نشرت صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية في الثامن من سبتمبر الجاري (2023) وثائق وصفتها بأنها "تاريخية"، تكشف لأول مرة صورتين تدعي أنهما لـ أشرف مروان، زوج ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، خلال لقاء له مع الضابط المسؤول عنه في الموساد -حسب الصحيفة- واسمه "دوبي". وبالتزامن مع ذلك، وعلى نحو استثنائي، نشر الموساد كتابا يتطرق جزئيا لحرب أكتوبر 1973 تحت عنوان "ذات يوم، حين يكون البوح مسموحا"، أعدته إحدى الباحثات في قسم التاريخ في الموساد، ووُصف بأنه أول كتاب يصدر عن الموساد رسميا. ويضم الكتاب وثيقتين: الأولى، هي وثيقة يعود تاريخها إلى الخامس من أكتوبر 1973، وتوثق طلب مروان مقابلة رئيس الموساد، في ذلك الوقت، تسفي زامير، بشكل عاجل، عشية الحرب. وجاء في هذه الوثيقة: "اتصل (مروان) في الساعة 9:30 مساء يوم الخميس (في الرابع من أكتوبر) هاتفيًا، وقال إنه سيصل غدًا الجمعة، مساء الخامس من أكتوبر، لعقد لقاء، سيقدم خلاله معلومات ذات أهمية كبيرة، وسأل عما إذا كان من الممكن أن يشارك تسفي زامير، رئيس الموساد، في اللقاء، لأهمية الموضوع، وألمح إلى أن المعلومات التي سيقدمها تخص... (هذا الجزء من الوثيقة لا يزال محظورا) وهي بحوزته".

أما الوثيقة الثانية، فهي عبارة عن بروتوكول والنص الكامل لمحضر الاجتماع الذي عُقد في لندن في 5 أكتوبر 1973، بين رئيس الموساد حينها (زامير) ومروان، والذي تم فيه التحذير من اندلاع الحرب قبل 16 ساعة من نشوبها.

هل هناك جديد في هذه الوثائق؟

باستثناء أن الوثائق الجديدة تبناها الموساد رسميا، لا يوجد أي جديد في المعلومات التي تحتويها عن علاقة أشرف مروان بالموساد؛ فقد تم تسريب هذه المعلومات بشكل جزئي على مدى سنوات في مذكرات القادة الإسرائيليين في حرب أكتوبر، مثل مذكرات جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في الفترة (1969-1974) الصادرة عام 1980، ومذكرات إيلي زعيرا (رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية خلال الفترة 1972-1974)، ومذكرات موشيه ديان (وزير الدفاع الإسرائيلي خلال الفترة 1967-1974) الصادرة عام 1976. صحيح أن الكشف عن هوية ما يسمى بالعميل "بابل" أو "الصهر" أو "الملاك" بأنه أشرف مروان، لم يتم إلا في عام 2004على يد الباحث الإسرائيلي أهارون بيرجمان، نقلا عن إيلي زعيرا، إلا أن هذا الكشف بقي مجرد روايات يتداولها صحفيون وباحثون دون تأكيد رسمي من الدولة العبرية، حتى ظهرت الوثيقتان وكتاب الموساد السابق الإشارة إليهما، وبذلك يمكن القول إننا أمام الرواية الرسمية الإسرائيلية حول قضية أشرف مروان. ولكن بفحص ما ورد فيها جميعا لا نجد أي اختلاف مع التسريبات السابقة التي تمت عبر وسائل إعلامية وكتابات أكاديمية أو صحفية، وجميعها احتوت على تناقضات واضحة أفقدت الرواية الإسرائيلية تماسكها المنطقي، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، إذ لا تزال نفس الأسئلة غير المجاب عليها من جانب إسرائيل حاضرة حتى اليوم، وأهمها ما يلي:

1- لماذا خالف الموساد القاعدة الذهبية المستقرة في العمل الاستخباراتي بشكل عام، والتي تمنع كشف أي جهاز استخباراتي عن شخصيات من يتم تجنيدهم من رعايا الدول الأجنبية، سواء الصديقة أو المعادية، حتى بعد موتهم بسنوات طويلة؟ وهي قاعدة تستهدف الحفاظ على قدرة الجهاز الاستخباراتي على تجنيد مزيد من العملاء مستقبلا في أي دولة. ومن المنطقي أن يؤدي كشف إسرائيل المزعوم عن عمالة أشرف مروان لها، إلى فقدانها القدرة على تجنيد عملاء آخرين من مصر أو غيرها، إذ من سيقبل بأن يغامر بالعمل مع جهاز استخبارات يمكن أن يتم الكشف عنه في أي لحظه ليتعرض هو وعائلته (حتى بعد وفاته) لخطر مميت؟ 

2- هل يمكن أن يكون نشر صورتين تُظهِران جانب من وجه أشرف مروان مع شخص آخر لا يظهر وجهه فيهما، على أنه دليل على الزعم الإسرائيلي بعمالة مروان لها؟ أليس من الطبيعي تفسير الأمر على أنه منطقي في إطار أن مروان كان جزءا من خطة خداع استراتيجي مصري استهدف إغراء الإسرائيليين بتجنيده، ليتم نقل معلومات مغلوطة لهم من جانب أجهزة الاستخبارات المصرية لتضليلهم، ومن ثم فإن ظهور مروان مع شخص إسرائيلي يبقي طبيعيا وليس دليلا بالضرورة على عمالته للموساد، بل قد يكون على العكس دليلا على مهارة الاستخبارات المصرية في رسم خطة الخداع وانطلائها على الإسرائيليين؟ من جانب آخر، حتى لو افترضنا صحة المزاعم الإسرائيلية عن عمالة مروان لها، فإن نشر الصورتين لمروان ومُشغله الإسرائيلي "دوبي"، علاوة على عدم وضوح الوجوه فيها، فإن الصور في عصرنا هذه يسهل تزيفيها والتلاعب بها بواسطة تقنيات باتت منتشرة حتى على الهواتف المحمولة، ويمكن لأي شخص أن ينشر صورا تضم أشخاصا لم يلتقوا من الأصل معا لا في المكان، ولا حتى في نفس العصر، في صورة واحدة!!

3- حسب ما تقوله وثائق الموساد ووثائق الأرشيف القومي الإسرائيلي، فإن مروان طلب لقاء مع رئيس الموساد يوم الرابع من أكتوبر، ووصل في اليوم التالي (الخامس من أكتوبر) من باريس إلى لندن ليلتقي زامير هناك، وأخبره بمعلومات دقيقة عن تحركات الجيشين المصري والسوري، وعن حجم تسليحهما على الجبهتين، ونيتهما الهجوم على إسرائيل مساء السادس من أكتوبر. وحسب نفس رواية الموساد، فإن مروان أخبر زامير بأن السادات بدأ الإعداد للحرب في 25 سبتمبر، وأن مروان نفسه تأكد في 29 سبتمبر بأن السادات جاد هذه المرة في شن الحرب فعلا، وأنها ليست مناورة من جانبه كسابقاتها في أعوام 1972، وأبريل 1973… السؤال هنا: لماذا لم يقم زامير بتأنيبه على عدم إرساله هذه المعلومات حين عرفها على التو؟ إن وجود هذه المعلومات في يد إسرائيل قبل الحرب بأسبوع كامل كان من شأنه أن يحميها من صدمة المفاجأة في السادس من أكتوبر؟ فلماذا لم يسأل زامير نفسه هذا السؤال؟ ولماذا لم يسأله أيضا كل رجال الموساد حتى اليوم لأنفسهم؟ ألم يثر تأخر مروان في إبلاغهم بالمعلومات اليقينية التي عرفها يوم 29 سبتمبر أي شكوك لدى زامير وضباطه وخلفائه من بعده؟!!

4- تناولت بعض التغطيات الأولية في عدد من الصحف العربية في الخارج للوثائق التي كشف عنها الموساد، ادعاء بأنها المرة الأولى التي يتم فيها الكشف عن اسم من كان يقوم بتشغيل مروان في الموساد، واسمه "دوبي"!! بينما الحقيقة أن "دوبي" هذا مجرد اسم حركي لضابط في الموساد لم يتم الكشف عن هويته حتى في الوثيقة الصادرة عن الموساد. وسبق للأكاديمي الإسرائيلي يوري بار جوزيف أن كشف عنه في كتابه المعروف "الملاك" الصادر عام 2016. والمفارقة أن الموساد الذي خالف القاعدة الذهبية بعدم كشف عملائه، لم يكتف بوضع نفسه موضع السخرية بكشفه عن شخصية "الملاك" أو "بابل" الحقيقية، بل دمر أيضا سمعة يوري بار حوزيف، الذي يتم تعريفة كأستاذ للعلاقات الدولية في جامعة حيفا، بينما يبدو (أي بار جوزيف) في الحقيقة ليس سوى مجرد كاتب محدود الموهبة لروايات الموساد المزيفة عن بطولاتها الوهمية.

5- إذا كانت الرواية الرسمية الإسرائيلية عن حرب أكتوبر، لا تزال تتمسك بمقولة زائفة عن أنها خرجت من هذه الحرب منتصرة، وهي مقولة مجافية للوقائع التاريخية، سواء  فيما يتعلق  بسير المعارك أو عن النتائج السياسية لها لاحقا، فلماذا تدور الأعمال الأدبية والفنية في إسرائيل حتى اليوم عن "الصدمة" و"الزلزال" الذي هدد وجود إسرائيل جراء هذه الحرب، دون الحديث الصريح عن انتصار إسرائيل المزعوم فيها، كما تزعم الرواية الإسرائيلية الرسمية حتى اليوم (مثال ذلك المسلسل الذي يدور حول بعض المعارك في حرب يوم الغفران، بعنوان "وادي الدموع،" الذي أُذيع على بعض المحطات التلفزيونية الإسرائيلية عام 2020)؟ إن الفجوة بين التمسك غير الموضوعي من جانب إسرائيل الرسمية بالنصر المزعوم في حرب أكتوبر، وبين الشكوك التي تثيرها الأعمال الفنية والأدبية حولها، وتركيزها (أي هذه الأعمال) على الجوانب المأساوية التي أصابت أجيال من الإسرائيليين بالصدمة والخوف من المستقبل بسبب ما تعرضت له إسرائيل من خطر الزوال وجوديا في حرب أكتوبر… هذه الفجوة تبرهن على فشل الدولة العبرية في إقناع شعبها برواية الانتصار المزعوم. 

أهداف إسرائيل من نشر الوثائق

كما أوضحنا سابقا، فإن ما نشرته إسرائيل من وثائق مؤخرا لا يأتي بجديد عما كان معروفا من خلال التسريبات التي توالت عن أسرار ما جرى في حرب أكتوبر (حرب يوم كيبور بالتسمية العبرية) على مدى ما يزيد عن أربعين عاما، فما هو الدافع من وراء ذلك الآن؟

من السهل قراءة تلك الدوافع من خلال النقاط التالية:

1- اعتادت إسرائيل في كل عام، مع اقتراب ذكرى حرب أكتوبر، أن تكرر الادعاء الكاذب بأنها انتصرت في الحرب، ولأنها تعرف تماما أن ذلك الادعاء لا يقلل من حماس المصريين للاحتفال بانتصارهم الفعلي في هذه الحرب، فإنها تحاول عبر نشر المعلومات المضللة إفساد احتفالات المصريين بهذه الذكرى العظيمة الخالدة.

2- الاستمرار في إثارة الشكوك حول ولاء أشرف مروان لمصر، للتأثير على معنويات الأجيال الجديدة في مصر، وإيهامها بأن قدرات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كانت ولا تزال غير محدودة، وقادرة على اختراق أقوى أجهزة الدولة المصرية، وتجنيد رجال في أعلى مستويات السلطة بها.

3- محاولة دفع مصر لإصدار رواية رسمية عن حقيقة أشرف مروان دون مواربة، لأنه إذا كان دافع مصر لعدم الرد على الرواية الإسرائيلية في هذا الصدد على مدى نحو عشرين عاما، هو عدم وجود رواية رسمية إسرائيلية عن القضية، فإنه بعد إصدار الموساد لوثائقه عنها بشكل رسمي، لم يعد لدى السلطات المصرية -من وجهة النظر الإسرائيلية- مبررا للاستمرار في تجاهل التسريبات الإسرائيلية القديمة والحديثة عن نفس القضية. 4

4- تلاحظ القيادات السياسية في إسرائيل إن أي حدث كارثي تواجهه الدولة في الوقت الراهن يتم مقارنته بما حدث في حرب أكتوبر 1973، فحرائق الغابات الواسعة في إسرائيل عام 2010 عجزت الدولة عن احتوائها لعدة أيام تم تناوله في الصحافة الإسرائيلية في حينها على أنه تكرار للمأساة التي واجهتها إسرائيل في حرب أكتوبر بسبب تقصير القادة وعجزهم عن حماية الدولة والشعب. وفي الوقت الراهن يتم مقارنة تداعيات الأزمة السياسية التي أحدثها رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو على خلفية إصراره على تنفيذ خطة الإصلاحات القضائية، بأنها تعيد إسرائيل لنفس المخاوف التي راودتها أثناء وبعد حرب أكتوبر والتي تهدد بانهيار المجتمع والدولة معا. وتعني هذه المقارنات أن حرب أكتوبر والهزيمة التي تلقتها إسرائيل فيها أصبحت نقطة مركزية في الوعي العام للشعب الإسرائيلي، وأنه لم يتقبل حتى اليوم مزاعم انتصار دولته في هذه الحرب، لذلك تحاول الدولة العبرية من خلال تكرار الادعاء بالانتصار في هذه الحرب القضاء أو على الأقل احتواء شعور الإسرائيليين العميق بأنهم لم ينتصروا في تلك الحرب، عبر الإلحاح على الرواية المزيفة ومدها بمعلومات تبدو جديدة، ولكنها لا تحمل في الواقع أي إضافة يمكنها أن تغير من حقيقة الهزيمة المريرة التي تعرضت لها في أكتوبر 1973.

5- استمرار الموساد، عبر نشر تلك الوثائق، في شن حربه الخاصة ضد غريمه (جهاز الاستخبارات العسكرية) حيث أن الرواية السائدة داخل إسرائيل حتى اليوم لازالت تُحمل "أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية" بشكل عام دون تمييز فيما بينها، مسئولية الهزيمة في حرب أكتوبر، ويحاول الموساد منذ سنوات طويلة تبرئة نفسه من هذه المسئولية وإلصاقها بجهاز الاستخبارات العسكرية وحده، ولذلك تعتبر قضية أشرف مروان قضية مركزية في تلك الحرب، حيث لا يزال إيلي زعيرا (مدير المخابرات الحربية الإسرائيلية أثناء حرب أكتوبر) يؤكد على أن جهازه قام بواجبه على أكمل وجه، وأن السبب في هزيمة إسرائيل هو نجاح المخابرات المصرية في خداع الموساد بزرع أشرف مروان بين صفوفه.