د. محمد عباس ناجي

رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

حظيت مشاركة فريق النصر السعودي في مباراة لكرة القدم مع فريق برسيبوليس الإيراني في طهران - ضمن منافسات الجولة الأولى لدوري المجموعات في بطولة دوري أبطال آسيا - في 19 سبتمبر الجاري (2023)، باهتمام خاص ليس فقط من جانب الجماهير الإيرانية بمختلف انتماءاتها وإنما أيضاً من قبل النظام الحاكم.

المباراة انتهت بفوز الفريق السعودي بهدفين مقابل لا شيء، لكن الجدل الذي دار حولها - قبلها وبعدها - لم ينته بعد. ورغم أنها تبقى مجرد مباراة كرة قدم، إلا أن ذلك لا ينفي أنها، في ظل الظروف التي أجريت فيها، اكتسبت طابعاً سياسياً لا يمكن تجاهله.

من دون شك، فإن مشاركة النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو لاعب النصر السعودي في المباراة أكسبها من البداية طابعاً خاصاً في ظل الشهرة الواسعة التي يحظى بها والتي بدت جلية في الترحيب الحار به من جانب الجماهير الإيرانية، والاستقبال الذي نظمته بلدية طهران وفريق برسيبوليس واتحاد الكرة الإيراني وسمحت به السلطات الإيرانية، التي كان لافتاً أنها منحت الفريق السعودي بطاقات غير مشفرة "SIM" لاستخدام الإنترنت بأريحية في ظل القيود التي تتعرض لها وسائل التواصل الاجتماعي في إيران.

ارتدادات بكين

يمكن القول إن سماح السلطات الإيرانية بهذا الاستقبال اللافت لفريق النصر يمثل رسالة من جانبها بأنها تولي أهمية خاصة للتطورات الإيجابية التي طرأت على العلاقات الدبلوماسية مع السعودية بعد توقيع اتفاق بكين لاستئناف تلك العلاقات برعاية الصين في 10 مارس الماضي، وهو الاتفاق الذي مازال يُعوَّل عليه في تعزيز فرص تسوية بعض الأزمات الإقليمية التي تحظى باهتمام خاص من جانب طهران والرياض، وفي مقدمتها الأزمة اليمنية، التي تشهد حالياً تحركات متسارعة في هذا الصدد، كان آخرها زيارة وفد حوثي إلى العاصمة السعودية، في 14 سبتمبر الجاري، لإجراء مباحثات حول بعض الملفات الرئيسية، والتي استمرت خمسة أيام.

وهنا، فإن اللافت في هذا السياق، هو أن هذه المباراة تبقى الأولى منذ ثماني سنوات لفريق سعودي على الأراضي الإيرانية، بسبب التوتر الذي طرأ على العلاقات بين إيران والسعودية منذ بداية عام 2016 عقب الاعتداء على السفارة والقنصلية السعوديتين في طهران ومشهد في يناير من هذا العام اعتراضاً على تنفيذ السلطات السعودية بعض أحكام الإعدام، ما دفع الرياض، وعواصم عربية أخرى، إلى اتخاذ قرار بقطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران. وكان ذلك سبباً في اضطرار الاتحاد الآسيوي لكرة القدم لتنظيم المباريات التي تجمع أندية سعودية وإيرانية على أرضٍ محايدة.

ويعني ذلك في المقام الأول أن إيران تحاول الإيحاء بأن تطور العلاقات مع السعودية يحظى بأولوية لديها، ولن يقتصر على الجانب السياسي فحسب بعد تبادل فتح السفارات وتعيين السفراء، بل سيمتد إلى المستويات الأخرى، منها الرياضي والاقتصادي. وكان لافتاً في هذا الصدد أن المبارة أجريت بعد نحو ثلاثة أسابيع من نقل أول شحنة بضائع روسية إلى السعودية عبر الأراضي الإيرانية، حيث وصل قطار حاويات روسي يجر 36 عربة إلى منفذ اينجه برون بمحافظة كلستان شمال إيران، في 27 أغسطس الفائت، واتجه صوب مدينة بندر عباس في محافظة هرمزكان جنوبي البلاد، ومنها إلى السعودية.

ظل مهسا اميني

ألقى الاهتمام الجماهيري والرسمي اللافت بمبارة النصر وبرسيبوليس، منذ بداية وصول الفريق السعودي إلى الأراضي الإيرانية، الضوء من جديد على الأزمة العالقة بين النظام والشارع في إيران. فقد أجريت المباراة بعد أربعة أيام فقط من حلول الذكرى الأولى لوفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا اميني بعد تعرضها للعنف من جانب عناصر من شرطة الأخلاق الذين اتهموها بعدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب.

ورغم أن النظام الإيراني استطاع تجاوز هذا الاختبار الذي عوّلت عليه دول غربية عديدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، سواء خلال فترة الاحتجاجات التي تجاوزت خمسة أشهر منذ بدايتها في منتصف سبتمبر 2022، أو خلال الذكرى الأولى، فإن ذلك لا ينفي أن الأزمة ما زالت قائمة.

فالمسألة لا تتعلق بنجاح النظام في فرض أمر واقع، وتكريس رؤيته الخاصة بالحجاب والقضايا الاجتماعية الأخرى بدليل إصراره على تمرير ما يسمى بـ"قانون الحجاب والعفة"، وإنما تتصل بوجود مُحفِّزات للأزمة، قد تتجدد أو تتطور في مرحلة لاحقة، رغم كل القيود التي يفرضها النظام، والتي أنتجت مفارقة عندما أثير الجدل حول مدى إمكانية السماح لأعضاء الفريق السعودي باستخدام شرائح إنترنت غير مشفرة للتواصل مع العالم الخارجي يمكن أن تقدمها لهم شركة "ايرانسيل" للاتصالات.

هذا الجدل بدأ قبل أسبوع من وصول الفريق السعودي إلى إيران، حيث اختص وزير التراث الثقافي والسياحة الإيراني عزت الله ضرغامي اللاعب البرتغالي كريستيانو رونالد بتصريحات قال فيها: "إذا حضر رونالدو لإيران فعليه تثبيت تطبيقي "نعم" و"ايتا" (بله وایتا)، إذا ما أراد التواصل مع عائلته وأصدقائه، وعليه أيضاً إخطارهم بضرورة تثبيت التطبيقين، كي يتلقوا مكالماته". في حين أن الرئيس التنفيذي لنادي برسليبوس رضا درويش قال أن النادي تواصل مع شركة "ايرانسيل" لتزويد لاعبي النصر بشرائح غير مشفرة.

إلا أن محمد جواد آذري جهرمي وزير الاتصالات السابق في حكومة حسن روحاني قال أنه "يمكن لأى أجنبي يسافر إلى إيران أن يستفيد من خدمة التجوال، التي يتم توجيهها عبر الدولة التي أصدرت شريحة SIM التي لا تتعرض للفلترة".

جهرمي لم يكتف بذلك، بل انتقد هؤلاء الذي هاجموا المرحبين برونالدو، مؤكداً أنه إذا كان لدى إيران المزيد من الاتصال بالعالم، فإن هذه المظاهر سوف تكون مألوفة، في إشارة لها مغزاها ومفادها أن القيود التي يفرضها النظام على الشارع أنتجت مفاعيل عكسية بدت جلية في الترحيب الواسع من جانب الشارع الإيراني بـ"الدون".

هذا الجدل يطرح بدوره دلالة مهمة وهى أن وجود كريستيانو رونالدو في طهران كان فرصة للنظام والشارع في آن واحد. فرصة للنظام باعتبار أن ذلك يمثل رسالة إلى العالم بأنه لا توجد أزمة حقيقية في إيران بدليل الاستقبال الحافل للفريق السعودي والسماح للجماهير بالتحرك بحرية لاستقباله ومطاردة رونالدو حتى داخل الفندق. بل إن هناك تقارير تشير إلى أن النظام تعمد عدم اتخاذ إجراءات أمنية مشددة للسماح بهذا الحشد الذي سيصل إلى مختلف أنحاء الأرض كدعايا مجانية وترويج لرؤية النظام لما يجري داخل إيران.

وفرصة للشارع لتحقيق هدفين: أولاً، إثبات قدرته على الحشد مجدداً. ويعني ذلك أن الشارع يريد بدوره إقناع النظام بأنه إذا كان قد استطاع بآليات مختلفة تجاوز أزمة مهسا اميني، فإن ذلك لا يمثل نهاية المطاف، إذ أن الاحتجاجات قد تتجدد مرة أخرى في حالة ما إذا توافرت ظروف شبيهة بما جرى في 15 سبتمبر 2022.

وثانياً، توجيه رسالة ضمنية للقيادة بأن هناك رموزاً أخرى يمكن الاحتشاد حولها غير رموز النظام. وبمعنى آخر، فإن قسماً من الشارع الإيراني بات يرى أن النظام في إيران تعمد على مدى العقود الأربعة الماضية إخلاء الساحة من أية رموز – إيرانية أو أجنبية - قد يمثل الاحتفاء بها، في رؤيته، خصماً اجتماعياً من الرصيد والنفوذ الذي يمتلكه قادته من رجال الدين. ومن هنا، يمكن تفسير تعمد السلطات عدم السماح بممارسة أنشطة خاصة بتنظيم احتفالات على النمط الغربي، أو حتى احتفالات لإحياء بعض المناسبات التاريخية التي شهدتها إيران.

ختاماً، يبقى القول إن زيارة رونالدو إلى طهران – ضمن فريق النصر السعودي - وما تخللها من احتفالات وتحشيد، كلها توحي بأن التسييس بات سمة رئيسية لمعظم، إن لم يكن، مجمل التفاعلات التي تجري داخل إيران على المستويات المختلفة، حتى لو كانت مباراة في كرة القدم.