياهو في خطابه مجرد الادعاء الكاذب بأن إسرائيل دولة تسعى لصنع السلام، بل يذهب أيضاً وبشكل غير مباشر لتكريس المعادلة سيئة الذكر والتي رددها من قبله شيمون بيريس رئيس وزراء ورئيس دولة إسرائيل سابقاً، في كتابه المعروف "الشرق الأوسط الجديد" الذي أصدره عام 1993، من أن العرب والعالم يجب أن يفكروا في المنافع الاقتصادية والخبرات العلمية والتكنولوجية التي يمكن أن تمدهم بها إسرائيل في مقابل التسليم لها بمطامعها في أراضي الشعب الفلسطيني. علي المنوال نفسه يذهب نتنياهو للقول بأن "إسرائيل ستكون جزءاً أساسياً من الثورة العلمية القادمة - ثورة الذكاء الاصطناعي - ومثلما زودت الثورة التكنولوجية الإسرائيلية العالم بابتكارات مذهلة، فأنا واثق من أن الذكاء الاصطناعي الذي طورته إسرائيل سيساعد البشرية جمعاء مرة أخرى". ويستكمل الحديث بنفس محتوى المعادلة المذكورة آنفاً، حيث يقول: "في قمة الدول العشرين الأكبر اقتصاداً في العالم طُرح مشروع إنشاء ممر ملهم يمتد عبر شبه الجزيرة العربية وإسرائيل، اليوم، ونحن نهدم جدران العداوة، يمكن لإسرائيل أن تصبح جسراً للسلام والازدهار بين هذه القارات. إن السلام بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية سيخلق حقاً شرق أوسط جديداً".

قد يكون نتنياهو في تكراره لمعادلة بيريس، لديه أسباب عديدة، فوضع الفلسطينيين والعرب من حيث موازين القوى، كان قد تدهور بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، ولكنه كان أقل سوءاً من الوضع الحالي حيث تحاصر أغلب الدول العربية تهديدات خطيرة أمنية واقتصادية وسياسية، وبالتالي فإن نتنياهو يراهن على أن القفز على الحقوق الفلسطينية بات ممكناً، ولكنه يتناسى حقيقتين لا يمكن الهروب منهما:

الأولى، أن الشعب الفلسطيني لن يتنازل عن سعيه لإقامة دولته بكل الطرق، وأن القضاء على المقاومة الفلسطينية بالقمع سيكون مكلفاً لإسرائيل التي لن تجد حلاً سوى إعلان ضم الضفة الغربية إليها، مع منح الفلسطينيين نوعاً من الحكم الذاتي، وعندها سيتعين عليها الدخول في مواجهات ممتدة مع الأغلبية من الشعب الفلسطيني، عبر عمليات تنفذها جماعات منظمة أو أفراد "ذئاب منفردة"، وإذا ما كانت قادرة على تفكيك الجماعات المنظمة، فإنه فضلاً عن أن ذلك سيحتاج لفترة زمنية طويلة وحروب صغيرة ولكنها مؤلمة للشعب الإسرائيلي، فان مواجهة الذئاب المنفردة تغدو أصعب، وربما تؤدي إلى اندلاع مواجهات دموية مستمرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين كما حدث مؤخراً في أكثر من قرية بين الفلسطينيين والمستوطنين في الضفة الغربية. بمعنى آخر، كما فشل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين في إقناع الرأي العام الإسرائيلي بفوائد اتفاق "أوسلو" مع منظمة التحرير الفلسطينية كثمن للسلام مع الفلسطينيين، خاصة بعد اندلاع العديد من المواجهات بين الطرفين لاحقاً، وصولاً إلى انهيار الاتفاق عملياً، بنشوب الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000... كما فشل رابين الذي أراد أيضاً القفز على سعي الفلسطينيين لإقامة دولتهم المستقلة، فإن نتنياهو يُعرِّض إسرائيل لحرب استنزاف طويلة مع الفلسطينيين، إذا ما أصر على اعتبار توسيع السلام مع العرب على أنه وصفة لتجاهل حقوق الفلسطينيين إلى الأبد.

الثانية، أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود عملية توسيع السلام بين العرب وإسرائيل، لا توافق على سياسة نتنياهو سواء في الداخل، حيث تطالب الأخير بعدم تمرير خطة الإصلاحات القضائية إلا بتوافق واسع مع المعارضة، وتعتبر إدارة بايدن أن خطة نتنياهو تضر بصورة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية باسم "النظام الليبرالي العالمي" في مواجهة محاولات روسيا والصين إقامة نظام دولي بديل لا يعترف بمركزية الديمقراطية والليبرالية الغربية، وترى واشنطن أن إصلاحات نتنياهو القضائية تجعل إسرائيل - الحليفة الأهم للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط- دولة استبدادية أقرب لتوجهات روسيا والصين.

أيضاً، لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية مؤيدة لحل الدولتين، كما أنها لا تقر رغبة إسرائيل في توجيه ضربة عسكرية لإيران. ويعني ذلك كله أن الولايات المتحدة الأمريكية ستطلب من إسرائيل مقابل مساعدتها لها في تحقيق السلام مع المملكة العربية السعودية، الوفاء بجملة تعهدات يصعب على نتنياهو تقديمها، وهو ما لخصه الكاتب الأمريكي المعروف توماس فريدمان في مقال كتبه في صحيفة "نيويورك تايمز" في أعقاب لقاء نتنياهو مع بايدن، بقوله: "أتخيل أن بايدن قال لنتنياهو: أنت تريد هذه الصفقة التي من شأنها تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، أنا أريدها أيضاً.. ولكن للحصول عليها سيتعين على أن أفعل شيئاً صعباً للغاية، مثلاً: توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع المملكة العربية السعودية وربما الموافقة على نوع من البرنامج النووي المدني للمملكة تحت ضوابط صارمة. سيتعين على ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أن يفعل شيئاً صعباً للغاية، وهو تطبيع العلاقات بين أقدس موقعين في الإسلام، مكة والمدينة – مع إسرائيل، والآن سيتعين عليك القيام بشيء صعب أيضاً".

وأضاف: "سيتعين عليك الموافقة على شروط التطبيع مع المملكة العربية السعودية والتي ستتطلب منك كبح المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية بشكل يمكن التحقق منه، وتحسين ظروف المعيشة والسفر للفلسطينيين هناك، وتعزيز الإدارة الفلسطينية على المزيد من مناطقها المأهولة بما يتفق مع ما هو مطلوب منكم بموجب اتفاقات وبما يحافظ على خيار حل الدولتين، على الرغم من أن اتفاق الائتلاف الخاص بك يدعو إلى الضم".

الحوار التخيلي الذي قدمه فريدمان لا يبعد عن الحقيقة كثيراً، ولكن نتنياهو يراهن فيما يبدو على إمكانية استغلال رغبة بايدن في الحصول على دعم اللوبيات الموالية لإسرائيل في الانتخابات الأمريكية المقبلة، لكى يمرر اتفاقاً يكون بكامله في صالح إسرائيل، وهو أمر تحكمه اعتبارات عديدة أهمها مدى استعداد المملكة العربية السعودية للتخلي عن بعض مطالبها، ومدى استعداد أطراف أخرى في الإدارة الأمريكية غير البيت الأبيض للخضوع لمطالب نتنياهو.