يدخل الفراغ الرئاسي اللبناني شهره الحادي عشر وسط أمنيات بأن يكون شهر سبتمبر الجاري هو شهر انتخاب رئيس جديد للبلاد. وفي ظل نشاط المحادثات الدولية والإقليمية سواء في إطار اللجنة الخماسية المهتمة بالحل في لبنان أو في إطار التقارب السعودي-الإيراني، برزت مؤخراً مبادرة محلية تمثلت في دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري الفرقاء اللبنانيين للحوار لانتخاب رئيس للجمهورية.
لم تكن دعوة بري للحوار جديدة، إذ طوال الأشهر الماضية وجّه رئيس البرلمان دعوات مشابهة للكتل البرلمانية للجلوس إلى طاولة حوار للاتفاق على مرشح للرئاسة ومن ثم انتخابه بعد إخفاق المجلس في هذه المهمة خلال 12 جلسة برلمانية عُقدت لهذا الغرض. وإذ يصل لبنان اليوم لحالة من الأزمة المركبة بموقع رئاسي شاغر، وحكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات وحاكم مصرف مركزي منتهية ولايته يحل محله حاكم بالإنابة، يبدو أن الحوار لانتخاب الرئيس هو الحل الوحيد المتبقي لإنجاز هذه المهمة الصعبة.
سبق أن رفض عدد من الأحزاب اللبنانية المعارضة دعوات بري للحوار لاعتبارها محاولة للمراوغة وتضييع الوقت والقفز على الدستور الذي يُشدد على انتخاب الرئيس ضمن المهل الدستورية ولو من خلال جولة ثانية وبنصاب يُعادل النصف زائد واحد بدلاً من نصاب الثلثين الذي يُشترط للانتخاب في أول جولة فقط. إذ عادةً ما كان الفريق المقرب من حزب الله ونبيه بري رئيس البرلمان ينسحبون بعد أول جولة من كل جلسة انتخابية لتجنب الانتخاب بنصاب النصف زائد واحد والذي قد تمتلكه المعارضة ولا يمتلكه فريقهم الحاكم. فيما كانت ترى المعارضة ومعها كتلة من النواب المستقلين وتيار التغيير ضرورة انعقاد جلسات مفتوحة بجولات متتالية لحين الوصول إلى انتخاب الرئيس والتوقف عن تأجيل الانتخاب لجلسات أخرى.
وجّه نبيه بري دعوته هذه المرة لعقد حوار وطني يضم جميع الفرقاء اللبنانيين وجعلها محددة بشرطين أساسيين: الأول، أن تضم جميع الكتل البرلمانية. والثاني، أن تجري في غضون سبعة أيام متتالية على أن يعقبها جلسة برلمانية مفتوحة لانتخاب رئيس في جولات متتالية. بدت هذه الدعوة الجديدة معدلة قليلاً لكي تجذب قوى المعارضة التي سبق ورفضت الحوار وطالبت بجلسات مفتوحة لانتخاب الرئيس بدلاً من ذلك. إذ تبدو هذه الدعوة وكأنها حل وسط بين من يشترط الحوار قبل انتخاب الرئيس وبين من يطالب بانتخاب الرئيس أولاً ثم الدخول في حوار لمعالجة الملفات الأخرى العالقة ثانياً.
ورغم ذلك، يشكك البعض في مصداقية بري كراعٍ للحوار من موقع المحايد لأنه ركن أساسي في معسكر حزب الله ولأنه ضالع بشكل واضح في تعطيل انتخاب الرئيس طوال الجلسات الإثنى عشر الماضية لامتناعه عن عقد جلسات مفتوحة حتى إتمام الانتخاب. ولا يخفى أن بري نفسه يؤيد المرشح الذي يطرحه حزب الله للرئاسة وهو سليمان فرنجية، وبالتالي فدعوته للحوار بدون فرض مرشح معين أو وضع فيتو على مرشح معين تبدو غير ذات مصداقية.
ولا تزال ردود الفعل بشأن مبادرة الحوار التي أطلقها بري غير نهائية، إذ تحمس عدد من نواب التغيير لعقد جلسات مفتوحة لانتخاب الرئيس ولكنهم يطالبون بمزيد من التفاصيل حول آلية وأجندة الحوار كي يحددوا موقفهم منه رفضاً أو قبولاً، حيث اعتبروا أنهم أول من طالب بجلسات مفتوحة كي لا يصل لبنان لمأزق تعطيل الانتخاب طوال هذه الفترة.
بينما رحب زعيم التيار الوطني الحر جبران باسيل بالحوار هذه المرة بعد أن كان قد رفضه فيما سبق، معتبراً أن الذهاب لجلسات مفتوحة أمر جيد سواء وصل المتحاورون إلى اتفاق حول مرشح أو لم يصلوا، وهو ما قد يكون مؤشراً على تغيير بعض من مواقفه وهو الذي كان قد التحق بالقوى المسيحية الأخرى كالقوات والكتائب اللبنانية في ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور مقابل سليمان فرنجية مرشح حزب الله. إذ يُجري باسيل حالياً مفاوضات مع حزب الله لإعادة ترميم التحالف بينهما بعد أن كان الخلاف حول المرشح الرئاسي سبباً في اتخاذ باسيل مواقف حدّية من حليفه حزب الله خلال الأسابيع الماضية.
في المقابل، اعتبر سامي الجمّيل زعيم حزب الكتائب أن الدعوة للحوار مقابل عقد جلسات مفتوحة بجولات متتالية تعد إقراراً من بري بأنه كان يُعطِّل تنفيذ الدستور طوال الأشهر الماضية. فيما شن سمير جعجع زعيم القوات اللبنانية هجوماً على فريق حزب الله وحلفائه منتقداً هيمنته على المشهد اللبناني تارة بمحاولة فرض مرشحه وتارة أخرى بإطالة أمد الفراغ الرئاسي. بينما رحب البطريرك الماروني بدعوة الحوار معتبراً أنها الطريق الوحيد لإتمام الانتخابات الرئاسية بعد فشل المسارات الأخرى.
لاتزال المواقف النهائية لمختلف الكتل النيابية من حضور حوار بري ضبابية بانتظار الإعلان عن مزيد من تفاصيل هذا الحوار المرتقب، ولكن المؤكد أن الدعوة للحوار بهذا الشكل تعد محاولة جادة لكسر الاستقطاب السياسي اللبناني بآليات محلية، بعد تعثر المحاولات الدولية في هذا الصدد. فالمبعوث الفرنسي جان ايف لوديان القادم لبيروت الأسبوع المقبل سيقود محاولة جديدة لرسم ملامح المرشح الذي قد تتوافق عليه الكتل المختلفة بعد حصوله على إجابات من النواب حول تصوراتهم عن خصائص ومهام المرشح الذي يرتضونه. ولكن المبادرات الفرنسية المتتالية تفشل مرة بعد أخرى أمام تعنت الفرقاء اللبنانيين ورفضهم للتقارب في ظل غياب أدوات فرنسية حقيقية للضغط والاستمالة. ففرنسا تنتهج طريق الحوار المستمر مع إيران وحلفائها في لبنان ولا تحبذ التلويح بأية عقوبات أو تبعات لرفض التعاون.
في حين أن الوسيط الأمريكي في الملف اللبناني آموس هوكشتاين قد حقق نجاحاً استثنائياً العام الماضي في ملف شائك للغاية وهو ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، تحت وطأة التلويح بفرض عقوبات أو تمديد عقوبات كانت صادرة بالفعل بحق بعض من السياسيين اللبنانيين. وإذ تترافق زيارة هوكشتاين لبيروت من أجل بحث ملف الحدود البرية مع اسرائيل مع مبادرة الفرنسيين للحل السياسي في لبنان، يتضح فارق التأثير بين النفوذين الفرنسي والأمريكي في تحريك المياة اللبنانية الراكدة.
أما إيران التي تطمح في تقارب مثمر مع السعودية في عدة ملفات إقليمية ومن ضمنها لبنان، فقد شدد وزير خارجيتها حسين أمير عبداللهيان على عدم تدخل بلاده في الشأن اللبناني ولكنه طالب حلفائها في بيروت بتخفيف حدة التصعيد الإعلامي ضد السعودية أملاً في التمهيد لانفراجة إقليمية قريبة. فخطوات التقارب السعودي-الإيراني التي تسارعت منذ مارس الماضي، ما لبثت أن فترت وتباطأت مما انعكس بالمزيد من الجمود في المشهد اللبناني. وإذ لا تزال ملامح الصفقة السعودية-الإيرانية غير واضحة، فإن الأمر قد ينطوي على مقايضة بين الملفين اللبناني واليمني، فبعض المكاسب هنا قد تقابلها بعض التنازلات هناك، أو ربما العكس.
ولذا، قد تأتي دعوة بري للحوار كمحاولة لامتلاك زمام المبادرة اللبنانية بأدوات محلية، قبل أن تنطوي المقايضات الإقليمية في صفقة التقارب السعودي-الإيراني على تنازلات إجبارية لحلفاء إيران في لبنان. ويظل نجاح هذه المبادرة رهيناً بقبولها من أكبر عدد ممكن من الكتل البرلمانية ثم التنفيذ الجاد لشقيّها، الأول المتمثل بعقد الحوار لسبعة أيام والثاني المتمثل بالذهاب إلى جلسات مفتوحة لانتخاب الرئيس، سواء أثمر الحوار عن مرشح توافقي واحد أو مرشحيّن متنافسين أو أكثر. وهنا تصبح الآلية الديمقراطية للجولات المتتالية في جلسات مفتوحة هي الفيصل في اختيار الرئيس الجديد.