أ. د. حمدي عبد الرحمن حسن

أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة

 

بعد مرور مائة يوم على الصراع الدموي بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، لا يزال الأمل في تحقيق تسوية سلمية بعيد المنال. فقد آلاف الناس أرواحهم ونزح أكثر من 3 ملايين شخص. ونظراً لطبيعة الكر والفر التي تتسم بها حرب المدن، فقد تعرض الطرفان لنكسات كبيرة، في الوقت الذي فقدت فيه القوات المسلحة السيطرة على مناطق مختلفة في السودان. وتثير التوترات الطائفية المعقدة والمصالح السياسية والتحالفات العرقية بين الجماعات المسلحة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق مخاوف مقلقة بشأن احتمال تصاعد الصراع إلى حرب أهلية شاملة في جميع أنحاء السودان. وإذا كان جميع حكام السودان قد جاءوا من النخبة المتمركزة وسط النيل، فإن الاستثناء الوحيد هو الخليفة عبد الله بن محمد التعايشي (1885-1898) الذي جاء من دارفور زمن الدولة المهدية.

وهناك من يرى أن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) يسعى إلى تكرار تجربة الخليفة التعايشي وإعادة سلطة الأطراف السودانية بعد قرن من الزمان، وإبعاد مركز السلطة عن أهل النيل. إذ من الواضح أن هناك محاولات حثيثة لتصوير حميدتي على أنه "بطل المهمشين" و"نصير المحرومين" وأنه سوف يعمل جاهداً على إصلاح دولة 1956 الموروثة عن العهد الاستعماري في السودان. إنها فكرة السودان الجديد العلماني التي رفعها من قبل جون قرنق. 

ومن جانب آخر، لا تزال النظرة السائدة لدى العديد من الأشخاص الذين يعيشون في أطراف السودان تربط بين سكان وادي النيل وبين جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم من الإسلاميين. وهذا ينطبق أيضاً على قادة القوات المسلحة. لذلك يبني حميدتي حملته الدعائية على شعارات محاربة الإسلاميين. هذه الشعارات موجهة أيضاً إلى الخارج وتهدف إلى كسب تعاطف كل من الغرب وكافة الدول المناوئة لحكم الإسلاميين.

مخاوف الحرب الأهلية

لعل التهديد الأخطر الذي يلوح في الأفق بعد دخول الحرب في السودان شهرها الرابع يتمثل في نذر الحرب الأهلية. وفقاً للمبعوث الأممي فولكر بيرتيس، وصل الوضع في السودان إلى نقطة حرجة، حيث يمكن أن يتحول مجرد الخلاف بين جنرالين إلى صراع أيديولوجي وعرقي، مما يدفع بالبلاد إلى الاقتراب من حرب أهلية مدمرة. وقد أدركت كافة مقاربات الأطراف الدولية والإقليمية يما في ذلك آلية مفاوضات جدة والهيئة الحكومية الدولية للتنمية (إيغاد) ودول جوار السودان بالقاهرة، عدم جدوى النصر العسكري لأي طرف معني، وطالبت بالوقف الفوري للأعمال العدائية لبدء عملية سياسية تمس الحاجة إليها. ويمتد خطر نشوب حرب أهلية إلى ما وراء حدود السودان، حيث يمكن أن تنجذب الدول المجاورة إلى الصراع، مما يزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة. ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى تطورين مهمين:

أولاً: فتح جبهات قتال وخط أمامي جديد

منذ أن أعلن فصيل عبد العزيز الحلو المنبثق عن الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، وقف الأعمال العدائية من جانب واحد في يوليو 2019 بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، ظل غير نشط نسبياً في مشهد العنف السياسي في البلاد. إذ أنه خلال الفترة من أغسطس 2019 حتى مايو 2023، سجل مشروع بيانات مواقع النزاع المسلح وأحداثها (ACLED) ثمانية حوادث عنف سياسي فقط تورطت فيها الجماعة. ومع ذلك، في بداية شهر يونيو الماضي (2023)، بدأت تقارير تظهر أن فصيل الحلو قد حاول السيطرة على عدة قواعد للقوات المسلحة السودانية في ولاية جنوب كردفان. وقد عزت هذه الجماعة المسلحة تورطها في الصراع إلى حالة انعدام الأمن الناجم عنه، وبهدف حماية المدنيين كذلك. وتؤكد هجمات فصيل عبدالعزيز الحلو في منطقة النيل الأزرق في 26 يونيو 2023 استمراراً لمكاسبها الاستراتيجية في عشرة مواقع على الأقل داخل الولاية. ورداً على ذلك، شنت القوات المسلحة السودانية غارات جوية في محليتي الدلنج وكادوقلي، استهدفت على الأرجح قوات فصيل الحلو.

والجدير بالذكر كذلك أن جبهة جديدة ظهرت في ولاية النيل الأزرق، حيث نجح فصيل الحلو في السيطرة على قرى في محلية الكرمك في 26 يونيو الماضي، بعد يومين من الاشتباكات مع القوات المسلحة السودانية.  وتسلط هذه الاشتباكات المسلحة الضوء على خطر التصعيد في ولاية النيل الأزرق، التي ظلت مهمشة لفترة طويلة في هذا الصراع. وتجدر الإشارة إلى أن كلاً من ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق لديهما جماعات مسلحة وتعانيان من انقسامات مجتمعية معقدة. إذ يأتي متمردو الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال بشكل أساسي من هاتين الولايتين على طول الحدود مع جنوب السودان. وباعتباره الكتلة المهيمنة عسكرياً على الجماعة، يسيطر فصيل الحلو على مساحة كبيرة من الأراضي. وبالتوازي مع ذلك حشدت قوات الدفاع الشعبي في جنوب كردفان قواتها وجنّدت مجموعات الرعاة العرب مثل المسيرية والحوازمة لمحاربة الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال منذ عام 2011. كما جندت هذه  القوات في النيل الأزرق مجموعات الهوسا والفلاتة العرقية للسبب نفسه.

ثانياً: تعزيز قوات الدعم السريع سيطرتها في دارفور

على مدى الشهر الماضي، تصاعد العنف في دارفور، وامتد إلى مناطق جديدة خارج النقاط الساخنة الأوّلية المسجلة في المراحل الأولى من الصراع. أصبحت ولايات جنوب ووسط دارفور بؤر عنف جديدة، مع اكتساب قوات الدعم السريع موطئ قدم قوياً في المنطقة. وقد انخرطت جهات فاعلة جديدة في الصراع، مع اشتباكات بين قوات الدعم السريع وحركة تحرير السودان / فصيل عبد الواحد محمد نور في وسط دارفور، كما دعا قادة من مجتمعات جنوب دارفور أتباعهم للانضمام إلى القتال ضد القوات المسلحة السودانية. ولا يخفى أن تعزيز النفوذ المتنامي لقوات الدعم السريع في جنوب دارفور بالدعم المعلن من قبل قادة العديد من المجتمعات القبلية قد يؤدي إلى زيادة الانقسامات الطائفية وربما يفضي إلى مزيد من العنف. وقد حدث تطور مقلق يؤثر على الأمن الإقليمي عندما أسفرت اشتباكات بين المليشيات العربية وحركة التحالف السوداني في منطقة شكري عن قيام القوات العسكرية التشادية بقصف مدفعي في 30 يونيو الماضي. ووقع هذا الحادث أثناء نزوح المدنيين إلى تشاد، كما وقعت اشتباكات أخرى بين مسلحين مجهولين وجنود تشاديين بالقرب من بلدة أديكون الحدودية.

أهمية عدم تدويل الحرب في السودان

في مواجهة هذه البانوراما العبثية، تجدر الإشارة إلى أن النزاع في السودان يعتبر نزاعاً مسلحاً غير دولي وفقاً للقانون الإنساني الدولي، لأنه وضع تحارب فيه الجماعات المسلحة داخل نفس الدولة بعضها البعض. وقد نجحت المقاربة المصرية من خلال مؤتمر دول جوار السودان بالقاهرة في إفشال مخطط تدويل الصراع السوداني من قبل مجموعة الإيغاد. ومن المعروف أن السودان صادق على اتفاقيات جنيف الأربع (23 سبتمبر 1957) والبروتوكولين الإضافيين الأول والثاني للاتفاقيات (7 مارس 2006 و13 يوليو 2006 على التوالي). وعليه، يمكن تطبيق المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربعة والبروتوكول الإضافي الثاني فيما يتعلق بتنظيم النزاعات الداخلية.

 وبهذا المعنى، ينبغي توضيح أنه يمكن تنظيم الحرب في السودان بموجب المادة 3 المشتركة والبروتوكول الإضافي الثاني. ولعل الفرق بينهما هو أن البروتوكول يقدم تنظيماً أكثر اكتمالاً لمفهوم النزاع الداخلي، لكن تطبيقه على حالة معينة يخضع لعتبة تطبيق أكثر صرامة. في حالة السودان، هناك استيفاء لمعايير استخدام البروتوكول الإضافي الثاني، وهي كالتالي:

1- الأطراف المتنازعة، وهي القوات المسلحة الوطنية ومليشيا الدعم السريع.

2- لقوات الدعم السريع قيادة مسئولة برئاسة محمد حمدان دقلو.

3- كلا الطرفين لهما سيطرة إقليمية على مناطق معينة من السودان.

4- قيام الأطراف بعمليات عسكرية متواصلة ومنسقة بشكل رئيسي في المدن الكبيرة.

5- لدى كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع القدرة على تطبيق أحكام البروتوكول الإضافي الثاني.

فيما يتعلق بما ورد أعلاه، من الضروري أن نتذكر أن الأطراف المتحاربة في نزاع مسلح مسئولة عن حماية المدنيين في الأراضي والمناطق الخاضعة لسيطرتها. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن القانون الدولي الإنساني لا يقوم على مبدأ المعاملة بالمثل. وبهذا المعنى، إذا فشل أحد الأطراف المتحاربة في الامتثال للأحكام المنصوص عليها في الشرائع الدولية التي تنظم النزاع المسلح، فإن هذا لا يعني أن الطرف الآخر قد يكون غير مدرك لالتزاماته في هذا المجال.

أضف إلى ذلك، يجب مراعاة مبادئ التمييز والإنسانية والتناسب. أولهما ينص على عدم مهاجمة الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية. ووفقاً لمبدأ الإنسانية، يجب احترام جميع الأشخاص (المقاتلين وغير المقاتلين) ومعاملتهم معاملة إنسانية. وأخيراً، ينص مبدأ التناسب على أنه يجب بذل جهد لإيجاد توازن بين تحقيق الأهداف العسكرية والأضرار الناجمة عن ذلك. وبهذا المعنى، يجب الحرص على أن تتسبب الأعمال العسكرية التي يتم القيام بها في إحداث أقل ضرر ممكن من حيث الخسائر في الأرواح البشرية، وعدد الجرحى، والبنية التحتية الحيوية، وما إلى ذلك.

ولعل هذا الفهم هو ما دفع بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة الانتقالية في السودان لإصدار بيانها، في 28 يونيو الماضي، بإدانة تصرفات  بعض الأطراف بقولها: "لا تزال قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها مسئولة عن أعمال العنف ضد المدنيين، والاغتصاب والنهب في المناطق التي يسيطرون عليها، بما في ذلك الخرطوم، والعنف العرقي ضد المدنيين في دارفور(...)".

المباراة الصفرية السالبة

على الرغم من محاولة كل طرف تحقيق انتصار حاسم يعزز من موقفه التفاوضي، فإن تعقيدات الصراع في السودان وتشابك أبعاده تجعلنا أمام أحد تجليات المباراة الصفرية السالبة التي يخسر فيها الجميع. ومن المؤكد أن تطورات الصراع على الأرض متغيرة. ومن غير الواضح كم من الوقت يمكن للقوات حول الجنرالين المتصارعين الصمود دون إمدادات جديدة. وإذ افترضنا سقوط مجمع الجيش، وبقدر ما سيكون ذلك دراماتيكياً، فقد لا تنتهي الحرب، لأن الجيش لا يزال يسيطر على مناطق كبيرة في ضواحي الخرطوم، بما في ذلك مناطق شاسعة من مدينة أم درمان، وكذلك في باقي أنحاء البلاد، لا سيما في الشرق والشمال. وفي المقابل تعاني قوات الدعم السريع من نقاط ضعف خاصة بها، بما في ذلك خطوط الإمداد الملتوية من دارفور في الغرب، وافتقارها إلى القوة الجوية، والعداء العميق الذي تثيره ممارساتها القتالية لدى العديد من السودانيين، بما في ذلك معظم سكان الخرطوم، وهو ما يفقدها الحاضنة الشعبية.

في 17 يوليو الجاري، أصدر حميدتي بياناً أعلن فيه أن "النصر في متناول اليد" وتعهد بالقضاء على المليشيات المرتبطة بالنظام القديم لعمر البشير، والتي تم حشدها إلى جانب الجيش. بخلاف ذلك، يبدو أن مشاة الجيش غير قادرين على حسم المعركة سريعاً، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن القليل من جنوده ينحدرون من مناطق وسط النهر، معقل دعم الجيش. وعليه، فإن حتمية إنهاء هذه الحرب القبيحة لا تحجب حقيقة أن أي وقف لإطلاق النار أو صفقة بين هذين الطرفين المتحاربين سيكون أمراً غير مستساغ لكثير من السودانيين - وقد يكون من الصعب تنفيذه على الأرض. لقد ارتكبت فظائع مروعة. في 28 يونيو الماضي، نشرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين تقريراً تبين فيه ملامح الأزمة الإنسانية التي يشهدها السودان نتيجة لهذه الحرب العبثية. وفي الفترة من 15 أبريل إلى 20 يونيو الماضي، تم الإبلاغ عن 2.48 مليون نازح، منهم 1.97 مليون نازح داخلياً و523 ألف نازح عبر الحدود. وبالمثل، تشير التقديرات إلى أن هناك أكثر من 140 ألف لاجئ وطالب لجوء يفرون من المدن الرئيسية التي يدور فيها النزاع. من ناحية أخرى، يتضمن التقرير المعلومات التي قدمتها وزارة الصحة السودانية، والتي أفادت بوجود ما لا يقل عن 3000 حالة وفاة و6000 إصابة حتى الآن. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هناك احتمالاً كبيراً في أن تكون الأرقام الفعلية أعلى من ذلك بكثير.

وختاماً، فإن موقع السودان الاستراتيجي في أفريقيا يجعل تطور الصراع الحالي أمراً حاسماً لاستقرار القارة. ونظراً لحجمه الكبير وتقسيمه المحتمل وفقاً للسيناريو الليبي، يمكن أن يكون لأزمة السودان تداعيات كارثية على البلدان المجاورة، والتي يعاني الكثير منها بالفعل من تحدياتها الانتقالية الخاصة. وعليه، لا يمكن للمجتمع الدولي أن يتجاهل الوضع المتصاعد ويجب أن يتخذ إجراءات حاسمة لمنع المزيد من التصعيد. ثمة ضرورة لقيام المجتمع الدولي، ولا سيما أوروبا والولايات المتحدة، بالدعم والمشاركة بنشاط في المقاربات المصرية والأفريقية الداعية إلى وقف فوري للأعمال العدائية. كما تتطلب الأزمة الإنسانية المستمرة في السودان مساعدات كبيرة داخل البلاد وفي الدول المجاورة مثل تشاد ومصر وجنوب السودان وإثيوبيا، والتي تستوعب بالفعل عدداً كبيراً من اللاجئين السودانيين. وإلى حين التوصل إلى تسوية تفاوضية، تقع على عاتق كل من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع مسئوليات بموجب القانون الإنساني الدولي يجب مراعاتها والامتثال لها. لهذا السبب، من المهم أن نظل جميعاً، بصفتنا جزءاً من المجتمع الدولي، يقظين ومهتمين بما يحدث، وأن نبذل قصارى جهدنا لفهم تداعيات الوضع الخطير الذي يمر به السودان،  والمساعدة في التوصل لتسوية سلمية تفاوضية. يتطلب الوضع المأزوم العمل الجماعي والتضامن لمنع المزيد من إراقة الدماء ومساعدة السودان على رسم طريق نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.