عقد مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، في 22 يونيو 2023، ورشة عمل حول تطورات الصراع السوداني الذي اندلع منذ أبريل 2023، لتحليل المشهد العسكري الميداني والعملياتي في الساحة السودانية، وانعكاساته على الأمن القومي المصري، واستكشاف مستقبل الدولة السودانية في ظل السيناريوهات المختلفة للأزمة. وشارك في هذه الورشة عدد من الخبراء والباحثين بالمركز ومن خارجه.
أولًا: دوافع أطراف الصراع واستراتيجياتهم
طرحت الأزمة السودانية مجموعة من التساؤلات حول توازنات القوى السودانية؛ العسكرية والمدنية، ومستقبل الدولة في ظلها، وإلى أي حد تمثل السودان مرآة عاكسة لحالة الدولة الوطنية في أفريقيا والمنطقة العربية، لا سيما أن الأزمة فجرت بالأساس معضلة بناء الدولة، التي واجهتها كثير من الدول الأفريقية والعربية على مدار العقود الماضية، فضلا عن ما طرحته الأزمة من علامات استفهام حول ما إن كانت مندفعة بالصراع على الموارد؟ أم أنها تستبطن مساعي لإعادة هندسة المنطقة؟ وإلى أي حد ينعكس التوافق أو التنافس بين القوى الإقليمية على هذه الحرب؟
تطرق المشاركون في هذا السياق إلى أزمات بناء الدولة الوطنية في العالم العربي، والتي تتمثل بالأساس في طبيعة العلاقات المدنية- المدنية، والمدنية- العسكرية، والدينية- العلمانية، فضلا عن التقسيمات المجتمعية العشائرية والقبلية والعرقية. وتعتبر الحالة السودانية جامعة لكل تلك التناقضات، ما يجعلها أكثر تأزمًا، وهو ما يمكن أن يفسر حدة الأزمة الراهنة وتطورها. كما تطرح الأزمة الراهنة بالسودان التساؤل حول مدى توافر الفرصة لتجاوز الأزمة وتسويتها في المستقبل، أم أن مشروع بناء الدولة الوطنية في السودان قد فشل بشكل نهائي؟
وتطرق المشاركون لأسباب أزمة السودان الممتدة منذ استقلاله، في ضوء عدم استقرار العلاقات المدنية- العسكرية منذ خمسينات القرن الماضي، والتفاعلات المضطربة بين القوى السودانية التي بلغت أحيانا ما يشبه بحالة ثأرية، في بلد تضم أكثر من 400 قبيلة، وسط تعدد لغوي وانقسام عرقي؛ يجعل التفاعلات فيما بينها تتسم بدرجة كبيرة من التعقيد، في ظل ممارسة التعبئة والحشد للمناصرين.
على جانب آخر، تبلورت أزمات السودان عقب الإطاحة بنظام الإنقاذ في أبريل 2019 في غياب الكفاءة والخبرة لدى نخبة المرحلة الانتقالية، التي تصدرت المشهد بشكل مفاجئ، مهد له تجريف الرئيس السابق للحياة السياسية في بلاده على مدار ثلاثة عقود، مما أطلق طموحا جامحا للوصول إلى السلطة لدى القادمين الجدد؛ فانقسم المكون المدني ونواته الصلبة من تجمع المهنيين على إثر خلافات بينهم، حرمتهم من تأسيس تحالف سياسي قوي، وأسهم انقسام القوات العسكرية إلى حوالي 9 "جيوش" متباينة القوة والتأثير في اختلال المشهد الأمني وفي إضعافها جميعا.
ولا يزال تأثير الاعتبارات السياسية غير واضح بشكل كامل، في ضوء فشل النخبة الحاكمة في إدارة المشهد السياسي بعد أحداث 2019، واندلاع الصراع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع. الأمر الذي قلّل من فرص نجاح الهدنات التي تم طرحها منذ منتصف أبريل 2023، مع إصرار كل طرف على حسم المعركة عسكريًّا دون إتاحة الفرصة للتسوية، بما جعل الصراع بمثابة مباراة صفرية، ساعد على ذلك موقف طرفي الصراع من بعض الوسطاء الإقليميين، لا سيما عقب رفض الجيش للوساطة الكينية بسبب اتهامات لنيروبي بالتقارب مع قادة الدعم السريع، مع غياب الرؤية لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار. ولقد جعل كل ذلك من الصعب التنبؤ بمخرج يؤدي إلى تسوية في المدى المنظور.
فيما يخص التطورات في المسرح العملياتي، أوضح المشاركون أن حسم المعركة عسكريًّا لمصلحة أحد أطرافها يبدو صعبًا في المرحلة الراهنة، في ضوء تعقد المشهد العسكري، وما تشهده البلاد من تحديات أمنية واستقطاب داخلي معقد، وتحولات مسار الصراع في ضوء الوتيرة السريعة للحرب، وبروز النمط الهجين من الحروب، الذي يشهد الانخراط الكثيف للقوات النظامية واللانظامية. وسط ذلك، تتزايد المخاوف من توسع الحرب وانتقالها من مركز الدولة إلى أطرافها، خاصة أن العوامل المجتمعية تحفز احتدام الحرب في بعض المناطق مثل غرب السودان.
وتطرق النقاش إلى صعوبات تنفيذ مشروع الدمج العسكري لقوات الدعم السريع في الجيش، حتى في ظل التسوية، ما قد يكون دافعًا لاستمرار الصراع حتى القضاء على الآخر بشكل نهائي. يشجع على ذلك تعدد الأطراف الإقليمية المتداخلة، وتزايد احتمال انتعاش حروب الوكالة.
ثانيًّا: الحسابات الدولية والعربية في الأزمة
يمثل السودان واحدة من أهم نقاط التنافس الدولي في القارة السمراء، في ضوء ما يتمتع به من أهمية حيوية بفضل تموضعه الجيواستراتيجي، كجزء من منطقتين مهمتين للبحر الأحمر والقرن الأفريقي، بما يمنحه ثقلًا مهمًا في الحسابات الإقليمية والدولية، يعززه وجود مضيق باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وقناة السويس في الشمال. فضلا عن ذلك يربط السودان بين عدد من المناطق الاستراتيجية مثل شرق أفريقيا -بما في ذلك القرن الأفريقي- ومنطقة الساحل والصحراء، إضافة إلى الشرق الأوسط والخليج العربي والمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، ما يجعل السودان مدخلًا مناسبًا لأفريقيا جنوب الصحراء، ويجعله بمثابة حلقة وصل تربط بين شمال القارة وجنوبها، علاوة على كونه بوابة مركزية لشرق ووسط وغرب أفريقيا، لا سيما أنه يجاور دولًا محورية هي: مصر وليبيا وإثيوبيا وجنوب السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى.
ولا يُعد المشهد الحالي للتداعي الدولي على السودان جديدًا، فقد تقارب السودان مع الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالتزامن مع خطوات متقدمة في التطبيع السوداني الإسرائيلي، وصولًا إلى رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب عام 2020. كما حاولت موسكو تعزيز حضورها في الساحة السودانية، في ضوء مساعيها للتمدد من ليبيا مرورًا بالسودان -وبخاصة دارفور غربًا- وشمال تشاد، ووصولًا إلى أفريقيا الوسطى بالإضافة إلى مالي وبوركينا فاسو في الساحل. ولقد عززت روسيا حضورها في السودان من خلال نشاط مجموعة فاجنر الأمنية، إلى جانب محاولات روسية لإقامة قاعدة عسكرية في ميناء بورتسودان منذ عام 2017. ولدى الصين اهتمامات اقتصادية في السودان الذي يتمتع بوفرة في الثروات والموارد الطبيعية على رأسها النفط. ويزداد الاهتمام الأوروبي بالسودان مع تصاعد قلق الأوروبيين من الهجرة غير الشرعية من أفريقيا وعبر السودان ومنها وإلى البحر الأبيض المتوسط، وهو الملف الذي يطرح تهديدات أمنية بالغة الخطورة على القارة الأوروبية.
وعلى صعيد الموقف العربي، أشار المشاركون إلى أن أزمة السودان أتت في مرحلة صعبة من أزمات الدول العربية بشكل عام، في ظل تفاوت خبرات التدخل العسكري العربية عقب الثورات منذ 2011، وتباين مستويات الانخراط العربي في الشأن السوداني في ضوء حسابات المصالح الوطنية لكل دولة، وهو ما انعكس في المواقف العربية من الصراع. وهنا يبرز موقفان عربيان أساسيان، على النحو التالي:
1- دول الجوار العربي المباشر: وتتمثل بالأساس في مصر وليبيا؛ فبشكل عام ترجح الرؤية الليبية (شرقا وغربا) أن ليبيا ستعاني من التداعيات السلبية للأزمة السودانية، سواء في حالة استمرارها أو تسويتها. وقد حذر وزير الدفاع الليبي السابق محمد محمود البرغثي «من أن ما يحدث بالسودان -بغض النظر عن نتائجه النهائية- سينعكس على الأوضاع في ليبيا، نظراً لوجود حدود مشتركة هشة أمنياً»، وأكد "أن عناصر الفريق الخاسر بهذا الصراع قد يجدون بليبيا ملاذاً آمناً وينطلقون منها نحو الأراضي الليبية».
2- دول الجوار العربي غير المباشر: وتتمثل في: السعودية والإمارات وقطر؛ فهناك مصالح متنامية للدول الخليجية الثلاث في السودان، يتمثل أبرزها في تعزيز الاستثمارات الزراعية وتحقيق الأمن الغذائي. وقد أبرمت الدول الثلاث اتفاقات مختلفة، لزراعة ملايين الأفدنة بمليارات الدولارات. بالإضافة إلى هدف الوجود في منطقة البحر الأحمر من خلال تطوير وإدارة الموانئ على الشاطئ الأفريقي منه، ومنها الموانئ السودانية. وفي ديسمبر 2022 وقعت موانئ دبي العالمية اتفاقًا مع السودان لتطوير ميناء أبو عمامة السوداني على ساحل البحر الأحمر. وفي مارس 2018 وقعت قطر والسودان اتفاقا بقيمة 4 مليارات دولار لتطوير ميناء سواكن. وتتنامي المخاوف الخليجية تجاه احتمالات تأسيس بعض القوى الدولية والإقليمية قواعد عسكرية في ميناء بورتسودان، بما يعزز النفوذ الإقليمي والدولي في هذه المنطقة الحيوية للأمن الخليجي. إلى جانب ذلك، يأتي الاهتمام بالتنافس على الموارد والثروات لا سيما الذهب، كما يعد السودان بمثابة محطة خليجية مهمة للوصول إلى العمق الأفريقي.
ثالثًا: تأثيرات الأزمة السودانية على مصر
أكد المشاركون أن الصراع السوداني يُلقي بكثير من الأعباء الاستراتيجية على المصالح المصرية، التي تواجه تحديات خطيرة خلال السنوات الأخيرة، ما يستوجب بلورة سياسة مصرية مرنة فيما يتعلق بالأزمة السودانية. واعتبر البعض أن الأزمة تشكل فرصة لتغيير الإدراك الذهني بين قطاعات من الشعبين المصري والسوداني، لا سيما أن مصر تستقبل أعدادا كبيرة من اللاجئين السودانيين منذ تفجر الأزمة في أبريل 2023.
تضمنت ورشة العمل جلستين رئيسيتين. ناقشت الأولى "الصراع المسلح... الدوافع والاستراتيجيات"، حيث قدمت د. أماني الطويل، المستشار الأكاديمي بالمركز، مداخلة تحت عنوان "أطراف الصراع والمعادلات الداخلية في الأزمة السودانية"، وقدم الأستاذ/ أحمد عليبه، الخبير بالمركز، مداخلة تحت عنوان "إستراتيجيات الفاعلين.. لماذا فشل الحسم العسكري حتى الآن؟"، وقدمت د. أميرة محمد عبد الحليم، الخبيرة بالمركز، مداخلة تحت عنوان "فرص التسوية وأسباب فشل الهدنات والمبادرات"، تلاها تعقيبان رئيسان من د. محمد عز العرب، الخبير بالمركز،، ود. رانيا حسين خفاجة، مدرس العلوم السياسية بكلية الدراسات الأفريقية العليا،، ورأس الجلسة د. وحيد عبد المجيد، المستشار الأكاديمي بالمركز. وناقشت الجلسة الثانية الحسابات الإقليمية والدولية، حيث قدم د. أحمد أمل، أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية الدراسات الأفريقية العليا، مداخلة تحت عنوان "الصراعات الدولية حول الذهب والنفط والأراضي والمواني"، وقدم د. معتز سلامة، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، مداخلة تحت عنوان "حسابات المصالح.. لماذا يختلف العرب حول السودان؟"، وقدم د. أيمن السيد عبد الوهاب، نائب مدير المركز مداخلة تحت عنوان "تداعيات الأزمة السودانية على مصر". تلي ذلك تعقيبان رئيسان من د. السيد فليفل، أستاذ التاريخ والعميد الأسبق لكلية الدراسات الأفريقية العليا، ود. راوية توفيق، أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. ورأس الجلسة د. عمرو الشوبكي، المستشار الأكاديمي بالمركز.