أعاد قرار السلطات الأمنية الإيرانية، في 17 يوليو الفائت (2023)، القاضي بعودة شرطة الأخلاق إلى الشارع، وممارسة عملها في ملاحقة النساء غير الملتزمات بالحجاب، أو الزي اللائق، زخم المظاهرات النسائية التي شهدتها البلاد العام الماضي اعتراضاً على قانون الحجاب والعفة، وما تبعتها من احتجاجات شعبية شاركت فيها طوائف الشعب الإيراني المختلفة عقب وفاة الفتاة مهسا أميني بعد توقيفها من قبل شرطة الأخلاق.
فعلى الرغم من أن الاحتجاجات لم تعد إلى الشارع بعد برغم الحشد المتواصل لها عبر منصات التواصل الاجتماعي من قبل ناشطين، فإن مظاهر أخرى رمزية لا زالت مستمرة، عبر منصات المشاهير والفنانين الذين شاركوا في الاحتجاجات بطريقتهم الخاصة، وصورهم الأيقونية، التي أسهمت إلى حد كبير في إطالة أمد الاحتجاجات إلى ما يقرب من سبعة أشهر دون انقطاع.
فعقب أسبوع واحد من قرار إعادة وحدة شرطة الأخلاق، أقدم القائمون على مهرجان رابطة مخرجي الأفلام القصيرة الإيرانيين "إيسفا" للأفلام القصيرة، على اختيار ملصق الدورة الثالثة عشر التي كان يفترض أن تقام في سبتمبر القادم، لصورة امرأة بدون حجاب للممثلة الإيرانية سوزان تسليمي مأخوذة من فيلم "موت زدرد" الذي عرض عام 1982. أي أن هذا الفيلم قد أنتج قبل أن يكون الحجاب إلزامياً في إيران، حيث فرض الحجاب الإلزامي على النساء الإيرانيات والأجنبيات بغض النظر عن ديانتهن خلال عام 1983، وذلك في اعتراض ضمني على قانون الحجاب والعفة الذي تم إقراره قبل عام من الآن، ما أدى إلى حظر السلطات الإيرانية الثقافية انطلاق الدورة القادمة من المهرجان. فيما لم يصدر عن هيئة المهرجان تعقيب على حظر دورته الثالثة عشر، الأمر الذي يشير إلى أن القائمين على المهرجان أرادوا تسجيل موقف وإرسال رسالة، مع معرفة سابقة برد الفعل المتوقع من قبل السلطات عليها.
رسائل الفن
تخضع الفنون بكل أشكالها لقواعد صارمة في إيران على الرغم من المكانة المميزة التي تتمتع بها لدى الشعب الإيراني بشكل عام، والوضع المتميز الذي يحظى به الفنانون والمثقفون، طالما التزموا بالخطوط الحمراء التي يضعها النظام لأنواع الفنون المختلفة. غير أن القيود المتزايدة المفروضة على المبدعين الإيرانيين قد أسهمت خلال السنوات الماضية في نشأة جيل فني يمكن وصفه بالمتمرد على تلك القواعد، بالرغم من الإجراءات العقابية والتضييقية التي تنتظر أي مخالفة للقواعد المعمول بها في هذا الإطار.
ففي مقابل هذه القيود، ظهر اتجاه قوي وغالب في الأوساط الفنية يتمثل في الهجرة إلى أوروبا، والولايات المتحدة، وكذلك إلى تركيا والعراق، بهدف ممارسة النشاط الفني بقدر أكبر من الحرية، لاسيما في مجالى الغناء والتمثيل. وقد شجع نجاح أغلب الفنانيين الإيرانيين المهاجرين غيرهم من فناني الداخل على محاولات الفكاك من قيود النظام رويداً رويداً، فظهرت أنواع حديثة من الأفلام القصيرة، ومن الغناء، وتكونت فرق الأندر جراوند والراب، مستخدمة كلمات تدعو للتمرد على القيود بشكل عام.
أسهم هذا المناخ في إشعال روح الحماسة لدى عدد كبير من الفنانات اللائي بادرن بالتعاطف مع التظاهرات النسائية ضد قانون الحجاب، بدأتها الممثلة الشهيرة المعتزلة كتايون رياحي بطلة مسلسل يوسف الصديق، بنشر صورة لها على حسابها في انستغرام في الأيام الأولى من اندلاع الاحتجاجات بدون حجاب، وقدمت التعازي لأسرة الشابة مهسا أميني، وكتبت على الصورة: "هذا ليس وقت الكذب"، وأوضحت بعد ذلك في لقاء صحفي أنها قصدت من هذه العبارة "أن خلع الحجاب، لمن ترتدي الحجاب في الأساس. أنا لم أكن محجبة قط، والآن أظهرت الحقيقة، لسنوات أظهرونا في التمثيل محجبات، بينما الحقيقة ليست كذلك".
عبرت تصريحات كتايون والتي اتسمت بجرأة التوقيت عن استخدام النظام الإيراني للفن بشكل يخدم أيدلوجيته من خلال القيود التي فرضها ليس فقط على زي النساء في الأعمال الفنية، وإنما لنمط علاقاتها بالرجال، حتى بات الفن مؤدلجاً لتوصيل رسائل النظام للداخل، والخارج الذي حاول بطرق شتى دعم الفن الإيراني من خلال استضافة الأعمال الفنية في المهرجانات الدولية، وتكريم الفنانين الإيرانيين.
في مقابل هذا الدور الذي فرض على الفنون في إيران، ظهر نمط آخر من الفن في مواجهة السلطة، لاسيما عقب الاحتجاجات الأخيرة، التي أنتجت بدورها نوعاً جديداً من الفن المعارض، ابتداءً بأغنية "براى آزادي" أي "من أجل الحرية" للمغني شرفين حاجي بور، والتي استعان في كلماتها بتغريدات لمتظاهرين، ولشعارات رفعها المحتجون، لتتحول إلى نشيد لهذه الاحتجاجات بعد تحقيقها 40 مليون مشاهدة خلال 24 من نشرها على حساب حاجي بور على حسابه على انستجرام، ما أدى بدوره إلى اعتقال السلطات له ثم الإفراج عنه بموجب كفالة بعد عدة أيام. فيما تجدر الإشارة إلى أن هذه الأغنية قد نافست على جائزة جرامي عن فئة الأغنية الخاصة بالتغيير الاجتماعي.
مناخ غير مواتٍ
على الرغم مما مثلته ثورة تكنولوجيا المعلومات ومنصات التواصل من عامل محفز ومساعد لظهور وانتشار أنماط فنية مواكبة للحراك في إيران، فإن النظام الإيراني حرص في المقابل على تحجيم الحراك الفني بالوتيرة ذاتها التي سعى بها لإخماد احتجاجات الشارع من خلال آليتين أساسيتين: الأولى، الإفراط في اعتقال وتوقيف الفنانيين، ومنعهم من السفر لحضور مهرجانات أو تلقي تكريمات.
ولعل آخر الأحكام السالبة لحريات فنانين كانت من نصيب ممثلتين إيرانيتين هما افسانه بايكان، وصدر بحقها في 19 يوليو الفائت، حكم السجن لعامين مع وقف التنفيذ، وحرمانها من استخدام الإنترنت، ومنصات التواصل الاجتماعي، ومنعها من مغادرة البلاد لمدة عامين، وليلا بلوكات، التي صدر بحقها في اليوم نفسه حكم بالسجن لمدة 10 أشهر تقضيها في أحد سجون محافظة سمنان، على خلفية اتهامهما بعدم الالتزام بارتداء الحجاب اللائق في الأماكن العامة.
كما منعت السلطات الإيرانية المخرج السينمائي المعارض، محمد رسول آف، من مغادرة البلاد بعد تعيينه حكماً في مهرجان "كان" السينمائي، وقد أفرج عنه بعد اعتقاله لفترة بموجب العفو الأخير الذي أصدره المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية على خامنئي.
وتشير تقارير المنظمات الحقوقية المختصة بحرية التعبير إلى أن السلطات الإيرانية قد شكلت لجنة سرية لمعاقبة المشاهير الذين دعموا التظاهرات المناهضة للحكومة، وقامت هذه اللجنة بوضع قائمة تتكون من 141 اسم من الشخصيات المعروفة في البلاد، وتوجهت اللجنة بهذه القائمة لجهات اقتصادية للنظر في الملفات الضريبية لهذه الشخصيات، كما عملت اللجان الإلكترونية على منصات التواصل الاجتماعي بمهاجمة عدد من الشخصيات العامة التي أعلنت دعمها للاحتجاجات من رياضيين وفنانين، ولا زالت تعمل هذه اللجان على تصفية هذه الشخصيات بالترويج لإشاعات وأخبار يراها الناشطون مكذوبة وملفقة.
الثانية، هي الترويج للأعمال الفنية الموجهة لاسيما الدرامية، التي تعتبر لسان النظام، خاصة في ظل سيطرة الأخير على الأجهزة والهيئات المنظمة لأنواع الفنون الإيرانية، والتي أبدت قياداتها إبان الاحتجاجات مواقف مخالفة للفنانين الداعمين للمتظاهرين. فعلى سبيل المثال، حمل مدير المنظمة السينمائية الإيرانية الرسمية محمد خزاعي الاحتجاجات المناهضة للنظام، التأثيرات السلبية التي طالت صناعة السينما مثل باقي الصناعات في البلاد، مؤكداً على أن الحجاب لن يختفي من السينما، ولن يعرض أي فيلم من دون حجاب، وأن التظاهرات التي شهدتها البلاد لن تعيد حقبة الستينيات والسبعينيات.
وعلى الرغم من أن الهيئات الفنية الخاضعة لقبضة النظام الإيراني، والحرس الثوري على وجه الخصوص، لم تقدم حتى الآن عملاً يتناول ما شهدته البلاد من احتجاجات، فإنها لا تزال تعمل على الترويج للأعمال التي يطلق عليها "سينما الدفاع المقدس" والأعمال الدرامية التي تروي بطولات النظام، بالتوازي مع الاتجاه إلى التوسع في إنتاج الأناشيد ذات الصبغة الدينية الداعمة للنظام، على غرار نشيد "سلام فرمانده"، الذي سبق إنتاجه احتجاجات قانون الحجاب، ولكنه كان حاضراً بقوة في التظاهرات الداعمة للنظام التي خرجت لأكثر من مرة في عدة مدن إيرانية للرد على احتجاجات مناهضة له.
وفي النهاية، يمكن القول إنه على الرغم من الدور الذي لعبه الفن الإيراني في دعم الاحتجاجات ضد النظام، فإن الأخير قد أسهم إلى حد كبير في تحجيم هذا الدور، لاسيما مع الدعم الخارجي الذي لاقاه الفنانون الإيرانيون في المهجر، من مساحات للتعبير عن مواقفهم في المهرجانات الدولية، وهو ما حاول النظام من خلاله الترويج لفكرته الأثيرة التي تفيد بأن الاحتجاجات مؤامرة الغرب للنيل من استقرار النظام.