د. محمد فايز فرحات

مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

شهد العالم منذ بداية عقد الستينيات عددا كبيرا من التجارب التنموية، تباينت فى سماتها، وديناميات عملها الداخلية، وطبيعة القطاعات التى بدأت بها خلال المراحل الأولي، والتى جرت لاحقا باقى القطاعات. لكن السمة الرئيسة الأولى التى يمكن استنتاجها من قراءة هذه التجارب، أن هناك مؤسسا لعب الدور الأبرز فى تدشين كل تجربة من هذه التجارب التنموية. تجربة كوريا الجنوبية أسس لها الجنرال «بارك تشونج هي» فى منتصف ستينيات القرن الماضي. تجربة سنغافورة أسس لها «لى كوان يو» عقب الاستقلال عن اتحاد ماليزيا فى عام 1965. تجربة الصين أسس لها «دينج شياو بينج» فى نهاية السبعينيات. تجربة ماليزيا أسس لها محاضير محمد فى بداية الثمانينيات.

السمة الثانية، التى تجمع بين هذه التجارب أن كلا منها استغرق فترة زمنية كافية حتى تؤتى التجربة ثمارها، وتتحول إلى تجربة تنموية واضحة الملامح، قابلة للتأصيل والمحاكاة. امتد التأسيس لهذه التجارب عدة عقود. ويرجع ذلك إلى عوامل عدة، أهمها أن كل تجربة تنموية تقوم على فلسفة محددة. بعض هذه التجارب، على سبيل المثال، قام على فكرة التنمية غير المتوازنة، بمعنى التركيز فى المراحل الأولى على أقاليم جغرافية بعينها، على أن تقوم التنمية فى هذه الأقاليم بجر عملية التنمية فى باقى أقاليم الدولة، وهو ما حدث فى الصين، حيث بدأت عملية التنمية فى الأقاليم الساحلية الشرقية، تبعها انتقال عملية التنمية فى مرحلة تالية إلى الوسط والغرب. بعض التجارب الأخرى بدأت بالتركيز على قطاعات اقتصادية بعينها، قامت لاحقا بجر ونشر عملية التنمية إلى باقى القطاعات. وهكذا، فإن أى تجربة تنموية فى العالم تتسم غالبا بتعدد المراحل، وتباين تأثيراتها على الشرائح الاجتماعية، وتتباين خلالها الأوزان النسبية للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية، ومواقع الأقاليم الجغرافية للدولة على أجندة عملية التنمية، لكن تحكمها فى النهاية فلسفة واحدة.

هذه الفلسفة ترتبط برؤية القيادة السياسية التى تقف وراء هذه التجربة، الأمر الذى يفسر ضرورة استمرار هذه القيادات لحين استقرار التجربة التنموية، وبدء تفاعل دينامياتها الداخلية بكفاءة، قبل أن تؤتى ثمارها.

ما تقوله الخبرات التنموية الرائدة فى العالم، خاصة الخبرات الآسيوية، ينطبق أيضا على الخبرات الناشئة، وفى مقدمتها التجربة المصرية. مصر بدأت تجربتها التنموية الحديثة مع وصول الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى السلطة فى عام 2014. النموذج التنموى المصرى يستند هو الآخر إلى فلسفة محددة. بدأت هذه التجربة بتهيئة البيئة الداخلية للتنمية من خلال تفكيك البنية التنظيمية والاقتصادية والفكرية للإرهاب، وبالتوازى مع ذلك جرى ــ ومازال ــ تنمية البنية التحتية باعتبارها شرطا رئيسا للتنمية، ثم الانتقال سريعا إلى تنمية القطاعات الاجتماعية، بجانب مراجعة الأبنية السياسية عبر الحوار الوطنى الجاري، وما سبقه من إجراءات مهمة فى هذا الاتجاه. الملاحظة المهمة هنا أن التجربة المصرية لم تقم باستنساخ أى من التجارب الآسيوية السابقة، فبينما قامت معظم هذه التجارب بالتركيز على قضية التنمية الاقتصادية أولا، وتأجيل الإصلاح السياسى إلى مرحلة تالية وصلت لعدة عقود، نجد أن التجربة المصرية تسير على المسارين بالتوازى تقريبا، إذ لم تتأخر عملية الإصلاح السياسى كثيرا عن بدء عملية التنمية الاقتصادية. وبينما قامت بعض التجارب على التنمية غير المتوازنة، فإن التجربة المصرية حرصت على فكرة التوازن، الجغرافى والقطاعي، لأسباب عديدة.

هكذا، فإن أى تجربة تنموية لها خصوصيتها، ولها فلسفتها المحددة. البيئة التى تعمل فيها التجربة المصرية تتسم بدرجة كبيرة من التعقيد على المستويين الإقليمى والدولي، وهو تعقيد يفوق أى تعقيد واجهته أى تجربة تنموية سابقة، هذا بجانب ندرة الموارد المالية المتاحة. لكن ما يميز هذه التجربة هو وجود قيادة سياسية تقف وراءها، بإرادة قوية.

استمرار القيادة السياسية يصبح فى هذه الحالة أمرا ضروريا، ليس فقط لاستمرار عملية التنمية، لكن للحفاظ على وحدة الفلسفة التى تقوم عليها تجربة التنمية الجارية فى مصر.

وهذا ما تقوله أيضا الخبرات التاريخية، فقد استمر «دينج شياو بينج»، مهندس تجربة الإصلاح الصيني، فى السلطة نحو خمسة عشر عاما (1978ــ 1992)، واستمر «لى كوان يو»، مؤسس سنغافورة الحديثة، لمدة خمسة وعشرين عاما بعد استقلال سنغافورة (1965-1990)، واستمر محاضير محمد فى ماليزيا لمدة اثنين وعشرين عاما (1981-2003).

بعيدا عن خصوصية كل تجربة من هذه التجارب التنموية المهمة، لكن الثابت أن استمرار هذه القيادات فى السلطة لفترة زمنية كافية كان واحدا من الأسباب الرئيسية وراء نجاح هذه التجارب.

وقد واجهت جميع هذه القيادات العديد من المشكلات الداخلية أثناء تنفيذ مشروعها التنموي، لكن فى النهاية لا يمكن التأصيل لأى من هذه التجارب التنموية دون دراسة هذه القيادات التاريخية المهمة. ويكفى أن نعود إلى الكتابات الأكاديمية التى تناولت هذه التجارب التنموية الرائدة، وإلى المجتمعات فى كوريا الجنوبية وسنغافورة والصين، لنرى كيف ينظرون الآن إلى هذه القيادات باعتبارهم الآباء المؤسسين لما يشهدونه الآن من نقلات ضخمة. هذه هى الخبرات الدولية التى يجب أن نعود إليها عندما نتعامل مع تجربتنا فى سياق تاريخي، والتى تقول إن استمرار القيادات التنموية أمر ضروري، فمثل هذه القيادات لا تتكرر كثيرا فى تاريخ الأوطان.

بهذا المعني، يمكن النظر إلى الفترة (2014-2030) فى مصر باعتبارها مرحلة واحدة فى إطار عملية التأسيس للتجربة التنموية المصرية. بل يمكن القول إن ما تم إنجازه خلال السنوات التسع الماضية لا يعدو كونه تمهيدا ضروريا لانطلاقة كبري لعملية التنمية خلال المرحلة المقبلة.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 30 أغسطس 2023.