صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

أدت الأزمات الكبرى التى يمر بها العالم على مدار الأعوام الثلاثة الماضية؛ كجائحة فيروس كوفيد - 19، والحرب الروسية - الأوكرانية ومشكلات سلاسل الإمداد، إلى أزمات اقتصادية طاحنة تعرضت لها العديد من الدول نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية. وبالرغم من تفاوت درجة تأثير هذه الأزمات فى اقتصادات الدول، سواء كانت كبرى أو ناشئة، إلا أنها جميعا باتت تواجه تداعيات جمة أدت إلى ارتفاع كبير فى معدلات التضخم بصورة عجزت معها السياسات التقليدية التى تنتهجها البنوك المركزية فى مواجهة التضخم (السياسات النقدية كرفع أسعار الفائدة)، حيث الارتفاع الكبير فى الأسعار، وفى قيمة الأصول. الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تعرَّض اقتصادها -الذى يعد من أقوى الاقتصادات العالمية- لارتفاع حاد فى معدلات التضخم منذ ظهور الجائحة فى عام 2020، التى نتج عنها ضغوط تضخمية على الاقتصاد ارتبطت بتحديات فى جانبى العرض والطلب.

على المستوى الإقليمى، أيضًا عانت الكثير من الدول العربية من التأثيرات والتداعيات السلبية للأزمات العالمية على اقتصاداتها، لاسيما الدول العربية غير النفطية؛ حيث فقدت العملات اللبنانية والمصرية والتونسية نسبة مهمة من قيمتها تجاه الدولار الأمريكى. واستنادا إلى التقارير الدولية الصادرة عن صندوق النقد الدولى لعام 2022، فإن ثمة ارتفاعًا فى نسب التضخم فى المنطقة العربية خلال عام 2022. وحذر الصندوق من ازدياد المخاطر الاقتصادية لبعض دول المنطقة، لا سيما غير النفطية منها، التى تتمثل فى ارتفاع أسعار السلع الأولية، ونقص الغذاء وارتفاع أسعاره، وارتفاع مستوى المديونية، كما يتوقع الصندوق باستمرار نسب التضخم عند مستويات مرتفعة خلال الفترة المقبلة.

فى هذا الصدد، يرى «توبياس أدريان»، المستشار المالى ومدير إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية فى صندوق النقد الدولى، فى مقال له بعنوان «كيف يمكن للانضباط المالى أن يساعد على مكافحة التضخم»، نُشر على موقع مدونة الصندوق (IMF Blog)*، وهى مدونة لنشر آراء الخبراء والمسئولين فى صندوق النقد الدولى حول القضايا المتعلقة بالاقتصاد والسياسات، بتاريخ 21 نوفمبر 2022، أن قدرًا من الانضباط المالى والحد من الديون من شأنه أن يسهم فى استهداف التضخم والحد من تأثيراته؛ فإذا كانت البنوك المركزية تستخدم السياسات النقدية كأداة رئيسية لخفض التضخم، فإن السياسة المالية العامة من شأنها أن تمكن اقتصاد الدول على المدى الطويل، من معالجة أزماته الاقتصادية من خلال الاستثمار فى البنية التحتية، وفى الخدمات العامة، ووضع أنظمة للتوزيع العادل للفرص والدخول، والرعاية الطبية والتعليم على أساس أن خطط المالية العامة من شأنها أن تؤثر فى الطلب على السلع والخدمات، وتؤدى سياسات تخفيض العجز المالى إلى تراجع الطلب الكلى والتضخم، ومن ثم لا يحتاج البنك المركزى إلى رفع أسعار الفائدة.

وفقًا لأدريان، فإن سياسات التحفيز المالى -مع وجود مستويات مرتفعة من التضخم- تدفع البنوك المركزية غالبا إلى استخدام قاسٍ لأدواتها النقدية لكبح التضخم، ومع ارتفاع معدلات الدين العام والخاص قد يؤدى ذلك إلى زيادة المخاطر على النظام المالى للدول. كما أكد أدريان أن سياسات المالية العامة لتحقيق الانضباط المالى تتوقف على ظروف كل دولة، لا سيما معدلات التضخم، واحتياجات التنمية، ومستوى الدين العام. لكنه -فى الوقت نفسه- أكد أن ارتفاع التضخم فى معظم الدول يدفع بالضرورة إلى تعزيز الاعتبارات الداعية للانضباط المالى، وأهمها المحافظة على مستوى معين من الاستثمار فى رأس المال البشرى والمادى بما يؤدى إلى دعم الحماية الاجتماعية وتعزيز النمو الاقتصادى، مع عدم تسرع البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة والتركيز بدلا من ذلك على اتخاذ سياسات لدعم العملات المحلية.

تشير المعطيات السابقة إلى تأثير حالة الاقتصاد العالمى فى اقتصادات الدول نتيجة تأثرها بتداعيات الأزمات الدولية، لا سيما الحرب الروسية - الأوكرانية، التى أثرت سلبا فى أسعار الطاقة والغذاء. وتزداد وطأة مشكلة التضخم فى مصر نتيجة لتأثيراتها الاجتماعية على الأسر محدودة الدخل، والشرائح الاجتماعية الفقيرة، والأكثر فقرًا، بالإضافة إلى الشرائح الاجتماعية من أبناء الطبقة الوسطى، حيث باتت تلك الفئات تعانى من تراجع القوة الشرائية للعملة المحلية التى أصبحت فى مواجهة شرسة مع أسعار الغذاء المرتفعة، وأسعار الطاقة من غاز وبنزين وسولار. فى هذا الصدد، تحاول الحكومة المصرية اتخاذ إجراءات من شأنها مواجهة التضخم عبر عدة مستويات، منها رفع أسعار الفائدة البنكية، ووضع حزمة إجراءات للحماية الاجتماعية، ووضع سياسات لتشجيع الاستثمار.

فى هذا السياق، تقدم هذه الدراسة التى جاءت تحت عنوان «مشكلة التضخم فى مصر.. سياسات المواجهة الحكومية فى ظل تأثيرات الأزمات العالمية الكبرى» للدكتورة جيهان عبدالسلام - أستاذ الاقتصاد المساعد بكلية الدراسات الأفريقية العليا بجامعة القاهرة، تحليلا لمشكلة التضخم فى مصر منذ عام 1990 وحتى عام 2019 (قبل أزمة جائحة كوفيد-19)، ثم تتناول تأثيرات الجائحة، والحرب الروسية - الأوكرانية، التى بدأت فى 24 فبراير عام 2022، على معدلات التضخم. وتهدف الدراسة من هذا التحليل المقارن بين الفترتين إلى توضيح مدى التطور الزمنى لمعدلات التضخم، وكيف تأثرت تلك المعدلات بالعديد من السياسات الاقتصادية من ناحية، والأزمات العالمية ممثلة فى جائحة كوفيد-19، والحرب الروسية - الأوكرانية من ناحية أخرى.

كما تقوم الدراسة بتحليل الأسباب الاقتصادية الكامنة وراء الارتفاع الحادث فى معدلات التضخم خلال الآونة الأخيرة. وفى محاولة للاستفادة من التجارب والخبرات الدولية؛ لا سيما الاقتصادات الناشئة فى مواجهة التضخم، رصدت الدراسة ثلاث تجارب لاقتصادات ناشئة، هى البرازيل، وتشيلى، وجنوب أفريقيا بهدف الوقوف على خبرات تلك الاقتصادات فى استخدام الأدوات الاقتصادية المعتمدة لمواجهة التضخم؛ وبالتالى مدى إمكانية استفادة مصر من تلك التجارب. وقد توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج المهمة، كما اقترحت عددا من التوصيات والحلول الاقتصادية التى يمكن من خلالها معالجة الدولة لمشكلة التضخم فى جوانبها المختلفة.


* https://www.imf.org/ar/Blogs/Articles/2022/11/21/how-fiscal-restraint-can-help-fight-inflation