أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

حلقة "تمرد فاجنر" قد تكون واحدة من فصل غير مكتمل في رواية حول روسيا لم تكتب تفاصيلها بعد. تركت مشاهد تلك الحلقة الكثير من التساؤلات والانطباعات ما بين تناقضات البداية والنهاية. وربما تكون جزءاً من رواية أخرى لم تتكشف تفاصيلها بعد. ورغم أن المبررات التي قدمها المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف– تجنب حمام دم- لإسدال الستار على الأزمة قد تبدو منطقية، لكنها غير مكتملة هي الأخرى كشأن باقي فصول الرواية.

أحد التساؤلات الانطباعية التي طرحت للتحليل على منصات إعلامية عالمية مؤثرة مفاده: هل بالفعل كانت الأزمة هي "تمرد فاجنر"، أم أنها كانت مجرد واجهة تخفي ورائها أزمات أخرى؟، وبخلاف ذلك، ما تركته الأحداث من انطباعات من بينها حالة الانكشاف التي تعرضت لها روسيا في الأزمة، وإلى أي مدى تواجه روسيا تحديات عديدة لا تتعلق بمشهد "فاجنر" وحده لكن بما سبقه وما سيلحقه؟.

حالة الانكشاف تلك جعلت كثيراً من المراقبين والمحللين يقارنون روسيا بدول العالم الثالث، بل مقارنة مشهد روسيا الآن بنهاية حقبة الرئيس السابق بوريس يلتسين، أول رئيس بعد الحرب الباردة التي تتجدد مظاهرها الآن في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو مقارنة التوتر ما بين "فاجنر" و"الجيش"، بالصراع في السودان ما بين الجيش والدعم السريع، وبالتالي: هل أصبحت روسيا العضو الدائم في مجلس الأمن والقوة النووية العظمى تقارن بدول العالم الثالث؟

هناك العديد من التساؤلات التي يمكن طرحها في هذا السياق، ومنها:

ما هى هوية "فاجنر" الحقيقية؟

لم يكن مشهد "فاجنر" في روستوف هو مشهد خاص بشركة مقاولات عسكرية BMC، كان مشهد "جيش صغير" يغلق مدينة براً وجواً، ويحرك قوافل باتجاه العاصمة، وحتى مشهد الوداع في روستوف الذي جرى في أسرع وقت يمكن تصوره كان لافتاً، حيث حُمِلت الدبابات والمعدات الثقيلة على جرارات، وكان 25 ألف عنصر في ناقلات الجند التي تتحرك لمغادرة المكان. قد تكون هذه هي سمات المليشيات والقوات الخفيفة وغيرها من تلك الأنماط من المكونات العسكرية، وبالتالي يطرح السؤال التالي نفسه: هل "فاجنر" هي شركة مقاولات عسكرية بالفعل أم أنها جزء من منظومة الكرملين (ذراع الكرملين) كما تشير العديد من التقديرات الغربية باستمرار، والذي يمتد خارج روسيا في ساحات مختلفة من العالم، لاسيما في الشرق الأوسط وأفريقيا، أم أنها باتت تشكل أحد التروس في المنظومة الروسية بشكل عام التي يصعب الاستغناء عنها، بعد أن استفحل دورها في تلك المنظومة لدرجة جعلتها تتحدى المنظومة العسكرية النظامية نفسها؟. وهنا، لابد من الإشارة إلى أن "فاجنر" باتت تحظى في روسيا بشعبية تفوقت على شعبية الجيش في بعض مراحل الحرب في أوكرانيا. بينما تنظر أوساط أخرى إلى أن "فاجنر" جزء من الأوليجارشية الروسية، وباتت تمثل أحد مراكز القوة في روسيا، بما يعني أنها شركة مقاولات عسكرية على الورق فقط.

إلى أى مدى كانت "فاجنر" تستعرض قوتها؟

عانت "فاجنر" خلال العملية العسكرية في باخموت، وفقاً لمزاعم قائدها يفيجيني بروجوجين، من نقص الذخائر فقط وليس نقص السلاح. قد يكون هذا الأمر قاتلاً لأي محارب، ودافعاً كبيراً لتشكيل رغبة انتقامية، وقد وصل الأمر بقائد "فاجنر" إلى حد استهدف وزير الدفاع سيرجي شويجو شخصياً في أكثر من مرة، وكان لمزاعم قائد "فاجنر" شواهد، لعل أبرزها أن باخموت لم تكن أصعب من سوليدار التي انتهت منها "فاجنر" في وقت قياسي، لكن السؤال هنا: هو كيف لـ"فاجنر"، التي كانت تشتكي من نقص الذخائر بالأمس، أن تتحرك بقوافل مسلحة نحو العاصمة موسكو بعد إعلان تمرد وعصيان مدني؟، هل تم تأمين الذخائر في روستوف، حيث تمكنت ليس فقط من احتلال مقر القيادة هناك بدون طلقة واحدة، وإنما إسقاط طائرات للجيش كانت تقترب من موقعها بما تمتلكه من مضادات الطائرات؟.

هل كان اختيار روستوف كمركز للتمرد اعتباطياً؟

لا يمكن تصور أن اختيار "فاجنر" روستوف كان اعتباطياً، فهي موقع استراتيجي مثالي لحركة من هذا النوع، حيث تمثل مركز قيادة عسكرية مزدوجاً، للقيادة الجنوبية الروسية، وقيادة للعمليات العسكرية في أوكرانيا، وظهيراً للقوات الروسية في دونباس، ومنها يمتد الطريق الرئيسي للعاصمة، وبها قواعد عسكرية ومطار .. إلخ. وهنا، فإن السؤال التالي يفرض نفسه: هل يمكن تصور معنى الاستيلاء على مركز عمليات بهذا الشكل بما فيه وبمن فيه، حيث ظهر بروجوجين هناك بأريحية وقام بتسجيل الفيديوهات عبر قناته على موقع "تليجرام"؟. فقد تحركت "فاجنر" بكل هذه القوة من دون اعتراض تقريباً، حيث لم يقابلها سوى عشرات العناصر من الجنود، الذين لم يكن بمقدورهم اعتراضها؟. وهل كانت روستوف في مسار "فاجنر" الطبيعي بعد الانسحاب من باخموت، أي أنه لم تكن هناك وجهة معلومة لـ"فاجنر" بعد إنهاء مهمتها في المعركة، خاصة وأنه لم ينسب لها مهام أخرى، وهي مشكلة أخرى علماً بأن المجموعة تضاعف عدد أفرادها خلال مشاركتها في الحرب الروسية على أوكرانيا.

كذلك قطعت "فاجنر" مئات الأميال وصولاً إلى تلك المنطقة ثم تحركت منها بحرية مئات الأميال الأخرى في اتجاه العاصمة، من دون اعتراض، وهو ما يطرح سؤالاً بشأن دور أجهزة الاستخبارات والمعلومات في هذه المرحلة قبل أن تتطور الأزمة. ويطرح ذلك سيناريو افتراضياً آخر ينصرف إلى أن الأزمة كانت مقصودة.

 ومن جانب آخر، هل كانت مقاصد بروجوجين فقط هي السيطرة على القاعدة انتظاراً لقدوم وزير الدفاع ورئيس الأركان أم أنه كان يبحث عن دلائل في مقرات العمليات في روستوف أيضاً تدعم حججه بالتقصير العسكري- من جانب قيادة الجيش- في أوكرانيا.

ما هو مصير "فاجنر" وهل سيتم الاستغناء عنها؟

أشاد بوتين في خطابه صبيحة يوم الأزمة بـ"بطولة فاجنر" في دونباس، وقال أن لدى "فاجنر" رصيداً سابقاً من الإشادات لدورها في السيطرة على شبه جزيرة القرم عام 2014. وإلى جانب أوكرانيا، تلعب المجموعة أدواراً متعددة في ساحات مختلفة بخلاف ما يعتقد أنها تدره من أرباح من الذهب والماس واليورانيوم من أفريقيا. لكن بعد الأزمة، يبدو أن "فاجنر" تجاوزت "الخطوط الحمراء" وفقاً لإشارات الرئيس المباشرة، وشكلت "خيانة" و"طعنة في الظهر"، وفرضت تهديداً غير مسموح به للدولة وللدستور.

 ومع ذلك، تغير الحال في المساء، حيث تم الصفح والتسامح عن كل تلك التجاوزات، وفهم من رسائل بيسكوف التلغرافية حول انتهاء الأزمة، أن بروجوجين سيتوجه إلى بيلاروسيا، دون الإفصاح عن مستقبله بعد هذه الخطوة، فهل سيتوجه إلي مينسك كمنفى اختياري في رحلة ذهاب بلا عودة، أم ماذا، حيث لا يعتقد أن بروجوجين شخص يمكن أن يقبل بمصير مجهول، أو أن ثمن إخضاعه هو مجرد رفع التهم التي وجهت إليه؟، وهل ذهب إلى بيلاروسيا لتأمنيه بعيداً عن بطش خصومه داخل روسيا؟.

على الأرجح، تم الاستماع هذه المرة إلى بروجوجين جيداً من جانب بوتين، وهو ما كان يريده قائد "فاجنر"، وستترتب عليه تداعيات في المستقبل، قد يكون من بينها إعادة هيكلة في الجيش، أو تصحيح أوضاع في أوكرانيا.

كذلك، يتضح من القرارات أنه ربما سيتم إذابة قوات "فاجنر" في المنظومة العسكرية بتوقيع اتفاقيات أو إدماج في الجيش، لكن على الأرجح لن يتم تفكيك "فاجنر"، فقد وصلت منظومة "فاجنر" إلى وضع يصعب تفكيكه، كما يعتقد أنه يصعب الاستغناء عن شبكة أدوارها الخارجية التي يملك قائدها بروجوجين مفاتيح أسرارها.

لماذا بدا أن بوتين يدير الأزمة بمفرده؟

على غير المعتاد، لم يظهر بيان عسكري من غرفة العمليات حول الوضع في أوكرانيا، على الرغم من إطلاق نحو 51 صاروخاً على العاصمة الأوكرانية كييف صبيحة الأزمة، وهي رسالة بالطبع من موسكو بأن الأزمة لن تعيق العملية العسكرية الروسية هناك، وبالتبعية كان السؤال عن وزير الدفاع مطروحاً، رغم ترجيح الرئيس لكفة الدولة والمؤسسات. من هنا، دار الجدل حول طبيعة ما الذي كان يجري وماذا سيجري في لقاء الإثنين 26 يونيو الجاري عندما سيلتقي بوتين بقادة الجيش؟، وقياساً على ذلك، لماذا تم نشر قوة مكافحة الإرهاب كأول قرار في العاصمة؟، هل كانت بديلاً لنشر قوات الحرس الرئاسي وقوات الجيش لتأمين العاصمة؟، لماذا أيضاً تم استدعاء القوات الشيشانية إلى العاصمة ومحيط روستوف؟.

دروس مستفادة

بخلاف هذه الأسئلة، ثمة العديد من الدلالات التي تشكل دروساً مستفادة من الأزمة ومنها على سبيل المثال:

1- حينما ظهرت أزمة داخلية واحدة في الداخل اهتزت صورة دولة تمثل قوة عالمية، وفيما يمكن تحمل الأزمات الخارجية وتداعياتها، فإن تحدياً داخلياً يمكن أن يكشف عن هشاشة أو ثغرات في المنظومة لا يمكن تحمله مهما كانت قوة الدولة، وللخروج من هذا المشهد سيكون هناك حاجة لاستعادة الثقة في المنظومة أولاً، وبناء على ذلك يمكن القول إن ما خفي في الرواية سيدلل عليه فيما هو قادم في المشهد الروسي، وستحتاج روسيا إلى إعادة تقييم من منظور مختلف لكافة الملفات.

2- تشكيل كيانات موازية للجيوش وتنمية قدراتها ومنحها أدواراً كبرى في مهام صعبة سيخلق كماً من التحديات لا حصر لها، فقد أصبحت "فاجنر" أقوى من الجيش في الخارج في المواقع التي لا يمكن للجيش أن يتواجد فيها بدون غطاء شرعي، ومع ذلك تتمدد "فاجنر" في الخارج، وتبرم عقوداً مع أنظمة (أفريقيا الوسطى، وروندا، ومدغشقر وغيرها). كما أصبحت منافساً شعبياً للجيش في الداخل بعد منحها دوراً أوسع وعلنياً في ساحة الحرب في أوكرانيا، بشكل حولها إلى قوة قتال رئيسية للمرة الأولى.

3- إدارة الأزمة قد تتطلب صورة مختلفة عن الإيحاء بأجواء من الشكوك في كل المنظومة، وظهور علامات التوتر على القيادة قد يضاعف من ذلك، فلا شك أن هناك ثغرات في مشهد إخراج الأزمة بدءاً من ظهور بوتين في خطاب متلفز، إلى عدم إحاطة الكرملين بكل ما يجري، إلى استدعاء البدلاء (القوات الشيشانية).

 4- يمكن التسليم بأن روسيا مرت بأزمة صعبة سرعان ما تم احتواؤها، لكن تكرار الأزمات قد يعني مأساة كبيرة لروسيا، ولا يمكن تخيل حجم الفوضى إذا ما عاد الزمن إلى مشهد نهاية الحرب الباردة، ولا شك أن خروج روسيا من المنظومة الدولية رغم أي انتقادات توجه لدورها في أوكرانيا القابل لإعادة التقييم، سيشكل معضلة عالمية.

في الأخير، يمكن القول إن ما تبقى من فصول الرواية ستظهر مؤشراته وتداعياته لاحقاً، ربما على الأرجح ستكون هناك دراما روسية جديدة ستغير وجه التصورات والانطباعات القائمة حول الأزمة، وأبعادها إلى درجة ربما نجد معها أن مشهد "تمرد فاجنر" لم يكن سوى افتتاحية في تلك الرواية.