سفير/ د. جعفر كرار أحمد

باحث في مركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية، جامعة شنغهاي للدراسات الدولية

 

"يمكن للحضارة أن تزدهر من جذور كثيرة. يمكن للآلهة أن تحمل أسماء كثيرة… لا أحد منها يملك المفتاح. ليس ثمة أي شعب مختار" (فوسكو مارايني).

لن تكون مبادرة الحضارة العالمية التي أطلقها الرئيس الصيني "شي جينبينغ" في 15 مارس 2023 خلال الاجتماع الرفيع المستوى لحوار الحزب الشيوعي الصيني مع الأحزاب السياسية العالمية المبادرة الصينية الأخيرة، حيث أدركت القيادة الصينية والمفكرون الصينيون، منذ أن هزمت الصين القوى الأجنبية وحررت نفسها من قبضة القوى الأجنبية والإقطاع المحلي بعد صراع طويل، وأنهت عقود الإذلال الطويلة وخرجت للعالم كقوة سلمية موحدة وصاعدة تختزن الكثير من التجارب، أن مستقبل الشعب الصيني مرتبط شديد الارتباط بمستقبل العالم بل بالكوكب الذي نعيش فيه. لقد أدركوا أهمية مساهماتهم لصنع السلام والتنمية والاستقرار منذ وقت مبكر من قيام جمهورية الصين الشعبية في أكتوبر عام 1949م.

لقد تفهم قادة الصين الجديدة بأن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وهبوب رياح حركات التحرر والاستقلال الوطني وازدياد وتيرة الحرب الباردة التي لاحت في الأفق بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي ورغبة غالبية البلدان الآسيوية والأفريقية وأمريكا اللاتينية في علاقات جديدة مع كافة دول العالم بما فيها الدولة المستعمرة السابقة، علاقة في مناخ معقول من السلم والتعاون والاحترام المتبادل. وكان لابد من ابتكار مفاهيم جديدة بعد تلك الحرب الضروس ومعارك الشعوب ضد مستعمريها، مفاهيم وأطر حديثة تمنح العالم وشعوبه خارطة طريق جديدة للتعايش وبناء عالم ما بعد الحرب. في هذه الظروف استدعت الشعوب حكمتها وميراثها القديم وخرج من آسيا أول مفهوم للتعايش بين الأمم والشعوب، حيث طرح رئيس مجلس الدولة الصيني الأسبق "شو إن لاي" لأول مرة ما أُطلق عليه لاحقاً المبادئ الخمس للتعايش السلمي وذلك في ديسمبر1953 خلال اللقاء الذي جمعه مع وفد الحكومة الهندية الزائر الى بكين. وقد دعمت الهند بكل ثقلها المعروف المبادرة الصينية يومذاك. لقد قامت مبادرة "شو إن لاي" الجديدة يومذاك على الاحترام المتبادل للسيادة وسلامة الأراضي، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للآخر، والمساواة، والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي.

وسرعان ما أصبحت هذه المبادئ والقيم مجموعة من الأعراف التي تحكم العلاقات الدولية والمعترف بها على نطاق واسع، حيث اعترفت بها حركة عدم الانحياز، وأدرجتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1970 في إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة. تلك كانت أول مساهمات الصين الجديدة الناهضة لتوها لعالم يسوده السلم والتعاون والمصير المشترك. لم تنته مساهمات الصين عند هذا الحد، حيث تواصلت مساهمات ومبادرات الصين لتطرح للعالم إنتاجها الفكري الفريد، فطرحت نموذج تنميتها الجديد القائم على خصائصها وتجربتها وتراثها وتاريخها وتجارب البشرية جمعاء، وتقدمت بمبادراتها في مكافحة الفقر، ومبادرة التنمية العالمية، ومبادرة أمن المعلومات وبالطبع مبادرة الحزام والطريق أهم وأضخم المبادرات الإنسانية والاقتصادية في الخمسمائة عام الأخيرة. لقد كان جوهر كل هذه المبادرات التعايش والتناغم والتعاون بين كل الأمم.

مرة أخرى، والعالم يتجه نحو حرب باردة جديدة وتنتشر الفوضى من لبنان إلى اليمن إلى أوكرانيا إلى السودان، وتهب الرياح السموم الجديدة؛ رياح الحرب الباردة من جديد وتتعزز التحالفات والتكتلات في آسيا وأوروبا ويحتد الصراع على الموارد في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وتهتز أسس الاقتصاد العالمي وتتسع الشقة بين الأغنياء والفقراء ويبدو وكأن العالم على حافة حرب عالمية نووية إن حدثت لن تتفتح زهرة جديدة على وجه هذا الكوكب قبل 300 عاماً.

في هذا الظرف الصعب، تقدم الرئيس "شي جينبينغ" في 15 مارس 2023 بمبادرته الجديدة، "مبادرة الحضارة العالمية" التي هدفت إلى استرداد مفاهيم التعايش السلمي ومنع الحروب وتخفيف التوتر الدولي الحالي. لقد كانت أشبه بمبادرة للسلم ونداء ضد الحرب ودعوة للتعايش والتعاون بين الأمم مستدعية تاريخ التسامح الطويل بين الحضارات القديمة. لقد أكدت المبادرة على التالي:

1- علينا أن ندعو سوياً إلى احترام تنوع الحضارات في العالم، والالتزام بالمساواة والمنفعة المشتركة والتحاور والتسامح بين الحضارات، وتجاوز الفوارق والصراعات بين الحضارات والتفوق الحضاري عبر التواصل والتسامح بين الحضارات. 

2- علينا أن ندعو سوياً إلى تكريس القيم المشتركة للبشرية المتمثلة في السلام والتنمية    والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية، التي تعد من التطلعات المشتركة لشعوب العالم، فمن المهم أن تبقى دولنا منفتحة لفهم محتويات القيم لدى الحضارات الأخرى، بدلاً من فرض القيم والأنماط لنفسها على الغير أو ممارسة المجابهة الأيديولوجية.

3- علينا أن ندعو سوياً إلى الاهتمام بتوارث الحضارات وإبداعها، وتكريس القيمة العصرية لتاريخ كافة الدول وثقافاتها بشكل كامل، والدفع بتحقيق التحول المبتكر والتطور المبدع للثقافات التقليدية المتميزة لكافة الدول في عملية التحديث.

4- علينا أن ندعو سوياً إلى تعزيز التواصل والتعاون الدوليين في المجال الإنساني والثقافي، والتباحث في بناء شبكة التعاون للحوار بين حضارات العالم، وإثراء مقومات التواصل وتوسيع قنوات التعاون وتعزيز التعارف والتقارب بين شعوب العالم، بما يدفع بتطور الحضارة البشرية وتقدمها. 

هذه أهم الأفكار التي طرحها الرئيس الصيني "شي جينبينغ" في سياق مبادرة الحضارات العالمية، وهي كما نرى إطاراً عاماً طرحه الرئيس شي وطرحته الصين على قادة ومفكري مختلف الدول لتطويره والدفع بأفكار جديدة في إطار جوهره الداعي إلى ائتلاف وحوار وتعاون الحضارات كل الحضارات.

أهمية المبادرة

كما رأينا من جوهر هذه المبادرة بأنها دعوة للسلام والتنمية والعدالة والإنصاف لكل شعوب العالم، ودعوة لاحترام التنوع الحضاري الذي زخر به هذا العالم، حيث قامت الحضارات على ضفاف الأنهار والمراكز التجارية على مر التاريخ واحتفظت بخصوصيتها ومدت ذراعيها للحضارات المجاورة للتعاون والتفاهم.

هذه المبادرة تهدف إلى فتح ممر أخضر للتواصل بين الحضارات والتغلب على الحواجز التي بينها وتبادل المعارف والتعلم من بعضها البعض. كما تدعو هذه المبادرة إلى الاتجاه نحو ابتداع إطار جديد لقيم مشتركة للإنسانية جمعاء وإقامة شبكة تعارف حضارية منفتحة وتوسيع قنوات التعاون واضعين في الاعتبار أنه لا توجد حضارة تتفوق على حضارة أخرى، فهكذا علمنا التاريخ.

وفي الواقع، فإن مبادرة الحضارات العالمية تضخ طاقة جديدة في مجرى نهر الحضارات الإنسانية وتدفع بتناغم حميد بين الحضارات لمصلحة الإنسان والطبيعة وسلام الكوكب ككل وتخلق بيئة عالمية يسودها التعايش السلمي بين مختلف الحضارات والأمم وتراجع رايات الحرب والاستعلاء الحضاري. وبإيجاز، فإن مبادرة الحضارة العالمية هي نداء من أجل التعايش السلمي، وتعزيز الحوار بين الشعوب، وتعزيز التبادل الثقافي والفكري بين الحضارات، والتمسك بالقيم، وتفهم تقاليد وأنماط الحضارات المختلفة واحترامها، وتحقيق الاستفادة القصوى من الأنماط المختلفة لحضارات العالم، وصنع حضارة بشرية سلمية قائمة على التعاون، وتبادل المصالح، وتحقيق رفاهية الشعوب، وتكريس القيم النبيلة، واحترام حقوق الشعوب فى تقرير مصيرها، وعدم تدخل دولة في شئون دولة اخرى، أو فرض هيمنتها وسطوتها على دولة أخرى، وبناء التوافق السياسي، وتعزيز التعاون والمواءمات الاستراتيجية التي تحقق آمال الشعوب، وإرساء أسس سليمة لبناء تقدم الحضارات، وتعزيز الاستفادة المتبادلة بين مختلف الثقافات والحضارات، والعمل على الأخذ بالدول النامية ومساعدتها لتحقيق طموح شعوبها لأن ذلك سيعود بالسلام على البشرية جمعاء.

وفي حقيقة الأمر، فإن المبادرة التي أصبحت إضافة مهمة ونداء دولياً وجد الكثير من الاهتمام والدعم، لم تكن الدعوة الوحيدة، فقد سبقتها محاولات ومقاربات سابقة، حيث أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (رئيس الوزراء آنذاك) ورئيس الوزراء الإسباني السابق خوسيه لويس رودريغيس ثاباتيرو، مبادرة تحالف الحضارات في عام 2005، وقد تحولت هذه المبادرة بالفعل إلى مبادرة أممية وعقدت هذه المبادرة عدة منتديات ناجحة وشكلت إضافة مهمة في نهر الحوار الحضاري المتدفق.

وبالرغم من الجهود الكبيرة التي قام بها الكثير من القادة والمفكرين لمواجهة خطاب الكراهية والصدام بين الحضارات، وبالرغم ن النجاحات الكبيرة للقائمين على مبادرة تحالف الحضارات، إلا أن خطاب الكراهية لا يزال سائداً والنزاعات لا تزال تنتشر، بل إن قدرة الإنسان للتدمير أصبحت أكبر بكثير من قدرته على البقاء على وجه هذا الكوكب إذا انتصر خطاب الكراهية والحرب السائد الآن. في هذا المناخ، ظهرت المبادرة الجديدة التي لا تتعارض مع المبادرات الأخرى التي ترفع رايات الحوار وتصب في ذلك النهر الطيب.

المبادرة في السياق العربي- الصيني

على ضوء ذلك، يمكن القول إن مبادرة الحضارات العالمية وقبلها مبادرة تحالف الحضارات، ومفهوم المصير المشترك للبشرية جمعاء، كلها دعوات لهزيمة خطابات الكراهية والحروب والدفاع عن السلم والكوكب الذي نعيش فيه. فما هو موقع العرب من كل هذه الدعوات والمبادرات ومن بينها مبادرة الحضارات العالمية؟

في حقيقة الأمر، فإن هذه المبادرات تخصنا نحن شعوب المنطقة العربية، فقد أنتجنا عبر التاريخ حديقة واسعة للحضارات، حيث من المعلوم أن الوطن العربي قد شهد في تاريخه قيام عدة حضارات في بقاع مختلفة منه، وقد انسجمت وتكاملت هذه الحضارات العربية القديمة فيما بينها، وكانت قد تأثرت وأثرت في الحضارات التي عاصرتها في العالم القديم والحضارات اللاحقة لها، ومن أهم الحضارات العربية القديمة حضارة مصر القديمة، والحضارة السومرية، والحضارة البابلية، وحضارة الأنباط، والحضارة الكوشية في السودان القديم، والحضارة العربية الإسلامية الذي شمل تأثيرها معظم بقاع العالم. كما استضافت الأرض العربية كل الديانات السماوية التي كانت، ولا تزال، تدعو إلى الحوار والتسامح وكان المصير المشترك للبشرية أهم راياتها على الإطلاق.

إذن هذه المبادرة تخصنا، وتخصنا لأسباب كثيرة منها أن أول دعوات الحوار والتعايش بين الحضارات قد خرجت من الأرض الصينية والعربية وذلك عندما انتعشت التبادلات الثقافية بين الحضارتين العربية والصينية خلال أسرة تانغ الملكية (618م- 907م)، إذ أصبحت العاصمة الإمبراطورية "شانغ آن" (شيآن) مثل بغداد مركزاً ثقافياً عالمياً جاذباً، حيث وصل العرب والسريان والفرس إلى هذه المدينة وكانوا يلتقون مع الباحثين الكوريين واليابانيين والصينيين والهند الصينيين للمداولة في الدين والأدب والثقافة في الجواسق الأنيقة في القصور الإمبراطورية في العاصمة "تشانغ آن" (شآن الحالية). لقد كان في تقديري هذا الحدث أول حوار حضارات في العالم القديم وأول شكل من أشكال النضوج والتعايش بين الحضارات. كما ابتدرت الحضارتان العربية والصينية حواراً طويلاً ورفيعاً طوال 15 قرناً تلاحقت فيها الأفكار والقيم وتبادلتا التأثير وحرصتا على بناء نظام عالمي ميزته الأساسية التعايش والسلام، حيث منحت الحضارتان العربية والصينية في ذروة قوتها العالم القديم ألف عام من السلام والاستقرار والتلاقح الحميد بين الحضارات. لقد أطلقت الصين ندائها الجديد في وقت يمر فيه العالم بوقت صعب وهو نداء لتعايش الحضارات والأمم في ظل رايات السلم والتعارف والتعايش وكلها قيم من صميم معتقدات العرب وأحد دروس تاريخهم وحضاراتهم وأديانهم. هذه المبادرة تـخصنا.