عبد المجيد أبو العلا

باحث في العلوم السياسية

 

مع وجود إرث كبير من أدبيات العلاقات المدنية-العسكرية، إلا إن تلك الأدبيات لا تخلو من ثغرات تعود إلى طبيعة منشأ وتطور وتفاعلات هذا الحقل. فمن الأهمية بمكان عند دراسة العلاقات المدنية-العسكرية التمييز بين ما هو موجود ومستقر في الأدبيات النظرية وفي الممارسات التطبيقية بالدول الكبرى، وبين حالات عدم الاستقرار في العالم، وخاصةً دول الشرق الأوسط وأفريقيا باعتبارها حالات خاصة، حيث برزت في حالات الصراع والأزمات قضايا كبرى لم تكن تحظى بالاهتمام الكافي في أدبيات الحقل المستقرة، ربما لأنها لم تكن ماثلة في الحالة الأمريكية المركزية التي شكّل منظروها هذا الحقل العلمي ووضعوا أسسه.

وفى إطار الاشتباك مع هذا الموضوع في أبعاده النظرية والتطبيقية، ناقش السيمنار العلمى لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، في 19 يوليو الجاري (2023)، تحت عنوان: "العلاقات المدنية-العسكرية في حالات عدم الاستقرار"، مداخلة رئيسية قدمها الخبير بوحدة الدراسات الأمنية والعسكرية بالمركز، أحمد عليبه، حول الأطر النظرية للعلاقات المدنية-العسكرية، واتجاهات وإشكاليات العلاقات المدنية-العسكرية في حالات عدم الاستقرار، مع الاقتراب من الحالة الأفريقية كدراسة حالة تطبيقية، أعقب ذلك مناقشات بمشاركة الهيئة العلمية للمركز.

نظريات العلاقات المدنية-العسكرية

يمكن تقسيم نظريات العلاقات المدنية-العسكرية إلى تيار سائد -أمريكي بالأساس- وتيار أوروبي -وإن كان امتدادًا للتيار الأمريكي لكنه شكّل قيمة مضافة خاصة به- وتيارات مناظرة مثل النموذجين الصيني والروسي.

1- التيار السائد في العلاقات المدنية-العسكرية (المدرسة الغربية)

يمكن التمييز داخل المدرسة الأمريكية في إطار التتبع التاريخي لنظريات العلاقات المدنية-العسكرية بين النظريات الكلاسيكية، والنظريات المعاصرة.

أ- النظريات الكلاسيكية

بدأت نظريات المدرسة الكلاسيكية منذ خمسينيات القرن الماضي وظلّت حتى نهاية الحرب الباردة. ويُعد كتاب "الجندي والدولة" لصامويل هنتنجتون الذي صدر عام 1957 هو الأطروحة المؤسسة لتلك المدرسة ولحقل العلاقات المدنية-العسكرية بشكلٍ عام. حيث أطّر "هنتنجتون" للعلاقات المدنية-العسكرية كعلاقة بين الجيش والسلطة، متخذًا من "السيطرة الموضوعية" مرتكزًا رئيسيًا لإدارة تلك العلاقة. فانطلق "هنتنجتون" من قناعة مفادها أن تزايد قوة الجيش الأمريكي في السياسة الخارجية الأمريكية يدفع نحو ضرورة وضع ضوابط لضمان الاحترافية العسكرية وخضوع العسكريين لقرار الإدارة المدنية.

ثم أسس "موريس جانوفيتز" لعلم الاجتماع العسكري، وجادل بأن العلاقة ليست فقط بين السلطة والجيش بل ينبغي أن تكون علاقة ثلاثية بإدخال المجتمع في تلك المعادلة، بالنظر إلى محورية وأهمية الإسهام المدني في هذا المجال، مثل اختراع باحثين وخبراء مدنيين للقنبلة النووية، فضلًا عن تغذية المجتمع الجيش بالمجندين والضباط باعتبارهم مدنيين قبل الانضمام للجيش، ويعودوا إلى الصفة المدنية بعد انتهاء مدة خدمتهم.

وأخيرًا هناك نظرية "المجمّع الصناعي العسكري" التي لم يتم التأصيل لها بشكلٍ كبير وبرزت بدرجة أكبر كانعكاس تطبيقي لواقع العلاقات المدنية-العسكرية في الحالة الأمريكية. حيث قامت فكرة المجمّع الصناعي العسكري على التشبيك بين السلطة والإدارة والجيش والمجتمع والمصانع، وإنشاء شبكات مصالح مترابطة مع هذه الأطراف، وامتلاك آليات للتأثير قرارات مختلف هذه الأطراف، مثل التأثير على وزارة الدفاع في قرارات اختيار الأسلحة، وعلى الإدارة السياسية في قرارات الحرب، وعلى قرارات المجتمع نفسه عبر استقطاب الخبرات المدنية المهمة للابتكار، والتأثير الإعلامي المرتبط بسياسات الدفاع.

ب- النظريات المعاصرة

بخلاف النظريات التأسيسية لحقل العلاقات المدنية-العسكرية، هناك العديد من الإسهامات النظرية المعاصرة التي حاولت تقديم فهم أجدد وأكثر تواكبًا مع المتغيرات الدولية لهذه العلاقات، ومنها "نظرية الوكالة" التي بلورها "بيتر فيفير" في كتابه الصادر عام 2003 بعنوان "الخدم المسلحون: الوكالة والإشراف والعلاقات المدنية-العسكرية"، وهي النظرية الأولى في حقل العلاقات المدنية-العسكرية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 التي أثرت بشدة على السياسات والنظريات الدفاعية الأمريكية. وعُدّت نظرية "فيفير" انقلابًا على نظرية "هنتنجتون" التي قامت على خضوع العسكريين للإدارة وامتثالهم لقراراتها بأي شكل، حيث اعتبر "فيفير" الجيش شريكًا رئيسيًا في قرارات الحرب وليس مجرد تابع للإدارة السياسية، رافضًا التعامل مع الجيوش وكأنهم "خدم مسلحون" على حد وصفه في عنوان كتابه، ورافضًا أن تحتكر الإدارة قرار الحرب دون الالتفات إلى قرار أو رأي الجيش. مشيرًا إلى وجود آليات رقابية لدى المجتمع تجاه الإدارة التي قد لا تكون بالكفاءة الكافية، ومشددًا على أهمية خضوع جميع الأطراف لآليات الرقابة.

وهناك "النظرية المعيارية" المستمدة من كتاب "ألين أ. كوهن" الصادر عام 2002 بعنوان "القيادة العليا: الجنود ورجال الدولة والقيادة في زمن الحرب" والتي مزجت بين رؤية "هنتنجتون" حول السيطرة الموضوعية، مع التأثّر بالحالة الإسرائيلية كحالة استثنائية في العلاقات المدنية-العسكرية من وجهة نظر الكاتب الذي شرّح أفكار "بن جوريون" وتحويل العصابات الصهيونية إلى جيش، مستعرضًا دور الجيش الإسرائيلي وعلاقته بالسياسيين. حيث قام "كوهن" بإعادة تنظير وتقييم لأفكار "هنتنجتون" حول السيطرة الموضوعية دافعًا بأنها أقرب إلى العلاقات المرنة، وأن المحك الحقيقي لاختبارها حالة الحرب. في ظل رؤيته لحالة الحرب باعتبارها المعيار والمحك الرئيسي لاختبار العلاقات المدنية-العسكرية بشكلٍ عام.

أما "نظرية التوافق" فتتحدث عن خضوع السياسة الخارجية لاعتبارات داخلية، وأهمية الفصل بين الاعتبارات الأيديولوجية وبين القرارات التي يجب اتخاذها لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي. حيث أشارت "ريبيكا إل شيف" في كتابها الصادر عام 2008 بعنوان "السياسة العسكرية والمحلية: نظرية التوافق للعلاقات المدنية-العسكرية" إلى ظهور حالة من العسكرة في السياسة الخارجية الأمريكية تمثّل ارتدادًا عن المعايير والقيم التي أسس لها الرواد الأوائل كهنتنجتون وجانوفيتز، مشيرةً إلى أهمية عدم السماح للجيش بالتدخل بشكل كبير في الشأن الداخلي، لكن مع عدم إنكار أن الجيش معني بالسياسة أيضًا. ولذلك هناك حاجة لتحقيق التوازن والتوافق.

وأخيرًا، هناك "نظرية التكامل" التي تتناول مسألة الشراكة السياسية العسكرية، والتي تُعد النظرية الأكثر انتشارًا حاليًا. والتي طرح منُظّرها "كاي إم. ثالر" عمل مقياس للفعالية العسكرية، وهو ما أكمله "توماس برونو" و"أوريل إس كرويسانت" بوضع مؤشرات لقياس الفعالية العسكرية من خلال محاور التخطيط والدفاع العسكري المشترك وتقييم سياسات الدفاع ومعايير الأمن القومي ودور أجهزة الاستخبارات. وبخلاف عامل التوازن الذي ركزت عليه "نظرية التوافق"، أضافت "نظرية التكامل" أهمية تعزيز المرونة والتفاعل بشكل أكبر لتحقيق الأهداف، وفق اعتبارت الأمن القومي.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى محورية أطروحتي "صامويل هنتنجتون" و"موريس جانوفيتز" اللتان كانتا بمثابة نواة تأسيسية دارت حولها وتفاعلت معها الأطروحات النظرية اللاحقة سلبًا أو إيجابًا. ورغم أن "المجمّع الصناعي العسكري" يُوضع ضمن الأطروحات الكلاسيكية زمنيًا، إلا أن ثمة حاجة لإعادة تقييم دور المجمّع، خاصةً في ظل الانتقادات الكبيرة التي صاحبت حربي أفغانستان والعراق.

ج- نقد مركزية النموذج الأمريكي

برزت انتقادات لمركزية النموذج الأمريكي في الأطروحات النظرية السابق عرضها وفي غيرها من الأطروحات النظرية الغربية، وأشارت تلك الانتقادات إلى نقاط من بينها عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية، والتي ركز عليها "كوري زولي" و"روبرت آي روبنشتاين" معتبرين أنها قوضت نظريات العلاقات المدنية-العسكرية في المدرسة الأمريكية. كما طورت الأكاديميات العسكرية منظورًا نقديًا تجاه دور الإدارة الأمريكية في الحروب وفي إدارة العلاقات المدنية-العسكرية، وظهرت دراسات في كليات الحرب تشير إلى غياب الاحترافية السياسية، مقابل السيطرة الموضوعية التي تحدث عنها هنتنجتون، مشيرة إلى أن العسكريين انصاعوا لقرارات الإدارة الأمريكية بالدخول في حروب رغم أنها كانت قرارات خاطئة، وتحمّل العسكريون جانب كبير من تكلفتها، في إشارة إلى حالتي العراق وأفغانستان. الأمر الذي يعكس تحفظ الأوساط العسكرية على أداء وقرارات السياسين في التجربة الأمريكية في تلك المرحلة.

ومع تطور وسائل الاتصال وتزايد دور منصات التواصل الاجتماعي تبلورت الانتقادات بشكل أكبر، فضلًا عن تبلور رأي مجتمعي تجاه لوبيات المجمّع الصناعي العسكري. كما دار جانب مهم من نقد النموذج الأمريكي حول محاولة الإدارة الأمريكية استنساخ ذلك النموذج الذي اعتمد مقاربات قيمية في الأساس قائمة على مفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان في دول أخرى، وتطبيقه عبر عسكرة السياسة الخارجية، واستخدام الجيش في فرض الديمقراطية وفق المنظور الأمريكي على الدول الأخرى. ولذلك ظهرت مطالبات بتولي المؤسسة العسكرية دورًا أكبر في رسم سياسات الدفاع.

2- الإسهامات النظرية الأوروبية

شكّلت الإسهامات الأوروبية امتدادًا طبيعيًا للحالة الأمريكية في ظل حالة التعاون الدفاعي بين الجانبين بدايةً من مشروع مارشال، غير أن أوروبا في الفترة التي تلت الحرب الباردة بدأت في تقديم إسهامات شكّلت قيمة مضافة بمنظور أوروبي، مع نقد مركزية المدرسة الأمريكية، والرهان على قدرة المدرسة الأوروبية على طرح إسهاماتها في هذا الحقل مع تبلور الهوية الوطنية الأوروبية، خاصةً مع انتقال عدد دول الكتلة الشرقية من حلف وارسو إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

ويمكن الإشارة إلى النموذج البولندي باعتباره نموذجًا لافتًا في التحول من الإرث العسكري السوفيتي الشرقي إلى الطابع الغربي، والذي احتاج نحو 25 عامًا لاتمام هذا التحول. وفي الوقت الذي كانت القيادات العسكرية الكبرى غير قادرة فيه على التخلص من تقاليد المدرسة السوفيتية، لم يتم اتخاذ إجراءات ضدهم، مع المراهنة على الجيل الثاني للعب دور رئيسي في عملية التحول بعد ذلك.

ورغم أن الإسهامات الأوروبية لم تقدم نموذج مختلف عن النموذج الأمريكي، بل عملت وفق النظريات والمنظور الأمريكي، إلا أن ذلك لا ينفي ما اتسمت به التجربة من قيمة مضافة. ولعل الدرس الأهم في الحالة البولندية هو محورية عامل الانتقال الجيلي. كما ركزت الإسهامات الأوروبية على النواقص التي عانى منها النموذج الأمريكي بالالتفات إلى المشاكل الجديدة التي طرحتها الصراعات والحروب، وليس فقط البعد الديمقراطي وخضوع العسكريين للإدارة المدنية، وبالتحديد الاهتمام الأوروبي بحالات التحول من عدم الاستقرار إلى الاستقرار. وتعد مشاريع الإندماج العسكري من أبرز التطبيقات العملية التي تعكس الإسهامات الأوروبية في هذا الإطار.

3- الحالات المناظرة

بخلاف المدرسة الغربية السائدة، عرج الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أحمد عليبه، في مداخلته الرئيسية على حالتين مناظرتين، هما:

أ- الصين

لم تطرح الصين فلسفة أو أُطر نظرية واضحة للعلاقات المدنية-العسكرية، إنما يمكن فهم المدرسة الصينية من خلال الوثائق الرسمية والممارسة العملية التي قامت على تولي الدولة مهمة مراقبة وضبط العلاقات المدنية-العسكرية. وتبلورت في الحالة الصينية خلال السنوات الأخيرة خمسة اتجاهات رئيسية تعكس الامتثال والمشروطية وهي: تصاعد مؤشر الاحترافية المهنية لجيش التحرير الشعبي، وتشعُّب دور النخب المدنية في المؤسسة العسكرية، وتقليص دور الجيش في المؤسسات السياسية، مع تقليل التركيز على العمل السياسي داخل الجيش، وزيادة الميزانيات العسكرية كأحد نتائج النمو الاقتصادي مما أدى إلى الانسحاب التدريجي من الأنشطة التجارية والاقتصادية. ويمكن ملاحظة أن تلك العملية اتسمت في مجملها بالتدرّج. وبالنظر إلى أهمية التكنولوجيا مزدوجة الاستخدام، بدأ الصينيون في التفكير في المزج بين أدوار المدنيين والعسكرين، ولعب المدنيين دورًا في دعم الجيش ببعض القطاعات، ولكن بشكل منزوع السياسة.

ب- روسيا

تتحدث الوثائق الروسية عن توازن غير متكامل للعلاقات المدنية-العسكرية، حيث تشير إلى أن المؤسسة العسكرية هي التي تمكنت من إعادة بناء القوة الروسية مجددًا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وأنها كمؤسسة محافظة تمتلك المعتقد القومي القائم على أمجاد الأمة، مع محورية دور الكرملين والحكومة في المنظومة الروسية فيما يتعلق بالتوازن ما بين المدني والعسكري. وتجدر الإشارة إلى أن الحالة الروسية تعد حالة مفتاحية في نقد الأدبيات الغربية، وفي الوقت نفسه شهدت انتقادات مقابلة من النظريات والأطروحات الغربية.

اتجاهات جديدة وصور إشكالية في حالات عدم الاستقرار

مثّلت حالات عدم الاستقرار والاضطرابات تحديًا للأنماط الراسخة للعلاقات المدنية-العسكرية في حالات الاستقرار، ونبهت إلى أن الصورة النمطية للعلاقات المدنية-العسكرية باعتبارها العلاقات بين الجيش والسلطة والمجتمع ومواقف هذه الأطراف من العملية السياسية والانتقال الديمقراطي وغيرها من القضايا التي طغت على الأدبيات الأمريكية أصبحت صورة مختزلة للعلاقات المدنية-العسكرية، ما يعني ضرورة بلورة منظور أوسع لتلك العلاقات يراعي المتغيرات التي تفرضها حالات عدم الاستقرار.

ويمكن الإشارة إلى أربع اتجاهات رئيسية حاكمة للتوتر في العلاقات المدنية-العسكرية، هي: التغيرات التي يشهدها التحول في النظام الدولي، والتفاعلات العسكرية المتسارعة، وتنامي الطلب على الجيوش والضرورات الاجتماعية أو الشعبية، والدور المتزايد للمهام غير التقليدية للجيوش وتقاطعها في الأدوار المدنية مثل نموذج جائحة كوفيد-19 وحالات الكوارث الطبيعية. ما يشير إلى تقلّص المسافة البينية بين دور القطاعات المدنية والجيوش في ظل حاجة الطرفين إلى بعضهما البعض والاستخدامات المتبادلة، مع بروز الدور التنموي للجيوش والاستخدامات المدنية-العسكرية.

وفي هذا الإطار يمكن الإشارة أيضًا إلى عدة صور جديدة للعلاقات المدنية-العسكرية، وهي صور إشكالية تعكس التحولات في هذا الحقل في ظل حالات عدم الاستقرار والاضطرابات. فقد تراجعت الصورة النمطية للعلاقات المدنية-العسكرية ولم تعد صورة "الجندي والدولة" وفق النظريات المؤسسة، ولم تعد حتى مرتبطة بعسكرة السياسة الخارجية وفق النظريات المعاصرة، بل برزت إسهامات جديدة لعصر الاضطرابات الدولية والإقليمية والمجتمعية، مع ظهور أنماط الحروب غير التقليدية، وتداعيات الفوضى، والحروب بالوكالة، والحروب الهجينة، وصعوبة تحديد العدو في بعض الحالات. والأخطر أن بعض الحالات يصعب التفريق فيها بين المدني والعسكري مثل حالات أفريقية على رأسها الحالة الليبية، في ظل شيوع حمل السلاح، وتشكيل تنظيمات مسلحة، وتولي مدنيين لمهام ومناصب عسكرية.

وفيما تُظهر دراسات الأمم المتحدة أن أكثر من ربع جيوش العالم بحاجة إلى عملية إصلاح وإعادة هيكلة. وأن هناك حالات بحاجة إلى إعادة البناء من الأساس، فضلًا عن تنامي ظاهرة "تجييش الميليشيات" مقابل فشل عمليات التسوية وبناء السلام. وهو ما يؤكد تقاطع حقل العلاقات المدنية-العسكرية مع دراسات الصراعات وعدم الاستقرار السياسي ودراسات المناطق. خاصةً أن نماذج الانتقال السياسي المعاصرة باتت شديدة التعقيد، مع تباين حالة نجاح أو فشل العلاقات المدنية-العسكرية في دول مختلفة رغم وحدة المقاربات.

وفي ظل جدل المقاربات غير الحاسمة، تبرز الحاجة لأطر تنظيرية وتطبيقة جديدة، حيث تستجد المزيد من الظواهر الأمنية التي تحتاج لاستجابات سريعة تجاهها، وتحديد دور العلاقات المدنية-العسكرية فيها، خاصة أنها تُحمّل الجيوش أعباءً إضافية. ويُنظر إلى التداخل المدني العسكري بوصفه معضلة كبيرة في ظل صعوبة التمييز بين ما هو مدني وما هو عسكري في حالات عدم الاستقرار التي يصبح فيها العسكريون لاعبون سياسيون لديهم طموح في السلطة، فيما يحمل المدنيون السلاح ويصبحون قادة عسكريين. ما ينعكس بدوره على عمليات الإصلاح الهيلكي وبرامج الإدماج والتسريح.

ومن الإشكاليات التي أشارت إليها المداخلة الرئيسية أيضًا دور المجتمع كلاعب في تعزيز التشابكات المعقدة، فلم تعد عمليات التجنيد العسكري للمقاتلين بالأجر والمرتزقة تتم بدوافع مادية فقط، بل تظهر دوافع مختلفة في المجتمعات البدائية التي تسيطر فيها القبيلة والعشيرة، بالاضافة إلى دور المعتقدات والأيديولوجيا. بالإضافة إلى دور العامل الخارجي الذي يظهر كقاسم مشترك في كافة تلك الظواهر، فلم يعد الهدف لتلك التدخلات هو المعايير القيمية كالتحول الديمقراطي وحقوق الانسان، بل انعكس التنافس الدولي كذلك على تجنيد المرتزقة وإذكاء الصراعات. فضلًا عن تحول عمليات الانتقال السياسي إلى صفقات تبادلية مدنية عسكرية، ومع نضوج الصفقات تنطلق دورات جديدة من الانتقال السياسي، كحالة ليبيا والسودان وغيرهم، مع تشكًّل زبائنية وجماعات مصالح وتوازنات قوى.

العلاقات المدنية-العسكرية في الخبرة الأفريقية

بالحديث عن واقع الأدبيات الأفريقية في حقل العلاقات المدنية-العسكرية، يمكن الإشارة إلى هيمنة المنظور الغربي، وهو ما ظهر في التأطير بأثر رجعي، والعسكرة المبكرة، والتعميم في تناول ظاهرة الانقلابات العسكرية، ثم ظهور الدراسات المقارنة. وظهرت سرديات شائعة تجاه القارة على رأسها اعتبار أن أفريقيا قارة "عصية على الحل" فيما يتعلق بقضية العلاقات المدنية-العسكرية وغيرها من القضايا، رغم مسؤولية القوى الكبرى عن الكثير من الأوضاع في القارة، وغياب المؤسسات والقرارات السيادية. وقد وقعت السرديات الشائعة في عدة أخطاء بينها عدم فهم أبعاد الكثير من الحالات الأفريقية، والتعميم في التناول. الأمر الذي دفع في المقابل نحو الحديث عن ظاهرة الانقلابات التصحيحية لمعالجة الأخطاء التي وقعت فيها السرديات الغربية عند تناولها لظاهرة الانقلابات في القارة والنظرة التعميمية الخاطئة. فيما برز توجه لإعادة انتاج المنظور القيمي والسلوكي في ظل التأثير الكبير للأكاديميات الغربية ومنظورها حتى في حالات المشاركة الأكاديمية مع مؤسسات بحثية وتعليمية أفريقية، رغم أن واقع الحال يشير إلى استعصاء إسقاط المنظور الغربي على الخبرة الأفريقية.

وفي ختام مداخلته الرئيسية، ألقى الخبير بوحدة الدراسات الأمنية والعسكرية بالمركز، أحمد عليبه، الضوء على المقاربات الجديدة في الحالات الأفريقية، مثل متغير النمط السلوكي للعسكريين والسياسين، والاختلافات البينية بين الجيوش الأفريقية في ظل حالة التطور التي تحققها بعض الجيوش، ومتغير الانقلابات الروتينية التي تُعد الوجه الآخر لظاهرة الانقلابات التصحيحية. وكذلك المتغيرات الهيكلية في العلاقات المدنية-العسكرية، ومتغير التدخل العسكري بأدوات مختلفة، وظهور آليات جديدة في إطار الاتحاد الافريقي والمنظمات الاقليمية، وصعود الأمن والتنمية كمدخل جديد للتدخل الخارجي في بعض الحالات بدعوي مكافحة الإرهاب والتنمية والإصلاح الأمني بدلاً من الترويج للديمقراطية، مع الإشارة إلى ارتباط منظور "التنمية والأمن" بشكل كبير بالاستراتيجية الصينية تجاه القارة الأفريقية.

اتجاهات النقاش

اشتبكت المناقشات مع الطرح النظرى والتطبيقى لموضوع المداخلة الرئيسية، ويمكن تقسيم تلك النقاشات إلى اتجاهين رئيسيين، الأول ركز على الإشارة إلى حالات تطبيقية تطرح أبعادًا مختلفة لقضية العلاقات المدنية-العسكرية، فيما ركز الاتجاه الثاني على طرح رؤى عامة وخًلاصات نظرية.

1- حالات تطبيقية

أشار أعضاء الهيئة العلمية للمركز إلى عدد من الحالات اللافتة للنظر عند دراسة العلاقات المدنية-العسكرية، ومنها:

أ- "الاحترافية السياسية" كمدخل لنقد العسكريين الأمريكيين للسياسيين: مثّلت الاحترافية السياسية مدخلًا رئيسيًا لنقد العسكريين للإدارة السياسية في التجربة الأمريكية على ضوء تجربتي الحرب في العراق وأفغانستان والانسحاب الفوضوي من الأخيرة. فوجّهت الأكاديميات العسكرية انتقادات للإدارة الأمريكية واتهمتها بالفشل في الحرب وعسكرة السياسة الخارجية الأمريكية، مع تزايد الكُلفة البشرية والاقتصادية التي تحملها البنتاجون جرّاء قرارات الحرب. كما وجهت الأكاديميات العسكرية انتقادات لآليات وشكل الخروج والانسحاب الفوضوي من أفغانستان. وبشكلٍ عام، اعتبر العديد من العسكريين الأمريكيين أن تجربة التدخل في الشرق الأوسط وتغيير النظم كانت رهانا خاسرًا انعكس بالسلب على الجيش الأمريكي ومصالحه. وظهرت دعوات للرهان على من يملكون القوة العسكرية في دول الصراع ودعم من يستطيع السيطرة على الأمور لترسيخ حالة من الاستقرار.

ب- توضيح حدود العلاقة بين الحزب الشيوعي والدولة في الصين: شهد السيمنار نقاشًا حول حدود الفصل بين الحزب الشيوعي الصيني والدولة فيما يتعلق بإدارة العلاقات المدنية-العسكرية، في ضوء تركيز الوثائق الصينية على دور الدولة في إدارة تلك العلاقة. ولفك هذا الاشتباك في الحالة الصينية جرت الإشارة إلى أن هيكل السلطة المدنية والبيروقراطية الصينية يوازيها على مختلف المستويات سلطة أخرى للحزب بحيث يكون الوضع أقرب إلى سلطتين متوازيتين أو "سلطة برأسين" مع ميل ميزان القوة إلى جانب ممثل سلطة الحزب على مختلف المستويات. وتضيق تلك المساحة مع الصعود أكثر فأكثر في هرم السلطة العليا، فتتركز السلطة في المستويات العليا، بحيث تبدو الأجزاء العليا من هرم السلطة ممثلة بـ "رأس واحدة" نتيجة عملية أقرب للدمج والتركيز واستحواذ ممثل الحزب الشيوعي على المناصب الكبرى وصولًا إلى الرئيس الذي يجمع مع منصبه الأمانة العامة للجنة المركزية للحزب ورئاسة اللجنة العسكرية المركزية للحزب الشيوعي الصيني التي تخضع لها شؤون الجيش.

ج- التشارك المدني العسكري في مجالات الابتكار: مع الدور الذي لعبته الشركات المدنية في مجال التقنيات والابتكارات التكنولوجية التي تستفيد منها الجيوش، بدأت وزارات الدفاع بالدول الكبرى في الالتفات إلى ضرورة تخصيص جانب من ميزانيتها للابتكار الدفاعي في إطار سياسات الدفاع الجديدة، وهو ما يظهر بشكل واضح في الحالة الأمريكية. حيث ترى واشنطن أن النجاح الصيني في مجال الابتكار، وخاصة الابتكار الدفاعي، هو نجاح مبني على استفادة شركاتها المدنية من الشركات الأمريكية. كما يعمل الجيش الأمريكي على تشجيع الجامعات والمؤسسات المدنية للمساهمة في هذا المجال من منظور الشراكة وليس التحكّم.

د- العلاقات المدنية-العسكرية كمدخل لفهم التفاعلات في أمريكا اللاتينية: أشار الحضور إلى أن التفاعلات في دول أمريكا اللاتينية تعبّر عن تفاعلات العلاقات المدنية-العسكرية بشدة وترتبط بها، فعلى مدار الفترة الحرب الباردة وما قبلها وبسبب تخوفات الولايات المتحدة حول نفوذها في تلك المنطقة باعتبارها فنائها الخلفي، كان لها أطراف موالية ومتحالفة معها مثل الجيش والكنيسة ورجال الأعمال. ومع صدمة التحول الكوبي للشيوعية وتخوّف الولايات المتحدة من فقدان السيطرة على المنطقة، ظهرت الصراعات المدنية-العسكرية. كما ظهرت داخل الجيوش تيارات مختلفة. وقد شهدت الحالة الأرجنتينية على سبيل المثال، سعيًا نحو تحجيم دور العسكريين. وبشكلٍ عام، تمتلك دول أمريكا اللاتينية مجتمع مدني حقيقي ومتطور ومثقف، فعند تناول العلاقات المدنية-العسكرية في الحالة اللاتينية لابد من الالتفات إلى قوة المكون المدني اللاتيني.

ه- تأكيد الحرب الأوكرانية رؤية النظرية المعيارية للحرب كمحك رئيسي: أكد الحضور على رؤية النظرية المعيارية و"ألين أ. كوهن" لحالة الحرب كمحك رئيسي للعلاقات المدنية-العسكرية بالتطبيق على الحالتين اليابانية والألمانية. فبينما كانت الدولتان تشهدان سيطرة مدنية واضحة على المكون العسكري استنادًا إلى التجارب التاريخية والقواعد الدستورية الصارمة، إلا أن الحرب الأوكرانية دفعت نحو إعادة النظر في تلك الثوابت الراسخة. فعلى سبيل المثال، تعيد اليابان في الآونة الأخيرة تموضعها السياسي والعسكري بصورة أكبر داخل الأحلاف، مع زيادة الميزانية العسكرية، وإيلاء مزيد من الاهتمام بالتسليح شراءً وتصنيعًا. الأمر الذي يظهر بدرجة أكبر وأكثر وضوحًا في الحالة الألمانية رغم بعض الملاحظات المدنية التي تحاول كبح الإنفاق العسكري المتزايد. وبشكل عام يمكن اعتبار الحرب الأوكرانية نقطة تحول جديدة في العلاقات المدنية-العسكرية حتى في الدول الأوروبية والغربية المستقرة.

و- محورية الدور الخارجي في اضطراب العلاقات المدنية-العسكرية الأفريقية: تشير الخبرة الأفريقية إلى دور محوري لعبته القوى الدولية في اضطراب العلاقات المدنية-العسكرية في الدول الأفريقية، خاصةً أنها باتت أدوار مدشنة أو داعمة لآليات عسكرية جديدة. ولفتت النقاشات إلى أن العامل الخارجي في العديد من الحالات الأفريقية هو عامل ممتد منذ اللحظة الأولى، حيث لعبت الدول الاستعمارية دورًا رئيسيًا في رسم سياسات الدفاع لمرحلة ما بعد الاستقلال، مع تغذية العوامل القبلية والعشائرية، وتطويع القيم لتحقيق المصالح الأجنبية، وممارسة الوصاية على الحكومات الأفريقية. الأمر الذي حد في النهاية من فرص بناء مؤسسات احترافية ودول وطنية. مع الإشارة إلى التنافس الدولي كمدخل تتزايد أهميته لفهم الدور الخارجي في العلاقات المدنية-العسكرية بالقارة في ضوء التنافس بين القوى الدولية على أفريقيا. وكذلك الدور المتزايد الذي تلعبه الشركات العسكرية الخاصة التابعة للدول الكبرى مثل دور شركة "فاجنر" في الدول الأفريقية. مع تفتيت المجتمع إلى مجموعات مصالح وتقسيمات توظفها القوى الدولية في سياستها.

ز- الدور العسكري والأمني لرجال الدين في إيران: بالنظر إلى الأوضاع في الشرق الأوسط تظهر بعض الحالات الاستثنائية التي تشهد ظواهر تبدو غريبة أو غير مألوفة مثل الحالة الإيرانية، التي يلعب فيها بعض رجال الدين دورًا مهمًا في المؤسسات الأمنية والعسكرية. فعلى سبيل المثال يتولى وزارة الاستخبارات الإيرانية رجل دين بحكم القانون، وليس مجرد رجل مدني. كما أن رئاسة استخبارات الحرس الثوري كان يتولاها بحكم العُرف رجل دين. بالإضافة إلى الازدواجية العسكرية بين الجيش والحرس الثوري. وتصدير نمط جديد للعلاقات المدنية-العسكرية في الدول التي تسعى إيران إلى نشر وفرض مشروعها الإقليمي فيها عبر أذرعها العسكرية والتنظيمات والميليشيات التابعة أو الحليفة لها التي تُمثّل قوة موازية أو معطلة في تلك الدول مثل الحوثيين وحزب الله.

ح- استدعاء القوى المدنية العسكريين في حالات الاضطرابات: شهدت الدول العربية والأفريفية بعض الحالات التي استدعت فيها القوى المدنية المؤسسة العسكرية أو انقسمت بين تشكيلات بين تأييد أطراف عسكرية متناحرة مثل الحالة السودانية. وظهر الرهان المدني على التدخل العسكري في لحظات الأزمات كمنقذ أو مخلص كأحد ظواهر وأشكال العلاقات المدنية-العسكرية في حالات عدم الاستقرار.

ط- تطوير نموذج (CSIS) لتطبيقه في حالات عدم الاستقرار مثل ليبيا: تركز الأطروحات الغربية لحالات عدم الاستقرار وخاصة الحالة الليبية الراهنة على بناء الديمقراطية التمثيلية والانتقال الديمقراطي، وتتغافل عن الإشكاليات العديدة التي تعانيها ليبيا، ومن بينها حالة عدم الاستقرار ووضع الميليشيات. وفي هذا الإطار، أشار نقاشات السيمنار إلى النموذج الذي طرحه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) مع الجيش الأمريكي للحالة العراقية باعتباره نموذجًا يمكن البناء عليه وتطويره لتطبيقه في حالات عدم الاستقرار كالحالة الليبية، حيث قام هذا النموذج على تقسيم عملية الإصلاح في حالات عدم الاستقرار إلى 3 مراحل الأولى هي مرحلة ما قبل الانتقال، التي تعد مرحلة تمهيدية تتضمن قرار وقف إطلاق النار ورؤية لخارطة سياسية. ثم المرحلة الانتقالية التي يتم العمل فيها على تجهيز وإصلاح المؤسسات المدنية والعسكرية. ثم أخيرًا مرحلة ما بعد العملية الانتقالية وتسليم السلطة، وتحديد المعايير المناسبة لذلك. ولكن ينبغي تطوير مواطن الضعف في النموذج التي تمثلت في عدد النقاط منها عدم مراعاة العوامل الطائفية في الجانب التعليمي والديني، كما أنه أغفل وجود أدوار خارجية أخرى في الحالة العراقية بخلاف الدور الأمريكي مثل الدور الإيراني.

2- رؤى عامة وخُلاصات نظرية

بلور أعضاء الهيئة العلمية للمركز في مناقشاتهم عدد الرؤى العامة والخلاصات النظرية، ومنها:

أ- التكنولوجيا كمُدخل جديد في العلاقات المدنية-العسكرية: أشار الحضور إلى وجود مُدخلات جديدة تلعب دور في التأثير على العلاقات المدنية-العسكرية مثل وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة بشكلٍ عام. مع التحول إلى توظيف تلك المدخلات وغيرها في تلك العلاقات مثل توظيف التقنيات الحديثة والذكية.

ب- رفض نمط "الإخضاع" بين المكونين المدني والعسكري: هناك تساؤلات حول الشكل الأمثل لإدارة العلاقات المدنية-العسكرية في ضوء أولوية عامل الاستقرار ما بين وجهتي نظر ترى الأولى بأنه لا يجب اخضاع المؤسسة العسكرية لأي سيطرة مدنية من أجل ضمان تحقيق الاستقرار، فيما ترى وجهة النظر المقابلة أن ذلك سيؤدي إلى مزيد من الفوضى والفساد وعدم الاستقرار، وهناك من يرى بأن خضوع المكون المدني للعسكري تمامًا يجنب الدولة الانقسامات السياسية والفوضى وعدم الاستقرار. وهنا جرت الإشارة إلى رفض مبدأ "الإخضاع" كآلية لإدارة العلاقة بين الطرفين أيًا كان الطرف الذي يمارس الإخضاع.

ج- علاقة النظام والقيم السياسية بالتوازن المدني العسكري: هناك حاجة لمزيد من التناول لمسألة علاقة النظام والقيم السياسية الحاكمة للدولة بتحقيق التوازن في العلاقات المدنية-العسكرية، في ظل اعتبار البعض أن الانطباعات بضمانة الديمقراطية لهذا التوازن هو انطباع غير دقيق في ضوء الحالات الديمقراطية التي فشلت في تحقيق هذا التوازن أو إجراء إصلاحات مدنية عسكرية، بل والحالات التي شهدت فيها دول ديمقراطية انقلابات عسكرية أيضًا. بما يعني أن الديمقراطية بحد ذاتها لا تمثّل ضمانة كافية وأن هناك حاجة لمزيد من التحليل لمعايير ومتطلبات وضمانات تحقيق التوازن في إدارة العلاقات المدنية-العسكرية.

د- الرهان على الخبرة التاريخية المتراكمة: يجب الرهان على الخبرة التاريخية المتراكمة وبنائها وتعزيزها، حيث تشير التجارب الدولية إلى أن قوة البيروقراطية والأحزاب والمجتمع المدني تلعب دورًا مساهمًا في تحقيق التوازنات المدنية-العسكرية. وربما تكون الخبرة المتراكمة الطويلة من العوامل المهمة التي تنتج فوارق بين الواقع العربي والأفريقي وبين الواقع الغربي في إدارة العلاقات المدنية-العسكرية، فضلًا عن عوامل الثقافة والهوية.

ه- الحاجة إلى أُطر تنظيرية تراعي الحالات العربية والأفريقية: ثمة إشكالية في تطبيق المفهوم والمنظور الغربي للعلاقات المدنية-العسكرية على الواقع العربي والأفريقي، ولذلك شهد السيمنار دعوة إلى وضع إسهامات تراعي طبيعة وخصوصية الواقع المجتمعي والعلاقات المدنية-العسكرية في الدول العربية والأفريقية، ومنها على سبيل المثال مراعاة تفاصيل المناطقية والعشائرية والقبائلية ودور علاقات المُصاهرة.

و- أهمية دراسة العلاقات المدنية-العسكرية في حالات عدم الاستقرار: اتفقت الهيئة العلمية للمركز على ضرورة إيلاء مزيد من الاهتمام لدراسة العلاقات المدنية-العسكرية في حالات الانتقال السياسي وفي حالات عدم الاستقرار، مع دراسة علاقات عناصر المكونين نفسهما ببعضهما البعض لوجود أنماط مختلفة للعلاقات المدنية المدنية وكذلك داخل العلاقات العسكرية العسكرية، فضلأ عن الأنماط المخلتفة للعلاقات المدنية-العسكرية في حالات عدم الاستقرار والانتقال السياسي

ختامًا، تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز فيما يتعلق بالمدرسة الأمريكية بين مستويي التنظير والممارسة العملية، عبر النظر إلى الدور الذي لعبته البيروقراطية الأمريكية في العلاقات المدنية-العسكرية. حيث امتلكت آليات متنوعة لإدارة هذا الملف والتأثير فيه، وشكّلت على مدار التاريخ خبرة متراكمة تميزت بها التجربة الأمريكية. ورغم الانتقادات العديدة الموجهة للمدرسة الأمريكية في دراسة وتأطير العلاقات المدنية-العسكرية، إلا أن ذلك لا ينفي أنها المدرسة الأهم والمؤسِسة والأكثر إسهامًا في ذلك الحقل. فضلًا عن أن معظم الانتقادات التي وُجهت للنظريات والممارسات التطبيقية الأمريكية جاءت من داخل المعسكر الأمريكي نفسه، في إطار الجدل المستمر داخل الدوائر الأكاديمية والسياسية والعسكرية الأمريكية، والقدرة على النقد الذاتي الذي يُفرز أطروحات نظرية جديدة أو تعديلات في النماذج التطبيقية.