أضحت منطقة الساحل مسرحًا حيويًّا تستغله روسيا لتوسيع وتأكيد نفوذها الأفريقي من أجل موازنة النفوذين الغربي والأمريكي اللذين يواجهان تحديات جمة بات يعبر عنها بشكل جلي موجة الانقلابات العسكرية خلال السنوات الأخيرة في بعض دول الساحل وما صاحبها من صعود لنخبة جديدة من العسكريين مُناهِضة للوجود الغربي في دولها لا سيما فرنسا، ويدعمها حراك شعبي رافض بشدة لاستمراره، في مقابل الترحيب بدور روسي بديل للغرب وخاصة في مجال محاربة الإرهاب، والذي برز بشكل واضح في سلسلة التظاهرات الشعبية في معظم دول المنطقة في السنوات الأخيرة.
وقد عبر عن ذلك خطاب إبراهيم تراوري، الرئيس الانتقالي لبوركينا فاسو، أمام قمة روسيا-أفريقيا الثانية التي استضافتها مدينة بطرسبرج الروسية في يوليو 2023، مما قد يعني إجادة موسكو اللعب على المتناقضات الدولية والإقليمية في منطقة الساحل، واستغلالها للفجوة التي تتسع بين الغرب ودول الساحل في تقديم نفسها كحليف بديل للغرب الذي يتراجع نفوذه بشكل واضح مؤخرًا هناك.
تحولات استراتيجية في الساحل
تواجه منطقة الساحل سلسلة ممتدة من الأزمات المتراكمة التي أسهمت في زيادة تعقيد المشهد الإقليمي على مدار أكثر من عشر سنوات، حيث باتت دول الساحل تعاني من هشاشة مستمرة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، مما أدى إلى تكالب المزيد من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة على المنطقة لتحقيق أهدافها ومصالحها الاستراتيجية على حساب الدول الأفريقية. وقد شهدت المنطقة تحولات نوعية خلال السنوات الأخيرة يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:
1- معضلة بناء الدولة الوطنية: تعاني منطقة الساحل من تاريخ طويل من عدم الاستقرار السياسي وهشاشة الحكم في معظم دولها، بالرغم من امتلاكها ثروات وموارد طبيعية هائلة، حيث تراجعت معظم دول الساحل عن أداء وظائفها بما أدى إلى تنامي السخط الشعبي ضد الحكومات القائمة. كما أدى غياب سيطرتها على بعض المناطق إلى ظهور بعض الفواعل من غير الدول مثل الحركات المتمردة والتنظيمات الإرهابية التي باتت تشكل تهديدًا لوحدة وتماسك تلك الدول. ويشكل استمرار المراحل الانتقالية لفترات زمنية طويلة في بعض الدول نتيجة اندلاع الانقلابات العسكرية تقويضًا للديمقراطية وترسيخًا للحكم العسكري، مما قد يهدد استقرار تلك الدول.
2- سلسلة الانقلابات العسكرية: شهدت المنطقة سبعة انقلابات عسكرية -في مالي وبوركينا فاسو (انقلابان) وتشاد وغينيا والنيجر (انقلاب واحد)- فضلًا عن بعض المحاولات الفاشلة خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ومع إخفاق كتلة إيكواس في إنهاء سلسلة الانقلابات، بدا تأثير الدومينو واضحًا في المنطقة بما يهدد استقرارها وأمنها، وهو ما يعززه المشهد الراهن في النيجر عقب الإطاحة بنظام الرئيس السابق محمد بازوم، حيث برر قادة الانقلاب هذه الخطوة أنها نتيجة لفشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وغياب سلطة الدولة في أجزاء من الإقليم، وتحول المنطقة لأرض خصبة للجريمة المنظمة والاتجار بالمخدرات والسلاح إضافة إلى بعض التوترات العرقية.
وقد اقترنت هذه الانقلابات بوجود دعم شعبي واسع نسبيًّا برهن عليه خروج التظاهرات المؤيدة للقادة العسكريين الجدد، فضلًا عن تراجع قيمة الديمقراطية لدى الأفارقة خاصة أنها تفرز حكومات غير خاضعة للمساءلة وقيادات فاسدة، وهو ما أبرزته دراسة أجرتها مؤسسة أفرو باروميتر في وقت سابق أشارت فيها إلى أن أقلية من الأفارقة تعتقد أن الانتخابات يمكن أن تنتج قيادات خاضعة للمساءلة.
3- مركز جديد للإرهاب: تعد منطقة الساحل واحدة من أكثر المناطق الأفريقية -وفي العالم- التي تواجه تحديات أمنية متزايدة ليس فقط بسبب سلسلة الانقلابات وتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية، ولكن أيضًا بسبب عوامل أخرى مثل انتشار الجريمة المنظمة والاتجار بالمخدرات والصراعات العرقية. وعلى الرغم من انتشار البعثات الأممية في بعض دول الساحل، إلا أن المنطقة لا تزال تعاني من انعدام الأمن، في ضوء عجز معظم حكوماتها عن توفير الأمن في مواجهة تصاعد النشاط الإرهابي وتعدد التنظيمات الإرهابية.
وترتبط غالبية العمليات الإرهابية في المنطقة بتنظيم داعش في الصحراء الكبرى، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين. وتعد المناطق الأكثر تضررًا من الإرهاب هي شمال وسط بوركينا فاسو وشمال وسط مالي وغرب النيجر، فما يقرب من ثلثي المناطق في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو قد تعرضت لهجمات إرهابية عنيفة. وقد ازدادت أعداد القتلى المرتبطة بالإرهاب في المنطقة عشرة أضعاف بين عامي 2007 و2022 بحيث تجاوزت 22 ألف شخص، وهي تمثل 35% من إجمالي الضحايا في العالم[1].
ومن المحتمل أن يتوسع الإرهاب في بعض دول الساحل لا سيما خليج غينيا ومحيطه الإقليمي مثل توجو والسنغال وكوت ديفوار وبنين، وذلك في ضوء ما تشهده من ظروف مواتية لتمدد الإرهاب إليها.
4- تنامي موجات التمرد في الأطراف: وهي نتاج طبيعي لمشهد أمني مضطرب في الإقليم خلال السنوات الماضية، ومع تزايد عدد العمليات الإرهابية هناك، أدى إلى توسيع نفوذ الحركات المتمردة والتنظيمات الإرهابية في نطاق جغرافي واسع، مع غياب السلطات الأمنية وضعف القدرة على المواجهة.
ففي مالي، تشير تقارير إلى احتمال إعلان تنظيم داعش عن إمارة جديدة له في منطقة ميناكا شمالي شرقي البلاد عند الحدود مع كل من بوركينا فاسو والنيجر، وهو ما قد يعني توسع نفوذ داعش في دول جوار مالي. بينما دفعت الاضطرابات الأمنية في كل من النيجر ومالي إلى تهديد بعض مجموعات الطوارق بقيادة تمرد جديد ضد حكومتي البلدين، خاصة بعد اتهام السلطات الأمنية والعسكرية هناك بالتورط في مهاجمتها، وهو ما يشكل ضغطًا وعبئًا أمنيًّا على العسكريين الجدد في نيامي وباماكو، ويهدد وحدة البلدين، في ضوء تداعي حالة الاستقرار الأمني هناك.
5- تفاقم الأوضاع الإنسانية: تواجه المنطقة تحديات إنسانية هائلة وغير مسبوقة، وذلك نتيجة ارتفاع معدلات الفقر خاصة أنها تضم من بين دولها الأفقر في العالم. وقد تسببت الصراعات المسلحة إلى جانب تغير المناخ وانعدام الأمن الغذائي وعدم الاستقرار السياسي في جعل أزمة الساحل واحدة من أسرع الأزمات نموًّا على مستوى العالم.
فقد رصدت تقارير أممية في عام 2022 حاجة أكثر من 34.6 مليون شخص من سكان الساحل إلى المساعدة والحماية بزيادة بلغت حوالي 6 ملايين شخص عن عام 2021[2]. إلى جانب ذلك، تأثرت منطقة الساحل بشكل واضح من تداعيات استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، والتي أدت إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي في المنطقة، لا سيما في ضوء تزايد اعتمادية الدول الأفريقية في الحصول على معظم غذائها وخاصة القمح على الغرب.
6- انتقادات واسعة لتكتل إيكواس: إذ يطالها العديد من الاتهامات على المستويين الرسمي والشعبي حول خضوعها للنفوذ الفرنسي والغربي، وأنها تعمل ضد شعوب المنطقة، وذلك في ضوء مواءمتها وتفاهماتها مع باريس تجاه عدد من دول المنطقة التي شهدت انقلابات عسكرية مثل مالي وبوركينا فاسو اللتين شهدتا توقيع عقوبات سياسية واقتصادية على السلطات العسكرية الجديدة في البلدين.
بينما تبدو إيكواس أكثر تشددًا مع النيجر عقب انقلابها الأخير، فهي لا تزال تهدد وتحشد من أجل تنفيذ عملية عسكرية بهدف استعادة النظام الدستوري في البلاد، خاصة بعدما أضحت العقوبات الإقليمية غير رادعة أو كافية لدحر الانقلابات، في ظل توافر دعم من بعض الشركاء الدوليين مثل روسيا بالرغم من معاناتها بسبب حربها في شرق أوروبا. وتنذر الخلافات بين الدول الأعضاء في إيكواس بتداعيات سلبية على وحدة وتماسك التكتل الإقليمي؛ مما يهدد بتفككها في حالة تصعيد المواجهة بين الطرفين.
7- تراجع النفوذ الفرنسي في الساحل: والذي أضحى مهددًا بالزوال في ضوء توتر العلاقات الفرنسية مع النخب العسكرية الجديدة الحاكمة في عدد من دول المنطقة مثل مالي وبوركينا فاسو وغينيا والنيجر إلى جانب أفريقيا الوسطى، وهو ما ترتب عليه انسحاب القوات الفرنسية من مالي في أغسطس 2022 وإعادة نشرها في النيجر والتي باتت أيضًا مهددة بالطرد عقب اندلاع الانقلاب الأخير في يوليو 2023.
ويعكس ذلك تفاقم معضلة النفوذ الفرنسي في الساحل، والذي يهدد مصالحها الحيوية في المنطقة، في مقابل تزاحم دولي وإقليمي نحوها وظهور حلفاء جدد قد باتوا أكثر قربًا للنخب الجديدة في الساحل وبديلًا عن الغرب مثل روسيا، وهو ما ينذر باحتدام التنافس الجيوسياسي الروسي-الغربي/الفرنسي/الأمريكي مستقبلًا هناك، بما يشكل تهديدًا مضاعفًا لأمن واستقرار المنطقة الذي أصبح بطبيعة الحال على المحك.
التمدد الروسي في الساحل
برغم استمرار الصراع المحتدم في أوكرانيا منذ فبراير 2022، لم تتراجع روسيا عن طموحاتها الاستراتيجية في أفريقيا، بل ضاعفت من تركيزها على منطقة الساحل لتكون بوابتها نحو تعزيز نفوذها في العمق الأفريقي، ونقطة ارتكاز لمواجهة النفوذ الغربي في القارة، وتصدير الأزمات لأوروبا وخصومها الاستراتيجيين. وتوظف في سبيل ذلك بعض الأدوات التي بدت ناجحة في تحقيق أهداف موسكو بالقارة مؤخرًا، وعلى رأسها مجموعة فاجنر الأمنية الخاصة التي تنتشر مكاتبها في أكثر من 22 دولة أفريقية، وتتواجد قواتها بشكل فعلي في 10 دول أفريقية مرشحة للزيادة في المدى المنظور.
وترتكز السياسة الروسية في أفريقيا بشكل عام والساحل بشكل خاص على عدد من المداخل التي تعزز نفوذها وتسهل عملية تغلغلها هناك. إذ تتبنى موسكو خطابًا مناهضًا لما تسميه الإمبريالية الغربية المتجددة في أفريقيا، وأنها تسعى لتحرير الدول الأفريقية من هيمنتها، مستغلة سجلها الخالي من فترات استعمارية في أفريقيا بعكس الغرب، بل يبدو أنها ترغب في إحياء الدور السوفيتي تجاه أفريقيا في القرن الماضي، وهو ما يعزز درجة قبولها لدى الرأي العام الأفريقي، خاصة أنه يتماشى مع تزايد المشاعر المعادية للغرب المتمثلة في تصعيد موجة الرفض الشعبي للقوى الغربية التقليدية في عدد من دول الساحل خلال السنوات الأخيرة.
كما تقدم روسيا دعمًا سياسيًّا قويًّا لحلفائها في منطقة الساحل، سواء على الصعيدين الداخلي عن طريق دعم الأنظمة الحاكمة ضد المعارضة والحركات المتمردة، والخارجي من خلال الدفاع عن قضاياها في المحافل الدولية لا سيما مجلس الأمن الدولي مثل أفريقيا الوسطى ومالي والسودان وبوركينا فاسو، وهو ما يشجع دول المنطقة للتقارب مع موسكو كحليف بديل للغرب خاصة أنها لا تتبنى المشروطية السياسية والاقتصادية في علاقاتها الأفريقية كما هو الحال بالنسبة للقوى الغربية لا سيما فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
ويبرز العامل الأمني كأحد أهم مداخل السياسة الروسية في الساحل، مع اضطراب المشهد الأمني الإقليمي هناك، نتيجة تنامي التهديدات الأمنية وتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية لا سيما تنظيمي داعش والقاعدة. إذ تجد موسكو في هذا السياق الإقليمي المعقد أمنيًّا سوقًا ترويجية مهمة للصناعات التسليحية الروسية، خاصة أنها تعد أكبر مورد للأسلحة في أفريقيا بنسبة 38% تقريبًا من إجمالي صادراتها من السلاح. وفي سياق المساعي الروسية لتوسيع علاقاتها مع الأفارقة، وقعت موسكو منذ عام 2017 أكثر من 30 اتفاقية للتعاون العسكري مع الدول الأفريقية مقارنة بنحو سبع اتفاقيات في الفترة بين عامي 2010 و2017، إضافة إلى سعيها للحصول على قاعدة عسكرية روسية في ميناء بورتسودان السوداني لتسهيل الحركة من العمق الأفريقي للمياه الدافئة[3].
كما تدعم قوات فاجنر الأمنية أهداف موسكو الجيوسياسية في الساحل والقارة، فهي تعد واحدة من أكثر الأدوات التي اعتمدها الكرملين في أفريقيا جنوب الصحراء تأثيرًا[4]، خاصة أنها استطاعت خلق المزيد من النفوذ هناك، وتمثل قناة مهمة يمكن لموسكو من خلالها بسط نفوذها وتعزيز مصالحها الاستراتيجية، لا سيما أن نفوذها أضحى يمتد بطول شرق الساحل من ليبيا شمالًا مرورًا بغرب دارفور إلى أفريقيا الوسطى جنوبًا وتمددها إلى العمق في مالي وبوركينا فاسو.
وتتبنى فاجنر استراتيجية متعددة الأطراف في المسرح الأفريقي. فعلى المستوى السياسي، يتضح دور فاجنر في دعم حلفائها الأفارقة مثل أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو ونظام البشير السابق في السودان من خلال توظيف المزيد من الحملات الإعلامية التي يزعم الغرب أنها مضللة للأفارقة، والتدخل في الانتخابات الرئاسية لصالح القادة الموالين لموسكو، والتصدي لاحتجاجات المعارضة السياسية في بعض الدول الأفريقية الشريكة لروسيا. وعلى المستوى الاقتصادي، شرعت فاجنر في إنشاء شبكة من الشركات التابعة لها التي تعمل في قطاعات حيوية مثل الطاقة والتعدين والطاقة النووية.
أما على المستوى العسكري، تقدم فاجنر خدماتها العسكرية إلى بعض حكومات الساحل من أجل مكافحة الإرهاب والتصدي للحركات المتمردة المسلحة، كما هو الحال في دول أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو إلى جانب ليبيا والسودان، وهو ما يمثل اختراقًا لدائرة النفوذ الفرنسي في المنطقة الذي يتراجع بشكل قوي خلال الفترة الأخيرة. إذ تتمركز قوات فاجنر في أفريقيا الوسطى وتشارك بشكل أساسي في القتال ضد التنظيمات الإرهابية، إضافة إلى ضمان أمن الرئيس فوستين تواديرا. كما ينتشر أكثر من 1000 جندي في شمال مالي عقب توقيع اتفاق مع المجلس العسكري الانتقالي المالي بقيادة أوسيمي جويتا في سبتمبر 2022 بهدف مواجهة تصاعد النشاط الإرهابي في البلاد. وتلقت باماكو على مدار أكثر من عامين بعض المساعدات العسكرية الروسية مثل الطائرات والمروحيات المقاتلة وأنظمة الرادار المتنقلة. كما عرضت فاجنر مساعدتها ودعمها لبوركينا فاسو عقب الانقلاب الثاني في سبتمبر 2022[5].
وربما يمنح صعود قادة الانقلاب العسكري في النيجر للسلطة فرصة لتوسع فاجنر في المنطقة -خاصة أن هناك تقارير قد أشارت إلى استدعاء نيامي لفاجنر لمساعدتها في مكافحة الإرهاب- نظرًا لأهمية النيجر الاستراتيجية خاصة أن موسكو تدرك أنها آخر المعاقل المؤيدة للغرب في منطقة تعرف بحزام الانقلابات في أفريقيا، إضافة إلى أنها تمد أوروبا وخاصة فرنسا باحتياجاتها من اليورانيوم الذي تعتمد عليه المحطات النووية لتوليد الكهرباء، ومن ثم، ربما يشكل ورقة مساومة روسية للضغط على الغرب من أجل فك الحصار على شركات الطاقة الروسية في أوروبا.
وتهدف موسكو من خلال الاعتماد على فاجنر بالأساس إلى بسط نفوذها على نطاق جغرافي واسع لاستهداف الدول الغنية بالموارد والثروات المعدنية، والحصول على حقوق وامتيازات قطاع التعدين في الدول الأفريقية[6]، والذي يسهل لها الاستيلاء على مناجم الذهب والماس، كما يفتح المجال أمام الشركات الروسية للانخراط في المجالات الحيوية بالدول الأفريقية مع توفير الغطاء الأمني لحماية مصالحها هناك. وهو ما يسهم في تخفيف حدة العقوبات الغربية التي تأثر بها الاقتصاد الروسي إلى جانب العزلة الدولية المفروضة على موسكو. بالإضافة إلى سيطرتها على طريق الهجرة الرئيسي لأوروبا عبر الساحل وشمال أفريقيا لمساومة الغرب على ملفات متشابكة بين الطرفين في مناطق استراتيجية أخرى مثل شرق أوروبا.
ومن هنا، تتبلور سياسة موسكو عبر فاجنر في ملء الفراغ السياسي والأمني الذي تخلفه فرنسا وشركاؤها الأوروبيون في منطقة الساحل، وقطع الطريق أمام عودتها مجددًا، مما قد يُصعّد التنافس الدولي في إطار تضارب أهداف ومصالح اللاعبين الفاعلين هناك.
حسابات الخصوم الاستراتيجيين
يهيمن على المشهد الإقليمي في الساحل منافسة دولية متعددة الأقطاب بين العديد من الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي وفرنسا والولايات المتحدة والصين وتركيا ودول الخليج. فقد هيمن الأوروبيون لا سيما فرنسا على المشهد الأمني في المنطقة منذ عام 2012 مع بداية موجات التمرد وتصاعد النشاط الإرهابي هناك، وسط تراجع أمريكي نسبي في المنطقة لحساب الاهتمام بالتمدد في مناطق استراتيجية أخرى من العالم. بينما كان الوجود الصيني مدفوعًا بالمصالح الاقتصادية والاستحواذ على الموارد الطبيعية والتعدين والصناعة، حيث نفذت بكين حزمة من الاستثمارات في القطاع الصناعي بمالي، في حين ركزت استثماراتها في النيجر وتشاد على الطاقة والتعدين والبنية التحتية.
فيما تشير تقارير إلى اهتمام بكين بالجانب الأمني في الساحل في ضوء المخاوف من تعرض استثماراتها للمخاطر بسبب التهديدات الأمنية في الإقليم. بينما عززت تركيا وجودها العسكري في المنطقة وخاصة في النيجر من خلال صفقات بيع الأسلحة مثل الطائرات المسيرة، كما تركز على تعزيز قوتها الناعمة في المنطقة. وتسعى قطر للعب دور رئيسي في أن تصبح شريكًا رئيسيًّا في المرحلة الانتقالية التشادية بعد استضافتها للحوار الوطني على مدار العامين الماضيين بين الحكومة التشادية والمعارضة السياسية من أجل إنهاء الانقسام والحد من التوترات والمساهمة في نجاح المرحلة الانتقالية بالبلاد.
وقد بدأت واشنطن في استشعار الخطر بشأن تمدد فاجنر في دول الساحل وغرب أفريقيا، ما يدفعها لإعادة النظر بشأن حجم انخراطها في المشهد الأفريقي، لا سيما في مجال محاربة الإرهاب، الذي يمثل حجر زاوية للنفوذ الروسي وذراعه فاجنر بالأساس خلال السنوات الأخيرة. وانعكس ذلك في تقديم واشنطن لبعض المساعدات العسكرية لدول أفريقية مثل بنين وكوت ديفوار وتوجو، ومنح دول الساحل نحو 150 مليون دولار، بما في ذلك مساعدة المجلس العسكري في بوركينا فاسو لمواجهة القاعدة وداعش في محاولة لعدم ترك المساحة كاملة للنفوذ الروسي، والحد من موجة التحولات الأفريقية في الساحل وغرب أفريقيا نحو فاجنر، وهو ما يتماهى مع الاستراتيجية الأمريكية التي أعلنها أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، في أغسطس 2022 من جوهانسبرج والتي تهدف بالأساس إلى مواجهة النفوذين الروسي والصيني في القارة.
كما تخشى واشنطن سقوط الدول الساحلية في غرب أفريقيا التي ستمثل تهديدًا استراتيجيًّا لو تمددت فاجنر هناك، بسبب القرب الجغرافي نسبيًّا بين غرب أفريقيا (المحيط الأطلنطي) والولايات المتحدة الأمريكية. لذلك تعهدت واشنطن خلال زيارة نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس إلى غانا في يوليو 2023 بتقديم 100 مليون دولار خلال السنوات المقبلة بهدف بناء القدرة على الصمود في الساحل الغربي لأفريقيا، خاصة أن الإدارة الأمريكية بقيادة جو بايدن قد أعلنت أن ساحل غرب أفريقيا يمثل أولوية بالنسبة لها خلال العقد المقبل.
أما وضع فرنسا فهو على المحك، حيث يتضاءل نفوذها السياسي والأمني في الساحل التي أضحت ساحة مباحة لخصومها الاستراتيجيين لا سيما روسيا والصين، وهو ما يدلل عليه انسحاب القوات الفرنسية من مالي في أغسطس 2022، والذي يسلط الضوء على اهتزاز مكانة فرنسا في الساحل، وأضحى وجودها غير مرحب به هناك. إذ تواجه باريس حزمة من الاتهامات التي يوجهها الأفارقة لها عقب 11 عام من الانخراط في الساحل منذ 2012، ويتمثل أبرزها في وصفها بالاستعمار الجديد حيث تستولي على الثروات والموارد الأفريقية في حين تعاني معظم دول المنطقة من الفقر المدقع. كما تتمركز قواتها هناك بحجة محاربة الإرهاب دون تحقيق أي نتائج إيجابية في هذا المجال على مدار أكثر من عقد. بالإضافة إلى اتهامها بانتهاك سيادة دول الساحل والتدخل في شئونها الداخلية. إلى جانب تحيزاتها المفضلة وحماية حلفائها في الساحل وهو ما يكشفه موقفها من أحداث تشاد عقب مقتل إدريس ديبي في أبريل 2021، وتشددها تجاه الأحداث الراهنة في النيجر والإصرار على استعادة الرئيس السابق بازوم إلى السلطة.
هذه التفاعلات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الساحل في المرحلة الحالية ربما تمثل فرصة للصين لتعزيز مكانتها كشريك موثوق للنمو والاستفادة من الموارد الطبيعية في المنطقة لتوسيع قطاع التصنيع والتكنولوجيا، خاصة أنها تمتلك استثمارات متعددة بما في ذلك بناء خط أنابيب نفط من النيجر إلى ساحل بنين. كما حصلت الشركات الصينية على أغلبية الحصص في مناجم تشاد ومالي والنيجر. وربما تتوسع سياسة الصين الأمنية في الساحل لحماية مصالحها الاقتصادية في المستقبل، لا سيما أن علاقاتها قد تحسنت مع بعض دول المنطقة مثل بوركينا فاسو بعدما قررت الاعتراف بسياسة الصين الواحدة في عام 2018.
وإجمالًا، يبدو أن تحولات الاستراتيجيات الغربية بما في ذلك الأمريكية والفرنسية في الساحل لن تثني الأفارقة عن التقارب مع موسكو خلال الفترة المقبلة، خاصة أن النخب الحاكمة الجديدة أدركت فشل تلك الاستراتيجيات في إيجاد حلول فعالة للتحديات التي تواجهها الدول الأفريقية لا سيما الإرهاب والأزمات الاقتصادية.
بينما يبدو الطريق ممهدًا أمام توسع النفوذ الروسي وسيطرة فاجنر في منطقة الساحل، وسط تكهنات بأن يشهد المسرح الأفريقي انتشارًا أكبر لقواتها في حالة احتواء الصراع الأوكراني في المدى المنظور، لا سيما مع تراجع النفوذ الفرنسي والغربي في المنطقة، والذي يدرك أن سقوط النيجر ربما يمثل بداية لسقوط أنظمة أخرى في المنطقة، ومن ثم تسقط في دائرة النفوذ الروسي، بما يهدد المصالح الغربية والأمريكية في المنطقة، الأمر الذي قد يجعلنا أمام ساحة صراع جديدة في الساحل على غرار الصراع الروسي-الغربي/الأمريكي في أوكرانيا.