بادرت مصر بحكم ثقلها الإقليمي والدولي باستضافة مؤتمر قمة يوم الخميس 13 يوليو 2023 بمشاركة جميع الدول المجاورة للسودان. وقد تمثل الهدف الأساسي للمؤتمر في استكشاف الحلول والسبل المناسبة لإنهاء الصراع الدموي الذي تشهده السودان منذ نحو ثلاثة أشهر والتخفيف من عواقبه السلبية على دول الجوار.
ولعل النقطة الفارقة في هذا المؤتمر تتمثل في إنشاء آليات فعالة تعزز الحل السلمي للأزمة في السودان، بالتعاون مع أصحاب المصلحة الإقليميين والدوليين. ومن الواضح أن الرئيس عبد الفتاح السيسي اقترح هذه المبادرة المصرية بعد تعثر سلسلة من المساعي الدبلوماسية الإقليمية والدولية الهادفة إلى تحقيق وقف دائم لإطلاق النار.
ومن المأمول ترتيب اجتماع في الأسابيع المقبلة يجمع كبار المسئولين من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. بالإضافة إلى ذلك، يتم تسهيل التوصل إلى اتفاق ملزم لوقف مستدام لإطلاق النار بين الأطراف المتصارعة في السودان، لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر. ويسعى هذا المقال إلى التعرف على طبيعة وأهمية المبادرة المصرية في سياق تضارب المصالح وصراع الإرادات التي تتسم بها المبادرات الدبلوماسية الأخرى.
تضارب المبادرات الدبلوماسية
على الرغم من تعدد الجهود الدبلوماسية لمعالجة الأزمة في السودان، فإن هناك عدم توافق في الآراء بصددها، كما أن لكل منها نهجها وأهدافها الخاصة وذلك على النحو التالي:
1- محادثات وقف إطلاق النار الأمريكية والسعودية: منذ الأسبوع الثاني من الصراع، ترعى كل من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مفاوضات وقف إطلاق النار في جدة بالمملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من المحاولات المتعددة، لم يتحقق وقف إطلاق النار بعد. وتخطط الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لاقتراح مبادرة جديدة قريباً. ومع ذلك، فإن "نهج هامبتي دمبتي الدبلوماسي" الذي هيمن على السياسة الأمريكية تجاه السودان منذ انقلاب أكتوبر 2021 لا يجدي نفعاً. وهذا المصطلح المجازي يصف عادة نهجاً أو استراتيجية دبلوماسية معينة تتضمن محاولة إصلاح أو حل موقف معقد أو نزاع في وضع هش أو حالة غير مستقرة، على غرار الطريقة التي يحاول بها المرء إعادة الأجزاء المكسورة من قشر البيض معاً. لن يتم إنهاء الحرب في السودان بإصلاحات سريعة. كما أن الدعم السطحي والمتسرع من قوى مدنية وسياسية سودانية معينة، فضلاً عن المنظمات الإقليمية والدولية المتحمسة للانضمام إلى الجهود التابعة للولايات المتحدة، لا يساعد أيضاً. إن الوضع الحالي في السودان أخطر وأكثر تعقيداً من السماح بفشل آخر لجهود استعادة السلام والاستقرار والانتقال الديمقراطي المدني إلى البلاد.
2- مبادرة مجموعة الإيجاد: منذ أكثر من شهر، وبسبب عدم رضاهم عن استجابة الاتحاد الأفريقي المحدودة للأزمة، بدأ قادة شرق إفريقيا خطتهم الخاصة تحت رعاية الهيئة الإقليمية "إيجاد". فقد تم تعيين لجنة رباعية مؤلفة من قادة كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان وجيبوتي وبرئاسة الرئيس الكيني وليم روتو لمتابعة وقف إطلاق النار، ووصول المساعدات الإنسانية، والحوار السياسي، بهدف إعادة انتقال السودان إلى الديمقراطية.
وقد اتخذت اللجنة الرباعية للزعماء، المنعقدة في أديس أبابا بإثيوبيا، يوم الاثنين 10 يوليو 2023، خطوات من شأنها تدويل الأزمة السودانية وتكوين قوة تدخل داخل الخرطوم، حيث تتألف خطة "إيجاد" من مسارات ثلاثة: يتمثل أولها، في تنظيم قوة تدخل إقليمية لمنع عسكرة الخرطوم وحماية المدنيين وربما يعكس ذلك توجهاً إثيوبياً منحازاً، حيث وصف رئيس الوزراء آبي أحمد الوضع في السودان بأنه يعاني من فراغ في القيادة. وينصرف ثانيها، إلى التعاون مع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لترتيب لقاء وجهاً لوجه بين كل من البرهان وحميدتي، من أجل تأمين وقف مستدام لإطلاق النار. ويستلزم ثالثها، بدء عملية سياسية شاملة بحلول شهر أغسطس القادم، الأمر الذي يتطلب تمكين القوى السياسية المدنية (قوى الحرية والتغيير بالأساس) من التأثير بشكل كبير خلال المفاوضات، كجزء من الجهود المبذولة لاستعادة مسار السودان إلى الديمقراطية.
ومع ذلك، رفض الفريق البرهان مبادرة اللجنة الرباعية التابعة لمنظمة "إيجاد"، نظراً لتحيز الرئيس روتو تجاه قوات الدعم السريع، واتهام بعض قادة الأحزاب المدنية بالانحياز إلى جانب حميدتي، وهو ما ظهر واضحاً من خلال حضور مندوب من قوات الدعم السريع اجتماع قمة أديس أبابا بشأن السودان وفي المقابل امتناع الجيش السوداني عن المشاركة.
3- تهميش دور الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة: على الرغم من الترويج لشعار "حلول أفريقية لمشكلات أفريقية"، فإنه طوال أزمة السودان المستمرة، طغى دور الولايات المتحدة على دور المنظمة الأممية الأفريقية التي اتخذت موقف المتفرج. وبعيداً عن تنسيق وقيادة التدخل الشامل، فإن كل ما تمكن الاتحاد الأفريقي من القيام به حتى الآن هو إصدار بضع عبارات عامة والتعبير عن قلق أجوف بشأن معاناة المدنيين في السودان.
وفي السياق نفسه، تم تهميش دور الأمم المتحدة، حيث تم اختيار ممثلها الخاص للسودان فولكر بيرثيس، في المقام الأول لخبرته التقنية في دعم بناء المؤسسات خلال عمليات الانتقال الفاشل إلى الديمقراطية، وهو لا يمتلك أي قدرة على التوسط في صراع عنيف كذلك الذي تشهده السودان.
علاوة على ذلك، فقد أعلنت الحكومة السودانية بيرثيس شخصاً غير مرغوب فيه. وعليه، فقد أضحت الأمم المتحدة طرفاً غير مرحب به نظراً لشعور العديد من المواطنين السودانيين بخيبة أمل من إخفاقاتها المستمرة في السودان، ومن ثم لا يوجد تأييد سوداني لقيام الأمم المتحدة بقيادة الجهود الدبلوماسية.
وبالمثل، يشعر السودانيون بالقلق من أن انشغال الدول الأوروبية بقضايا الهجرة يعني أنها ستتعامل بشكل انتهازي مع أي زعيم يعد بوقف النزوح الجماعي وهو ما يجعلها طرفاً منحازاً. ويلوم بعض السودانيين الدول الأوروبية على دعمها لقوات الدعم السريع في الماضي، زاعمين أنها جزء من خطة للسيطرة على حدود البلاد لتجنب التحديات الأمنية في دول الساحل الأفريقي.
وقد انضمت المملكة المتحدة للسياسة الأمريكية، حيث فرضت عقوبات على ثلاث شركات مرتبطة بالقوات المسلحة السودانية وثلاث شركات تابعة لقوات الدعم السريع. ولعل هذه الإجراءات تحتل قيمة رمزية كما أنها لا تطرح قضية الحكومة الشرعية ودعم مؤسسات الدولة الرسمية في السودان.
القاهرة مفتاح الحل
لعل أهم ما يميز المبادرة المصرية أنها أفضت إلى انعقاد قمة برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي، جمعت كافة دول جوار السودان في القاهرة من أجل تحقيق تسوية سلمية في السودان. وكان من بين القادة المشاركين رئيس وزراء إثيوبيا ورئيس مجلس الدولة الليبي بالإضافة إلى رؤساء جنوب السودان وتشاد وإريتريا وجمهورية إفريقيا الوسطى. لقد كان الاجتماع بمثابة منصة للرئيس السيسي لعرض رؤيته الشاملة وغير المنحازة لحل الأزمة في السودان.
أوضح الرئيس السيسي عدة عناصر رئيسية لحله المقترح والتي عكسها البيان الختامي للقمة، وتتمثل في:
1- اتفاق وقف إطلاق النار طويل الأمد: شدد الرئيس السيسي على الحاجة إلى وقف إطلاق نار مستدام ودائم في السودان. وتهدف هذه الاتفاقية إلى وقف العنف المستمر وتوفير أساس لجهود بناء السلام.
2- ممرات إنسانية آمنة: تم تسليط الضوء على إنشاء ممرات إنسانية آمنة كعنصر حاسم في المبادرة المصرية. وسوف تسهل هذه الممرات التسليم الآمن للمساعدات الإنسانية للمدنيين المتضررين من الأزمة، مما يضمن وصول المساعدات الأساسية إلى المحتاجين.
3- إطار للمفاوضات: شدد الرئيس السيسي على أهمية وضع إطار للمفاوضات تشارك فيه جميع القوى السياسية في السودان. ويهدف هذا النهج الشامل إلى توفير منصة للحوار الهادف والمشاركة السياسية بين مختلف أصحاب المصلحة داخل السودان لمعالجة الأسباب الكامنة وراء الأزمة والعمل من أجل حل مستدام.
4- آلية الاتصال: تقترح الخطة إنشاء آلية للتواصل الفعال مع الأطراف المتحاربة لتسهيل المفاوضات وبناء الثقة.
ولا يخفى أن المبادرة المصرية تدرك يقيناً أهمية التعاون الإقليمي والمشاركة في إيجاد تسوية سلمية في السودان. ومن خلال الجمع بين قادة الدول المجاورة، هدفت القمة في القاهرة إلى تعزيز الحوار والتنسيق بين أصحاب المصلحة الرئيسيين الذين لديهم مصلحة راسخة في استقرار المنطقة وأمنها. وتسعى المبادرة المصرية إلى إعادة تأكيد دور مصر في حل الأزمة السودانية وحماية وحدة البلاد ومؤسساتها من التدخلات الخارجية.
الأهمية والدلالات
لعل السؤال المطروح دوماً هو: لماذا ينبغي أن يكون مفتاح الحل في السودان في القاهرة وليس أي عاصمة إقليمية أخرى؟
يقيناً، لا تمتلك مصر ترف الوقوف موقف المتفرج على الرغم من التحديات الجسام التي تواجهها على الصعيدين الداخلي والإقليمي. تشترك مصر والسودان ثقافياً واجتماعياً، وفي الحدود والتحالفات والمصالح الإقليمية لعدة قرون. كما أن للصراع الحالي في السودان تداعيات كبيرة على مصر، لا سيما فيما يتعلق بالموارد المائية والأمن الإقليمي. لقد أصبح نهر النيل، وهو شريان الحياة لإمدادات المياه والزراعة والنقل لكلا البلدين، مصدر قلق وتهديد بسبب الخلافات حول سد النهضة الإثيوبي. وأدى ذلك إلى توتر العلاقات بين مصر والسودان وإثيوبيا. وعليه يتوجب على مصر أن تدافع عن أمنها المائي في مواجهة عوامل مثل الزيادة السكانية وتغير المناخ والعواقب المحتملة لسد النهضة. بالإضافة إلى ذلك، تكافح مصر مع تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين السودانيين، فضلا عن وجود نحو خمسة ملايين سوداني يعيشون بين أهلهم في مصر، مما يزيد الضغط على اقتصادها ومواردها المحدودة. ولعل ذلك كله يؤكد أهمية المقاربة المصرية والجهود التعاونية لإيجاد حل للصراع.
وعلى عكس بعض الأطراف الأخرى التي تنطلق من مصالح أنانية ومنحازة، تمتلك مصر قنوات اتصال بمعظم الأطراف الفاعلة في المشهد الأمني والسياسي في السودان، فضلاً عن إمكانية توفير كافة المساعدات اللوجستية للتوصل لحل سلمي ومستدام للصراع في السودان.
لقد مهدت مصر الطريق بالفعل لعقد المؤتمر من خلال تحركاتها الدبلوماسية واتصالاتها منذ بداية الحرب. ويشمل ذلك الاتصالات الدبلوماسية مع الأطراف المتصارعة والزيارات المبكرة لوزير الخارجية سامح شكري، إلى دول الجوار، ولا سيما جنوب السودان وتشاد. وتشير هذه الجهود إلى استعدادات مصر لهذه القمة. كما استضافت القاهرة ورش عمل للقوى المدنية والأحزاب السودانية، بحثاً عن حلول لتعقيدات المرحلة الأخيرة من العملية السياسية بعد توقيع الاتفاق الإطاري السياسي. ولعل ذلك كله يدل على فهم مصر الجيد لأبعاد الأزمة وجذورها، وكذلك إدراكها لتطوراتها. وهذا ما يجعل لقمة القاهرة دلالتها الخاصة بسبب موقفها المتوازن وترحيب أطراف الصراع بها. ولعل ذلك كله يؤكد ما تغنى به الراحل عبدالكريم الكابلي: مصر يا أخت بلادي يا شقيقةْ يا رياضاً عذبة النبع وريقة.
وأخيراً، هناك مخاوف بين بعض الدوائر الدبلوماسية من أن عمليات السلام الأفريقية والعربية المتنافسة ستقوض بعضها البعض. ولعل ذلك هو ما يجعل خطة السلام المصرية التي دعمتها دول الجوار السوداني الأكثر طموحاً وشمولية حتى الآن، كما أن مصر تعتزم الاستفادة من علاقاتها الطويلة مع القادة العسكريين وزعماء الحركات المسلحة لعقد اجتماعات مباشرة ودفع وقف إطلاق النار وأهداف المساعدة في الوصول إلى حل سلمي مستدام.
لكن لا تزال هناك عقبات عديدة على طريق السلام، لا سيما عدم استعداد الفصائل المتحاربة لقبول فكرة عدم وجود حل عسكري للصراع. كما أن ميل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى التوافق مع مبادرة "إيجاد" الإقليمية، التي تدعو إلى تدخل عسكري محتمل يتعارض مع فلسفة المبادرة المصرية التي تؤكد على عدم التدخل الخارجي والدفاع عن سيادة السودان.
ولعل ذلك يظهر بجلاء كيف أثرت العلاقات المتوترة بين مصر وإثيوبيا بسبب الخلاف على سد النهضة الإثيوبي على الديناميكيات المحيطة بالأزمة السودانية. وبشكل عام، تسعى الخطة المصرية إلى معالجة الأزمة في السودان من خلال إشراك القادة الإقليميين، وتعزيز الحوار، وإقرار وقف إطلاق النار والوصول إلى المساعدات دون تدويل الأزمة وعسكرتها.