منذ وقوع الانقلاب العسكرى فى النيجر يوم 26 يوليو 2023، اتخذت الجزائر موقفاً متوازناً من الأزمة تمثل فى دعمها للشرعية التى يمثلها الرئيس محمد بازوم، وفى الوقت نفسه رفض أى تدخل عسكرى فى النيجر التى ترتبط معها بحدود جنوبية طويلة تقدر مسافتها بحوالى 951 كيلومتر.
ومع انتهاء المهل الزمنية التى منحتها دول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا "إيكواس"، لقادة الانقلاب لتصحيح الأوضاع وإعادة الرئيس محمد بازوم لمنصبه، وجدت الجزائر نفسها أمام "مسئولية إقليمية" – إن جاز التعبير – تدفعها إلى محاولة وقف التدخل العسكرى فى النيجر لما يحمله من تداعيات سياسية وأمنية جمة فى واحدة من أهم الدول المجاورة لها، على اعتبار أن مزيداً من الحرب والفوضى الأمنية فى النيجر يجعل الجزائر محاطة حدودياً بعدة دول تعصف بها العديد من الأزمات السياسية والأمنية، التى أدت إلى حالة من عدم الاستقرار فى جوارها الأفريقى كحالتى ليبيا ومالى على سبيل المثال. هذا بخلاف ما تعانيه تونس من عدم استقرار سياسى وتردٍ اقتصادى حاد، الأمر الذى فرض على الجزائر، وبحكم ما تتمتع به من ثقل إقليمى فى منطقة الساحل، الدخول وبقوة على مسار الأزمة من باب "الوساطة الدبلوماسية" بهدف منع شبح الحرب التى خيمت على مسار الأزمة مؤخراً؛ حيث أوفدت دبلوماسييها لعدد من دول "إيكواس" لمناقشة سبل معالجة الأزمة بالطرق السلمية.
وفى وقت لاحق، طوّرت الجزائر من دورها لينتقل إلى مرحلة طرح المبادرات السلمية؛ بهدف الخروج من الأزمة وتجنيب حدودها الجنوبية من حرب قاسية ستكون لها تداعياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية والإنسانية الضاغطة على مؤسسات الدولة بها.
مخاوف أمنية وتداعيات اقتصادية
تتحسب الجزائر لكثير من التداعيات التى يفرضها الوضع المتأزم فى النيجر المجاورة لحدودها الجنوبية؛ نتيجة للانقلاب العسكرى على الرئيس محمد بازوم، وما أحدثه من تطورات سريعة ومتلاحقة على مستوى التفاعل الغربى – الأوروبى والأمريكى - مع الأزمة من ناحية، وعلى مستوى التفاعل بين الدول الأفريقية نفسها وحالة الأمن الإقليمى لأفريقيا فى منطقة الساحل من ناحية ثانية.
وتبدو مساوئ وتداعيات خبرة التعامل الغربى مع الأزمة الليبية منذ عام 2012، حاضرة وبقوة على قائمة الخسائر الأمنية التى تتخوف الجزائر من تكرارها حال الاتجاه إلى الأخذ بخيار التدخل العسكرى فى النيجر، حتى وإن كان التدخل عبر آلية أفريقية، وهى آلية يبدو من سيناريوهات تفاعلها مع الأزمة أنها قد تتبنى مساراً يكاد يتفق ومصالح القوى الغربية - وفى مقدمتها فرنسا التى تقدم دعماً لوجستياً وفنياً للعملية العسكرية المحتملة– سواء فى النيجر أو فى منطقة الساحل الأفريقى ككل. ومن ثم فإن الجزائر ستعانى مستقبلاً من تداعيات حادة فى الحالتين؛ سواء استمر الانقلاب ضد الرئيس بازوم، أو تم الأخذ بخيار التدخل العسكرى من جانب "إيكواس". وقد انعكس ذلك بقوة فى تصريحات الرئيس الجزائرى عبد المجيد تبون؛ حيث شدد على أن أزمة النيجر تمثل "تهديداً مباشراً للجزائر"، وأن أى تدخل عسكرى سيشعل منطقة الساحل.
موقف الجزائر من أزمة النيجر الذى يبدو متوازناً فى ظاهره بين الدعوة إلى ضرورة العودة للعمل بالنظام الدستورى، وبين رفض التدخل العسكرى، هدفه الحفاظ على مسافة واحدة فى إدارة الجزائر لعلاقاتها بكل من أوروبا والولايات المتحدة وروسيا؛ فأوروبا ترفض الانقلاب وتلوح بالتدخل العسكرى، والولايات المتحدة تتبنى موقفاً غامضاً من أحداث النيجر، أما روسيا المنشغلة بحربها فى أوكرانيا فتبدو منحازة للانقلاب العسكرى بقوة، وهنا تبدو معضلة الجزائر التى ترتبط بموسكو بمجموعة من الاتفاقات العسكرية والتسليح والتدريب وغيرها من الارتباطات العسكرية الضخمة.
فى الوقت نفسه تؤسس الجزائر علاقات اقتصادية مع كل من الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة وهى علاقات يتمثل مركز ثقلها فى إمدادات الطاقة؛ حيث تعد الجزائر من الدول المهمة التى توفر لأوروبا والولايات المتحدة مصدراً أساسياً للطاقة، لاسيما فى ظل الحرب المستعرة فى أوكرانيا.
المعطيات السابقة حول موقف الجزائر من أزمة النيجر تدفع إلى التساؤل بشأن طبيعة المخاوف التى تواجه الجزائر حال تفضيل خيار التدخل العسكرى فيها، ومنها:
1- وجود تداعيات أمنية حادة حال التدخل العسكرى فى النيجر ستكون ضاغطة على الحدود الجنوبية للجزائر والمتاخمة للنيجر يتمثل أبرزها فى ازدهار نشاطات غير شرعية عبر الحدود كتجارة وتهريب البشر، وتجارة المخدرات، فضلاً عن حالة اللجوء الإنسانى عبر الحدود وما تحمله من ضغوط اقتصادية على موارد الدولة وضغوط أمنية ستؤثر على نمط تفاعل المؤسسة العسكرية مع مناطق الحدود المشتركة. هذا إلى جانب النشاط المحتمل للجماعات الإرهابية فى المنطقة نفسها.
2- اتخاذ الجزائر كمنصة عبور للهجرة غير الشرعية من قبل العديد من المتضررين من الحرب المزمعة، فوفقاً لمتخصصين فإن الجزائر تعانى فعلياً من هجرة غير شرعية عبر حدودها، وأنها قد أعادت بمقتضى اتفاقيات أمنية الآلاف من المهاجرين إلى النيجر خلال عام 2022. ويلاحظ كذلك أن الفوضى الناتجة عن الحرب لن يقتصر تأثيرها على النيجر فقط، ولكن ستطال تلك التأثيرات العديد من دول الساحل؛ بما يعنى أن أوروبا، التى تستعد لخوض حرب عبر وكلاء فى النيجر، هى نفسها أول المتأثرين بشظايا تلك الحرب من خلال "تدفقات" متوقعة للهجرات الجماعية من دول الساحل نحو الشمال عبر الجزائر كما هى عبر تونس حالياً. هذا بخلاف أن الهجرة والنزوح الأفريقى من جنوب الصحراء إلى شمالها لم يتوقف نتيجة للتغيرات المناخية وتراجع معدلات التنمية فى العديد من دول الجنوب، بما يعنى أن الحرب، كعامل إضافى إلى جانب التغير المناخى وتراجع معدلات التنمية فى العديد من البلدان الأفريقية جنوب الصحراء، من شأنها أن تحول منطقة الساحل ككل إلى قنبلة موقوتة نتيجة الازدياد المتوقع حدوثه فى معدلات الهجرة والنزوح بها.
3- تعرض عملية إنشاء خط الغاز الإقليمى (خط غاز لاجوس) فى منطقة الساحل عبر الصحراء لكثير من التداعيات الأمنية حال التدخل العسكرى فى النيجر؛ وجدير بالذكر أن هذا الخط يمر عبر نيجيريا والنيجر والجزائر (طاقة إنتاج تقدر بحوالى 30 مليار متر مكعب سنوياً) ويعمل على تعزيز صادرات الغاز إلى الدول الأوروبية عبر منطقة الساحل، بعائد مادى متوقع قدره 13 مليار دولار، وبالتالى فإن تدهور الأوضاع الأمنية جراء الانقلاب، أو جراء التدخل العسكرى فى النيجر من شأنه أن يؤدى إلى تباطؤ مراحل إنشاء الخط أو توقفه كلية، بما يؤدى إلى تأثير حاد على الوضع الاقتصادى فى الجزائر خلال الفترة المقبلة. هذا إلى جانب الخسائر المتوقعة حال اندلاع الحرب فى النيجر على مجمل مشروعات التعاون الثنائية بين الجانبين؛ وتأتى فى مقدمتها مشروعات التنقيب والإنتاج فى مناطق شمال النيجر والموقعة بين الدولتين منذ عام 2015، فضلاً عن اتفاقات تقاسم الإنتاج فى بعض المواقع الحدودية.
4- تتخوف الجزائر أيضاً، حال وقوع التدخل العسكرى فى النيجر، من أن تضطر إلى "التورط الإقليمى" فى حالة حرب فى منطقة الساحل، بما يخالف قناعاتها السياسية فى التعامل مع جيرانها فى المنطقة. ومبعث هذا التخوف هو احتمالية خروج الأمور عن زمامها، وحدوث الفوضى الإقليمية فى منطقة تعانى من تهديدات أمنية هجينة (إرهاب، وتجارة مخدرات، وهجرة غير شرعية، إتجار بالبشر...الخ) بما يضطرها إلى أحد أمرين: إما مزيد من التعزيزات العسكرية على حدودها مع جيرانها حيث تحاط بثلاثة من دول الأزمات هى ليبيا ومالى وحالياً النيجر، وهو ما يشكل ضغوطاً كبيرة على المؤسسة العسكرية الجزائرية. وإما تفعيل الآليات البديلة إقليمياً؛ حيث اعتادت الجزائر إدارة الأزمات الأفريقية – من منظورها الخاص – ولكن عبر أدوات أفريقية أيضاً؛ وهنا تحديداً يشير بعض المتخصصين فى الشأن الأفريقى إلى أن الجزائر بإمكانها التدخل الضمنى عبر "الدبلوماسية العسكرية " والتى تتضمن استراتيجيات دعم السلم والاستقرار فى منطقة الساحل.
مبادرة للحل السياسى
بمرور المهل الزمنية التى منحتها مجموعة دول "إيكواس" لقادة الانقلاب فى الجزائر وتراجع التهديدات بالتدخل العسكرى، وقيام وزير الخارجية الجزائرى أحمد عطاف بعدة زيارات بدأت بالولايات المتحدة مروراً بعدد من دول "إيكواس"، بدا أن ثمة اتجاهاً لمنح الجهود الدبلوماسية التى تقوم بها الجزائر فرصة للوساطة لدى قادة الانقلاب فى النيجر، وذلك على أمل تجاوز الخيار العسكرى.
والجدير بالذكر أن دور الوساطة الجزائرية فى أزمة النيجر كان مدعوماً من قبل الولايات المتحدة خلال لقاء وزير الخارجية الجزائرى بنظيره الأمريكى أنتونى بلينكن فى واشنطن يوم 8 أغسطس 2023، ويلاحظ هنا أيضاً أن واشنطن تستهدف الحفاظ على مصالحها فى منطقة الساحل بعيداً عن روسيا وفرنسا، لذا وجدت فى تحركات الدبلوماسية الجزائرية فرصة مهمة ومواتية للوساطة فى الأزمة.
فى هذا السياق، تبلورت الوساطة الجزائرية فى "مبادرة" تتضمن حلولاً سلمية للأزمة طُرحت إعلامياً فى 29 أغسطس 2023؛ وتتضمن عدة نقاط أبرزها: التأكيد على تعزيز مبدأ عدم شرعية التغييرات غير الدستورية، وتحديد فترة زمنية مدتها ستة أشهر لبلورة وتحقيق حل سياسى يضمن العودة إلى المسار الديمقراطى، وصياغة ترتيبات سياسية بمشاركة وموافقة جميع الأطراف فى النيجر من دون إقصاء، على ألا تتجاوز ستة أشهر تحت إشراف سلطة مدنية تتولاها شخصية "مدنية توافقية" بما يؤدى إلى استعادة النظام الدستورى، وتقديم الضمانات الكافية لكل الأطراف لاستمرار الخيار السياسى، وتتولى الجزائر إجراء اتصالات ومشاورات مع الأطراف المعنية بالأزمة لدعم المساعى السياسية فى ثلاثة اتجاهات، على مستوى الداخل فى النيجر، وعلى مستوى دول الجوار ومجموعة دول "إيكواس" وخاصة نيجيريا، وعلى المستوى الدولى مع الدول الراغبة فى دعم المسار السلمى، وتنتهى بنود المبادرة المعلنة بالعمل على تنظيم مؤتمر دولى حول التنمية فى الساحل لتشجيع المقاربة التنموية، وحشد التمويلات اللازمة لضمان الاستقرار والأمن المستدام.
المبادرة الجزائرية تقوم على تفعيل الحل السياسى التفاوضى للأزمة فى النيجر مستندة على خبراتها السابقة فى معالجة أزمات مماثلة؛ بعضها فى النيجر نفسها – تعرضت لخمسة انقلابات لعبت الجزائر فيها دوراً تفاوضياً بين أطراف الأزمة – والبعض الآخر فى دول مركزية فى منطقة الساحل أيضاً أبرزها مالى. لكن السؤال هنا: هل تنجح فعلياً المبادرة الجزائرية فى وقف الخيار العسكرى فى النيجر؟. تفترض الإجابة هنا الوقوف على مدى فعالية الدور الجزائرى فى التوفيق بين الأضداد لاسيما على المستوى الدولى (أوروبا والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا)، وتفترض كذلك استحضار المصالح العليا للجزائر فى منطقة الساحل الأمنية والاقتصادية على حد سواء، لاسيما بعد رفض الجزائر طلباً فرنسياً بعبور طائرات مقاتلة لأجوائها خلال الحرب المحتملة باتجاه النيجر.
وتبدو فرص نجاح المبادرة مرتبطة بما ستتوصل إليه الدبلوماسية الجزائرية خلال التفاوض مع مجموعة "إيكواس" أولاً، لاسيما مع نيجيريا وبنين وغانا وهى الدول الأكثر تأييداً للتدخل العسكرى، والجدير بالذكر أن تدخل الجزائر على خط الأزمة عبر الوساطة التفاوضية خلق نوعاً من التذبذب فى موقف "إيكواس" تُرجم فى تأخير العمل العسكرى عدة مرات. فضلاً عن أن المبادرة تكاد تكون أقرب إلى خارط طريق منها إلى مبادرة للحل؛ لأنها لا تكتفى بوضع حلول تصورية، لكنها تتجاوز ذلك إلى الحديث مباشرة عن "فترة انتقالية" محدد وقصيرة المدة، كما تحدثت عن مستقبل الرئيس المعزول، وتناولت سبل وآليات دعم الجزائر للفترة الانتقالية التى حددتها بستة أشهر.
المباردة بهذا الشكل لا تعبر عن لعب الجزائر لدور الوسيط فقط، بل تبدو أنها تعبر عن رؤية "الفاعل الإقليمى" الوازن الذى يخشى على مصالحه الأمنية فى منطقة الساحل مما يتهددها سواء إذا استمر الانقلاب، أو وقع التدخل العسكرى؛ لأن فى كلتا الحالتين ثمة تهديداً مباشراً لمعادلة الأمن والاستقرار الإقليمى فى المنطقة.
أيضاً، يتوقف نجاح المبادرة على المدى الذى ستصل إليه الدبلوماسية الجزائرية فى التعامل مع قادة الانقلاب فى النيجر؛ بمعنى مدى قدرتها على استعمال أدوات الإقناع بأن الاتجاه إلى مزيد من التصعيد وعدم قبول المبادرة، أو بعض نصوصها من شأنه فتح الباب أمام نزاع إقليمى مسلح مستقبلاً، لاسيما بعد ما أفرزته الأزمة من اصطفافات من جانب الدول بين دول مؤيدة للانقلاب، وأخرى رافضة له ومؤيدة للتدخل العسكرى؛ بمعنى أن "التباين الإقليمى" فى وجهات النظر بشأن الأسلوب الأفضل للتعامل مع الأزمة فى النيجر، يتيح فرصاً مواتية وهامشاً كبيراً من الحركة أمام الدبلوماسية الجزائرية لتفعيل دورها فى الأزمة.
مما سبق يمكن القول إن حسابات الجزائر فى أزمة النيجر الأخيرة تفرض عليها مجابهة الهواجس الأمنية والتداعيات الاقتصادية التى ستنتج عن توسيع نطاق الأزمة، حال لجوء "إيكواس" إلى التدخل العسكرى، وهو تدخل تقف ورائه مصالح خارجية محضة لقوى أوروبية محددة ومعروفة، ومن ثم فإن هذا التدخل المحتمل سيحول منطقة الساحل الأفريقى إلى منطقة نزاع إقليمى مسلح شامل، الأمر الذى يعكس مدى أهمية دور الوساطة الدبلوماسية الجزائرية فى الأزمة، لاسيما بعد نجاحها فى معالجة أزمات مماثلة فى أفريقيا كما سبق القول. لكن فى الوقت نفسه، تجدر الإشارة إلى أن مسار الانقلابات العسكرية على الشرعية المنتخبة فى العديد من الدول لم يعد يعبر عن حلول "وطنية" لمعالجة أزمات الوطن أو "حمايته" من التهديدات الخارجية بقدر كونه مُحفِّزاً فعلياً لفتح الباب على مصراعيه للتدخلات العسكرية الخارجية، والتى لم تخلق يوماً دولاً ديمقراطية، ولا مزدهرة اقتصادياً. وبالتالى يبقى خيار منع التدخل الخارجى هو الخيار الأكثر أمناً، والأكثر حفاظاً على الاستقرار والأمن الإقليمى فى أفريقيا من ناحية، والأقل كلفة على المستوى الإنسانى من ناحية ثانية.