سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

رغم حادث الدهس والطعن الذي وقع اليوم -4 يوليو 2023- في تل أبيب والذي نفذه مواطن من الضفة الغربية وأدى إلى جرح ثمانية أشخاص، إلا أنه من السابق لأوانه الحديث عن تصعيد أكبر بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية رغم تبني حماس للعملية وتبريرها بالرد على ممارسات قوات الاحتلال في جنين، حيث يرتهن التصعيد بشكل أكبر بقيام حركتى حماس والجهاد بإطلاق الصواريخ من غزة. أما عمليات الدهس أو الطعن التي يقوم بها أفراد فترتب في الغالب إجراءات مختلفة مثل تشديد الحصار على جنين، والذي بدأ قبل يوم واحد من الحادث، أو تنفيذ عمليات اغتيال لقيادات من حماس والجهاد في الضفة، ومنع العمال الفلسطينيين من الدخول لإسرائيل لفترة من الزمن. وفي كل الأحوال، ستمضي العملية العسكرية التي بدأتها إسرائيل على حالها في إطار الأهداف التي تحددت مسبقاً من جانب أجهزة الأمن وقوات الاحتلال الإسرائيلي.

فقد بدأت إسرائيل، في 3 يوليو الجاري، عملية عسكرية خاصة تستهدف -حسب البيانات الرسمية- تفكيك ما تسميه بـ"البؤر الإرهابية" في الضفة الغربية، خاصة في مدينة جنين. وعلى الرغم من أن بعض المصادر الأمنية في إسرائيل أشارت إلى أن الإعداد لهذه العملية يعود إلى أكثر من عام، إلا أن قرار تنفيذها تمت المصادقة عليه من جانب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو منذ عشرة أيام فقط.

وبافتراض صحة هذه المعلومات، فما هي العناصر التي حكمت توقيت إطلاق العملية، وما هو المدى الزمني المحتمل لاستمرارها؟

الدواعي الأمنية والسياسية لإطلاق العملية

منذ عام 2008 وحتى عام 2019، شكّل قطاع غزة، وفقاً للرؤية الإسرائيلية، المصدر الرئيسي لتهديد الأمن الإسرائيلي، خاصة بعد أن تسبب الدمار الهائل الذي أحدثته إسرائيل في لبنان عام 2006 (أثناء حربها مع حزب الله)، في ردع حزب الله عن محاولة تكرار الاشتباك مع إسرائيل على نطاق واسع. أيضاً ورغم الوجود المحسوس لحماس ولحركة الجهاد الفلسطينيتين في الضفة الغربية، إلا أن كلا التنظيمين لم يحاولا الانطلاق ببعض العمليات الكبيرة من هناك، نظراً للتنسيق الأمني الذي كان وما يزال قائماً بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل من جانب، والخوف من رد فعل إسرائيلي واسع النطاق في حالة استخدام الضفة كمنصة للانطلاق ضد إسرائيل من جانب آخر، والذي كان يمكن أن يصل إلى حد أن تتخذ إسرائيل قرارها بإنهاء حكم حماس في غزة، مهما كانت التكلفة العسكرية والسياسية والبشرية لهذا القرار. 

في هذا الإطار، بنت إسرائيل استراتيجيتها على قاعدتين: الأولى، توجيه ضربات قوية للبنى العسكرية التحتية لحماس والجهاد كلما نشبت المواجهات بينهما وبين إسرائيل، بما يضمن على الأقل تباعد الفترات الزمنية التي تفصل بين كل مواجهة وأخرى من هذا النوع على أمل تلاشيها في النهاية.

والثانية، محاولة الإيقاع بين حماس والجهاد لتفكيك جبهة المقاومة الموحدة. ويمكن القول إن إسرائيل قد نجحت إلى حد ما في كلا الجانبين، فقد تراجعت وتيرة المواجهات الكبرى مع حركات المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس منذ عام 2014، وأصبح عمر المواجهات قصيراً بشكل ملموس مع تباعد الفترات التي تفصل كل مواجهة عن الأخرى. وبمعنى آخر، يمكن اعتبار المواجهة التي دارت عام 2014 بين الجانبين والتي استمرت أكثر من شهر هى آخر مواجهة كبرى بين الطرفين، وإن كان ذلك لم يمنع من نشوب مواجهات منخفضة الحدة وقصيرة المدى منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.

على الجانب الآخر، نجحت إسرائيل في زرع الشكوك في حركة حماس من جانب تنظيم الجهاد، الذي وجد نفسه منذ عام 2019 وحده في القتال مع إسرائيل لثلاث مرات متوالية بدأت في ذلك العام، مروراً بمواجهة أخرى في أغسطس عام 2022، ومواجهة ثالثة في مايو الماضي.  

في كل تلك السوابق، كانت إسرائيل حريصة على الإعلان عن عدم رغبتها في التصعيد مع حماس، وأن أهدافها تقتصر على "معاقبة" الجهاد على بعض تحركاته باغتيال عدد من قياداته.

نجاح إسرائيل في تنفيذ استراتيجيتها السابقة وتقليل مساحة عمل منظمات المقاومة من غزة، دفع قادة حماس والجهاد لمحاولة الضغط على إسرائيل بأساليب جديدة ومن داخل الضفة نفسها، حيث تم استهداف المستوطنين في الضفة الغربية بعمليات إطلاق نار على سياراتهم أو دفع بعض الأفراد لقتل الجنود الإسرائيليين أثناء توجههم إلى وحداتهم العسكرية، أو تنفيذ عمليات دهس وطعن بالسلاح الأبيض في المدن الإسرائيلية داخل الخط الأخضر، وكانت كل تلك العمليات تنطلق من الضفة الغربية المحتلة وخاصة من مخيم جنين. وتشير الإحصاءات إلى أن الفترة من فبراير 2022 وحتى يونيو من العام الجاري قد شهدت سقوط 56 قتيلاً إسرائيلياً بسبب هذه العمليات سواء داخل الضفة أو في المدن الإسرائيلية من جانب فلسطينيين ينطلقون منها.

إذا كانت هذه هي الدواعي الأمنية الملحة التي دفعت إسرائيل لشن حملتها الحالية في جنين، فإن الدواعي السياسية وراء العملية تبدو متنوعة وأكثر تأثيراً، وخاصة التوترات داخل الائتلاف الحاكم الذي يقوده نتنياهو. فللمرة الأولى في تاريخ الائتلافات الحكومية الإسرائيلية تحتل أحزاب الحريديم (المتشددة دينياً) والأحزاب الصهيونية-الدينية (أحزاب المستوطنين) نصف مقاعد نواب الائتلاف في الكنيست (32 مقعداً)، وتشتبك هذه الأحزاب مع الليكود وزعيمه نتنياهو في قضيتين شائكتين هما:

1- قضية التعديلات القضائية والتي تصر تلك الأحزاب على المضي في تمريرها داخل الكنيست دون الالتفات إلى التظاهرات المستمرة ضدها في الشوارع الإسرائيلية منذ يناير الماضي.

2- ضرورة ردع الفلسطينيين ومنعهم من تهديد المستوطنين وحركة بناء المستوطنات، ورفض الضغوط الخارجية من جانب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية على نتنياهو لتجميد بناء المستوطنات.

اضطر نتنياهو لإبطاء عملية تمرير التشريعات الخاصة بالتعديلات القضائية لتخفيف الاحتقان الداخلي، وتقليل الضغوط الغربية المعارضة لتمرير هذه التشريعات بدون توافق واسع بين القوى السياسية الإسرائيلية. وعلى جانب آخر، شعر نتنياهو بخطورة توجه المستوطنين نحو تطبيق سياسة الردع التي يطالبون بها بأنفسهم بدلاً من انتظار قيام الحكومة الإسرائيلية بالمهمة، وهو ما تبدى في اقتحام المستوطنين المتكرر لبعض القرى الفلسطينية وإحراق المنازل والممتلكات الخاصة بسكانها.

كان على نتنياهو إذن أن يتفادى إمكانية قيام أحزاب الصهيونية-الدينية وأحزاب الحريديم بتنفيذ تهديدهم بالخروج من الائتلاف وإسقاط الحكومة بسبب القضيتين السابقتين، ومن ثم فقد اختار أن يقوم بالعملية العسكرية الجارية حالياً في جنين استجابة لدواعي أمنية أولاً، ولإرضاء شركائه في الائتلاف ثانياً، ومحاولة إقناعهم ثالثاً بتخفيف الاندفاع نحو إجراء التعديلات القضائية، إلى ما بعد انتهاء مهمة القضاء على الأخطار القادمة من الضفة الغربية بواسطة حركتي حماس والجهاد.

بالإضافة إلى ذلك، ثمة عامل آخر غير منظور يجب الحديث عنه وهو المواجهة مع إيران.

دور إيران في قرار إطلاق العملية

إذا ما افترضنا صحة أن قرار إطلاق العملية قد تحدد قبل عشرة أيام (أي في حدود 23 يونيو الماضي)، فإن لقاء زياد النخالة زعيم حركة الجهاد بالمرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي في طهران في 14 من الشهر نفسه (أي قبل أسبوع واحد من بدء تنفيذ العملية الجارية) كان عاملاً حاسماً في تصديق نتنياهو على العملية. ففي هذا اللقاء، قال المرشد: "إن الضفة الغربية هي ساحة المعركة الرئيسية للفصائل الفلسطينية ضد إسرائيل".

تصريح خامنئي أوجب رداً سريعاً من جانب إسرائيل، التي تضع في صدر أولوياتها منع أذرع إيران في المنطقة من إقامة مراكز لتصنيع الأسلحة والتدريب على تنفيذ عمليات عسكرية في عمق أراضي إسرائيل، وهي السياسة التي تنفذها في سوريا منذ سنوات عبر ضربات جوية مستمرة للقضاء على هذه المراكز مبكراً هناك، وبطبيعة الحال فإن ظهور هذه المراكز في الضفة العربية يعتبر خطراً أكبر من تلك التي تمثلها المحاولات نفسها داخل سوريا بالنسبة للدولة العبرية.

هل تتصاعد المواجهات مستقبلاً؟

حسب صحيفة "إسرائيل اليوم"، فإن حكومة نتنياهو قامت بإطلاع الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية على الخطوط العريضة لعمليتها الأمنية في جنين قبل أسبوع من شنها، وتعهدت بأن تكون عملية محدودة وقصيرة الأمد، وأن تقتصر على اعتقال أو قتل من تستهدفهم إسرائيل، ودون أن يصاحبها وقوع ضحايا من المواطنين الفلسطينيين الأبرياء.

رغم ذلك، أعلن وزير الدفاع يؤاف جالنت أن العملية ستستمر حتى تحقق أهدافها، وأن أي رد فعل من جانب الجهاد أو حماس من قطاع غزة، سيعني توسيع مدى العملية وأهدافها. أيضاً أوضحت عدة مصادر أمنية إسرائيلية أنه ليس من بين أهداف العملية احتلال مدينة جنين كما حدث عام 2002 في العملية المسماة آنذاك بـ"السور الواقى"، وأن القوات الإسرائيلية ستكتفي بحصار المدينة لإجبار العناصر المطلوبة على الخروج من مخبأها واعتقالها أو قتلها إذا ما بادرت بالاشتباك.

في كل الأحوال، ليس من المتوقع أن تتصاعد المواجهات طالما بقت حماس والجهاد بعيدتين عن التدخل المباشر، وطالما بقى وضع التهدئة على حاله مع قطاع غزة، ولكن سيظل عامل الوقت ضاغطاً على إسرائيل، فحصار مدينة فلسطينية وما يصاحبه من إرهاب جماعي لسكانها والتأثير على الحياة اليومية هناك لفترة طويلة، قد يؤدي إلى انفلات الأوضاع والتي يمكن أن تبدأ باحتكاكات مع متظاهرين فلسطينيين داخل مخيم جنين بواسطة القوات التي تحاصر المدينة، أو من خلال سقوط ضحايا أبرياء نتيجة الاستخدام المفرط للقوة من جانب الجنود الإسرائيليين أثناء هجومهم على بعض الأهداف داخل المدينة، وربما أيضاً إطلاق بعض الصواريخ من غزة صوب المدن الإسرائيلية، مما ينذر بتوسيع المواجهات وانهيار الوضع برمته.